العلاقات بين المسلمين وسواهم
مفعول الممارسات الاستفزازية والسياسات العدوانية
رؤية تحليلية – نشرت في موقع إسلام أون لاين يوم ٢٥ / ١٢ / ٢٠١٠م
رؤية تحليلية
مصادر توتر معاصرة – ممارسات استفزازية – التطرف والمتطرفون – إزالة الفساد والإفساد
انطلقت شرارة الثورة الشعبية في تونس ولا يمكن فصلها عما تراكم من الغضب نتيجة الاعتداءات الأجنبية فضلا عن الغضب من الاستبداد والاستغلال داخليا، وهذه أسباب تستدعي وقفة هادئة تحول دون انزلاق العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين إلى التوتر والصدام على مستوى النخب والشعوب، فهذا من أخطر ما تصنعه الاعتداءات المنحرفة بمختلف أشكالها.
ومن الصعوبة بمكان الحديث عما توجبه المنظومة العقدية والقيمية في الإسلام بصدد التعامل مع غير المسلمين لا سيما من المسيحيين، فما نعايشه وعايشناه في فلسطين والعراق وأفغانستان والشاشان والبلقان، جميعه يثير من الغضب ما يطغى في الواقع المعاش على الجانب النظري كما يقال.
والتردد يعني أن تتحقق أهداف صنّاع آليات التقتيل والطغيان، بل وهذا في صميم ما نفهمه من الأسلوب القرآني المعجز على مدى العصور، حينما نقرأ: (وقالت طائفة..) (ودّت طائفة..) (ليسوا سواء..) (إن منهم لفريقا)؛ ففي جميع هذه المواضع وأمثالها يعلمنا القرآن الكريم تجنّب التعميم، مهما كان جرم فريق من الطرف الآخر كبيرا، بل إن التعميم يعرقل القدرة على التلاقي مع المنصفين في مواجهة الطغمة المعادية.
مصادر توتر معاصرة
الحاجة إلى استقرار علاقات قويمة متوازنة بين المسلمين والمسيحيين عموما وداخل البلدان الإسلامية تخصيصا حاجة حيوية، عقدية ومعيشية وحضارية، يمكن تحقيقها عبر الوعي بوجود اختلافات عقدية ومنهجية، ورؤى تاريخية متباينة، قديمة وحديثة، وليس عبر تجاهلها أو تمييعها أو القفز من فوقها أو اعتماد تصور وهمي بإمكانية إزالتها من خلال وسائل الحوار الضروري؛ فميزته كامنة في تثبيت قواعد للتعامل رغم الاختلافات، وليس في طرح تصورات متوهمة تقول باستحالة التعامل إلا بعد إزالة تلك الاختلافات.
المرفوض هو التوترات والمواجهات وتبادل الاتهامات افتراءً وتعصبا، والمرفوض توظيف اختلاف عقدي في إثارتها، وليس المرفوض بالضرورة تجنب ذكر الاختلافات، إذ يستغل المتطرفون من كل جهة، الجهل بحقيقتها عبر نشر أطروحات منحرفة توظفها لصنع التوترات صنعا، بل إن الأمر الطبيعي هو وجود تلك الاختلافات، فهذا ما يعنيه التعدد العقدي، والأمر المفيد هو طرحها المنهجي، فهذا ما يمنع استغلالها المتطرف.
إنّ كثيرا من الجهات الفكرية والكنسية تطرح في أوساط المسيحيين وعلى الملأ رؤاها حول الإسلام، وهذا شأنها، فإن تجاوزت حقائقه لن يبقى ذلك طويلا بل ينكشف آجلا أو عاجلا، وإن كثيرا من الجهات الفكرية والتنظيمية الإسلامية تطرح في أوساط المسلمين وعلى الملأ رؤاها حول المسيحية، ومن يتجاوز الحقائق لن يصمد ما يطرحه طويلا، بل ينكشف آجلا أو عاجلا، إنما لا تستقر العلاقات على أساس الجهل بالآخر، وليس طبيعيا اعتبار ذلك ذريعة لحملات وحملات مضادة، بل ينبغي أن يكون المسلم واعيا بدينه، عالما بما يتميز به، مدركا لمواطن الاختلاف بينه وبين سواه، والسعي لتثبيت قواعد نزيهة متوازنة للتعامل بين طرفين مختلفين، عقيدة ومنهجا، بحيث يتقبل كل منهما وجود الآخر كما هو، ويعمل على التفاعل معه في مواطن الاهتمام المشترك، لتحقيق أهداف متوافق عليها من خلال أبعاد إنسانية مشتركة لا تتعارض مع الاقتناعات الدينية الذاتية لكل طرف مع نفسه من جهة أخرى.
لا يلام أهل الغرب أو من يصنع ذلك منهم على ما يطرحونه (في حدود المشروع فقط) تحت عنوان احترام حقوق الأقليات من المسيحيين في بعض البلدان الإسلامية، فما يرونه تضامنا بين أهل الديانة الواحدة من وراء الحدود، يراه المسلمون كذلك عبر التضامن فيما بينهم، بما يشمل الأقليات والفئات السكانية المسلمة في بلدان ذات غالبية من المسيحيين، والأصل إسلاميا أن يضيفوا إلى هذا التضامن العقدي تضامنا واجبا مع الإنسان، جنس الإنسان، على أسس الكرامة والحق والعدل.
ممارسات استفزازية
الأغراض السياسية عدوانية، والممارسات الاستفزازية بلغت حد الهمجية العلنية، وأصبحت البلطجة الدولية علنية استعراضية. ولا يكاد يوجد بلد إسلامي غير مستهدف، بجهود خارجية أو عن طريق تحرك أنظمة تبعية سياسيا وعسكريا في اتجاهات انتحارية مدمرة.
ويتضاعف مفعول الأساليب الاستفزازية، عبر تورط أجنبي في التحرك ضد الغالبيات المسلمة داخل بلادها، وكأن المطلوب هو دفعها دفعا إلى ردود فعل تنطوي على الخروج عن تعاليم إسلامها الحنيف بصدد التعامل القائم على أساس الكرامة والحق والعدالة مع الآخر.
بل يوجد من يروج لقاعدة المعاملة بالمثل في غير موضعها، فالقاعدة بمضمونها الإسلامي تقول:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين}َ
فالمستهدف (عليه)هو المعتدي ولا يقبل ذلك التعميم على كل من يحمل هويته عقديا أو وفق أي انتماء آخر:
{لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
التطرف والمتطرفون
الإسلام ينطوي على الجانب السياسي كسواه من الجوانب، ولكن لا تعني هذه الميزة أن تعامله مع الحقوق والحريات ومع كل ما يمس الكرامة الإنسانية يقوم على أساس حصرها في نطاق المسلمين، بل هو يفرض فرضا الدفاع عن حقوق الإنسان، سيان ما لونه أو دينه أو لغته أو جنسه أو موقعه، انطلاقا من تلك القيم الأساسية الثلاث، الكرامة والحق والعدل.
لهذا يقول النص القرآني (ولقد كرّمنا بني آدم) ولهذا تضمنت الوثيقة النبوية لنصارى نجران التعهد الساري المفعول إلى يوم القيامة، بالحفاظ على أشخاصهم ورهبانهم وكنائسهم وصلبانهم، والتعهد بترميمها، بل والتعهد بالدفاع عنها وعنهم من أي عدوان تتعرض له أو يتعرضون له، ولهذا قال الفاروق (الناس) ولم يقل (المسلمين) في كلمته المعروفة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ولهذا تشمل تعاليم الإسلام تجاه الجار ما لا يميز بين جارٍ مسلم وغير مسلم، ويوجد المزيد لمن يريد المزيد.
إن إفساد الأسس الإسلامية الإنسانية المتحضرة للعلاقات بين المسلمين وغيرهم داخل البلدان الإسلامية هو جزء لا يتجزأ من مخططات وأهداف سياسية أجنبية، تنطوي على هدف نشر الهيمنة أو ترسيخها على هذه البلدان بكافة فئاتها السكانية دون تمييز، ويكفي دليلا على ذلك التنويه بتحول الدفاع عن المسيحيين إلى استهدافهم مباشرة، أو بالصمت المشين في الغرب عن استهدافهم، كلما بلغت الهيمنة الأجنبية درجة متقدمة من الرسوخ والعنف، كما هو الحال في فلسطين وسواها، وهو ما يمكن أن يسري آجلا أو عاجلا على المسيحيين في أقطار أخرى، بما في ذلك العراق حيث يتعرض المسيحيون فيه إلى ما لم يتعرضوا لمثله قبل الاحتلال وما صنعه من إرهاب ونشره من ألوان الفوضى الهدّامة.
ليست المشكلات التي تواجه العاقات بين المسلمين وسواهم ناجمةً عن وجود غالبيات مسلمة وأقليات أخرى في بلدان يوجه الإسلام مختلف مناحي الحياة والحكم فيها، ويُعتمد عليه في صناعة القرار على كل صعيد، بل على النقيض من ذلك تماما، هي مشكلات ولدت ونشأت وتزداد انتشارا، بصورة متوازية مع تغييب الإسلام منذ عقود عديدة، عن معظم مناحي الحياة وعن قطاعات السلطة وصناعة القرار، بل وتعرضه وتعرض دعاته للحصار والتهميش والملاحقة والقمع بمختلف السبل والأساليب، حتى بات ما تتعرض له الغالبيات المسلمة داخل ديارها هذه، أضعاف ما يصيب الأقليات المسيحية في البلد المشترك معها.
إذا كانت المسؤولية عن هذه المشكلة كامنة في مظالم تقع، فالظلم في مقدمة ما حرمه الإسلام وحاربه وفرض العمل على إزالته سيان أين يظهر وكيف يظهر ومن يصيب من جنس الإنسان، وما نشأت المظالم واستفحلت بمختلف أشكالها المعاصرة إلا عبر ما صنعته أوضاع استبدادية مرتبطة بالغرب المسيحي العلماني، ومتناقضة جملة وتفصيلا مع الإسلام وعدالته.
وإذا كانت المسؤولية كامنة في تعصب وتطرف، فإن التعصب والتطرف في مقدمة ما قضى الإسلام عليه منذ نشأته الأولى، وثبت رفضه وفرض الحيلولة دونه إلى يوم القيامة، وحرم ما يؤدي إليهما من تعنت وتشدد وتنطع، مع سريان ذلك على العلاقات ما بين المسلمين، وعلاقاتهم مع أصحاب الأديان والاتجاهات والأجناس والانتماءات الأخرى، حتى مع قومٍ بينهم وبين المسلمين شنآن (كراهية وعداء)، وما ظهر التعصب والتطرف في الأقطار الإسلامية على نحو مستفحل فكرا وممارسة، إلا في حقبة تغييب الإسلام إلى درجة واسعة النطاق.
إزالة الفساد والإفساد
لا يمكن وقف عملية إفساد العلاقة بين المسلمين وسواهم دون توقف العدوان الأجنبي على البلاد ذات الغالبيات المسلمة، ولا عن طريق شعارات وأهداف تتجاهلها، أو عدوانية تجاه الآخر، ومثال ذلك:
١- تجييش الأقليات في مواطن الغالبيات المسلمة من جهة، أو الدعوات إلى التخلص منها من جهة أخرى. ولئن وجد من يدعو باسم الإسلام إلى ذلك فكأنه يدعو إلى التخلص من أقليات مسلمة أو يبرر الدعوات للتخلص منها.
٢- انتظار نتائج الحوار بين المسلمين وسواهم، لاسيما إن كانت جولات حوار حول الاختلافات العقدية وسواها، وذاك مما يلفت الأنظار عن جوهر المشكلة، أي التعايش رغم الاختلافات.
٣- الاستغناء عن المنطلق الديني لحساب سواه في البحث عن رؤى التعايش وضبط العلاقات، لا سيما في الحديث عن العنصر الوطني بدعوى المواطنة، فالمواطنة تقتضي تكامل المنطلقات المتعددة وليس إلغاء أحدها، ولا يمكن إلغاؤه أصلا.
٤- ويسري ذلك أكر على إلغاء المنطلق الديني لحساب العلماني، فالواقع أن أشد ألوان التعصب والتمييز العنصري وتغليب موازين القوة على معايير الكرامة والعدالة والحق، نشأت وما تزال تفعل أفاعيلها، بعد هيمنة العلمانية في بلاد نشأتها الأولى، ثم امتداد تأثيرها عالميا على حساب الأديان جميعا، فصنعت من الكوارث قتلا في الحروب وقتلا دون حروب، أضعاف ما يقول العلمانيون بوقوعه في العصور المظلمة الأوروبية في ظل انحراف الكنيسة عن المبادئ الدينية وسماحتها وعدالتها.
لا بد من جهود كبرى لتعود الأمور إلى نصابها، فلا توجد عصا سحرية لإصلاح ما جرى إفساده عبر جهود استمرت عقودا أو قرونا مضادة للإنسان بمختلف انتماءاته، انطلاقا من نزعات الصراع والعنصرية وهيمنة القوة المادية على ما سواها.
إن إفساد العلاقات من وراء الانتماءات الدينية استفحل جنبا إلى جنب مع إفساد العلاقات – بغض النظر عن تلك الانتماءات – ما بين أثرياء ومحرومين، وأقوياء ومستضعفين، وبيض وملونين، فليست المشكلة في الانتماء الديني بل في ادعاء الانطلاق منه لتوظيفه لأغراض تتناقض مع ما يفرضه الانتماء على أصحابه.
بل إن وسائل الحوار والتوعية والتسامح وما شابه ذلك لتحسين العلاقات البشرية وضبطها، لا تؤتي ثمارها ما لم تكن المنظومة الجامعة لها هي المنظومة الدينية نفسها، بالعودة إلى التعاليم الدينية مطهرة من شوائب من انحرف عنها وإن ادّعى تمثيلها. وإن الإسلام تخصيصا يدافع عن حرية العقيدة في كل مكان ولصالح جنس الإنسان وهذا ما يعنيه وجوب الجهاد لمنع الفتنة، فتنة الظلم والظالمين بحق البشر أجمعين، فإن لم ينتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب