السقوط الأمريكي حضاريا في العراق
تلاقي الاستبداد والعدوان ضد الإنسان
رؤية تحليلية – الإجرام إجرام سواء كان استبدادا أو عدوانا أجنبيا وسواء كان القتل حديثا بقنبلة ذكية أو عتيقا من العصر الحجري
رؤية تحليلية
لا نزال نسجل بعض الذيول الدموية للصراع الذي صنعه الاحتلال الأمريكي للعراق وما ترتب عليه بعد أن صنع الاستبداد التربة الملائمة للعدوان الأجنبي؛ في نيسان / أبريل سنة ٢٠٠٣م كانت البداية، عندما انتصرت أكبر قوة عسكرية هجومية في العالم على بقايا قوة عسكرية سبق إنهاكها في حرب جمعت ٣٠ دولة وراء الهيمنة الأمريكية العدوانية، وتلاها حصار همجي جائر طوال ١٢ سنة، ثم كان إخراج النصر العسكري “المخزي الكبير” بأسلوب يحاكي مشاهد هوليوود عبر تحطيم تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين وسط بغداد، يوم ٩ / ٤ / ٢٠٠٣م، ثم قتله إعداما بعد فترة من الزمن.
كان سقوط العراق سقوطا عسكريا، يقابله سقوط وهم أمريكي كان يزعم أن أهل العراق سيستقبلون الدبابات الأمريكية والجنود والأتباع الذين حملتهم من المنفى، ويقابله سقوط أوهام أمريكية أبعد مدى بكثير، وكانت تتردد بصيغة نظريات نادى بها آنذاك بوش الابن ومعه عصبة “المحافظين الجدد” وأعلنت تحت عنوان “عقيدة عسكرية” من عناصرها: إشعال حربين كبريين متباعدتين في وقت واحد، وشن حروب استباقية، وخوض حرب مفتوحة، وشمولية الحرب على الإرهاب.
تلاقي الاستبداد والعدوان ضد الإنسان
هو سقوط عسكري لنظام استبدادي في العراق يقابله سقوط أمريكي حضاريا بعد أن لوثت الهيمنة الأمريكية المتعجرفة دعوات الديمقراطية في زنازن “أبو غريب”، واعتقلت القانون والضمير في “جوانتانامو”، وخصصت للحريات أشكالا مبتكرة من ألوان التعذيب في “معتقلات سرية”، بل سددت الطعنات المتوالية لقيمة جنس الإنسان عبر ما صنعه العدوان بالبشر من ملايين المشردين، وملايين الجرحى والمعوقين، ومئات الألوف من القتلى، وعشرات الألوف من الأسرى والمعتقلين، فضلا عن تغييب الألوف من العلماء ضحايا الاغتيال والتشريد.. مع كل ما رافق ذلك كله من آلامِ أيتام وأرامل وثواكل ومقهورين.
إنه حدث السقوط المدوي لأقنعة مزخرفة أتقنت أفلام هوليوود نسجها ووجدت من يروّج لها لأمركةِ الأذواق والأفهام، واستهوت من يلقون ستار النسيان على ما كان من فجور في هيروشيما وناجازاكي وفيتنام وباناما وخليج الخنازير وغيرها. وليس هذا سوى قليل من كثير من السجلات المتتابعة تاريخيا في السجل “الحضاري” الأمريكي وهو مما جعل السقوط الأمريكي حضاريا سقوطا مدويا يطغى على سقوط بغداد عسكريا في نيسان / أبريل ٢٠٠٣م.
مع الإنسان العراقي
لئن كانت الهزيمة العسكرية من نصيب نظام استبدادي في العراق استحال عليه بسبب انحرافه أن يجمع من ورائه الطاقات الشعبية العراقية الكبرى لمواجهة عدوان خارجي، فهذا شأن الاستبداد في كل مكان وزمان، ولم تكن هذه هي الهزيمة العسكرية الأولى من نوعها، ويمكن أن تتكرر كلما تكررت أسبابها، ما دامت الأنظمة الاستبدادية عاجزة عن التعلم من الدروس التاريخية ولو ظهرت للعيان بين يديها مباشرة، فالاستبداد لا يتقن سوى القمع الإجرامي والفساد الفاجر.
هي هزيمة عسكرية للنظام وليست للإنسان في العراق، وسيعود آجلا أو عاجلا ليمسك زمام تجديد المسار الحضاري الذي عرفه العراق منذ ألوف السنين قبل ولادة الولايات المتحدة الأمريكية ولادة مشوهة على جماجم الملايين من الهنود الحمر.
لم تكن تلك الهزيمة العسكرية مفاجئة رغم التمنيات بالصمود، وقد تلاقى على تلك التمنيات خليط جمع أنصار التيارات اليسارية، مع أصحاب المنطلق الإسلامي، مع كثير من أهل البلاد الغربية، انطلاقا من الدفاع عن مهد الحضارات القديمة وعن قيمة الإنسان في عالمنا المعاصر.
إن ما عايشناه تحت عنوان “سقوط بغداد” يثير في الأعماق الإحساس بالألم والأسى ولكن يثير في الوقت نفسه الأمل في أن يكون نقطة تحول في مجرى التاريخ البشري، تفتح الأبواب لأداء مهمة استعادة الإنسان وقيمة الإنسان حضاريا، وهي مهمة أجيال دون ريب، وتستدعي من وراء كل انتماء ومن وراء كل توجه ذاتي، التلاقي على:
– رفض كل شكل من أشكال القهر، ورفض التسليم للقهر على أي مستوى قطري أو دولي، وفي كل ميدان سياسي أو عسكري أو اقتصادي أو اجتماعي أو فكري.
– التحرر من كل قيد وحاجز يعرقل توظيف القدرات والطاقات الفكرية والعلمية والإنتاجية من أجل مقاومة كل صيغة من صيغ الاستبداد والاستغلال والعدوان سيان عمن صدرت وتحت أي عنوان، وسيان من يُستهدف بها من جنس الإنسان.
الإنسان هو معيار الحضارة
كذلك لم تكن الهزيمة الحضارية للدولة الأمريكية هي الأولى من نوعها، بل هي صورة منبثقة عن مسار تاريخي للطغيان الأمريكي عالميا، لا تصلحه محاولات المتأمركين التجميلية، ولا يبيحه التفوق في تقدم تقني ومادي وإن بلغ أجواز الفضاء وأعماق المحيطات.
إن الإنسان هو الأصل في كل قيمة حضارية، وفي كل إنجاز حضاري، والإجرام هو الإجرام سواء كان القتل استبدادا واعتقالا وتعذيبا خارج كل معيار قانوني، أو كان قتلا “حديثا” بقنبلة ذكية أو عنقودية أو “أم القنابل” أو كان من قبيل القتل بسكين أو خنجر من العصر الحجري.
وإن القوة الغاشمة من وراء القناع الحضاري هي التي هُزمت حضاريا في الحرب ضد العراق، ولهذا بات الحدث مفصلا تاريخيا سبق للتاريخ أن سجل ما يشبهه، ما بين صعود امبراطوريات وانهيارها. ولهذا رفعت جهات عديدة في الغرب صوتها بالتحذير الصادر عن الخوف الكبير على الغرب نفسه، كما تشهد نصوص مواقف رسمية وبيانات مفكرين واحتجاجات مثقفين، وهم يرون أن بغداد ستكون محطة على طريق ما يمكن أن ينتشر من نتائج وآثار في الغرب، وعالميا، نتيجة سقوط طاغوت العصر وما يمثله منذ قرون دون أن يجد من الأسرة البشرية ما يكبح جماحه.
السقوط الأمريكي حضاريا في العراق ذو بعد تاريخي مفصلي ما بين صعود عسكري إجرامي وانحدار قيمي وأخلاقي، وهذا بعد مسيرة لم ينقطع اعتمادها على منطق القوة الباطشة رغم مقاومة “الإنسان” الأمريكي نفسه بين حين وآخر، فكلما ظهرت دعوات التحرر من وراء اختلاف الألوان والمكانة الاجتماعية وظهرت دعوات المساواة دون تمييز عنصري أو مادي، غيبت تلك الدعواتِ معادلةُ موازين القوة المادية المهيمنة مجددا، داخليا ودوليا، حتى وصلت تلك المسيرة إلى محطات أفغانستان والعراق، واقترنت بالتطلع المتعجرف إلى هيمنة انفرادية استبدادية مطلقة على الصعيد العالمي، وهنا يكمن بذور التطورات التالية على منحدر الإخفاق حتى في العمل لإنقاذ الإنسان الأمريكي نفسه، في إطار الصراع البشري الدائر حاليا عام ٢٠٢٠م مع جائحة وباء كورونا المستجد.
أستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب