الدولة العميقة وهدف التغيير

على خلفية نموذجي مصر وسورية

مفاهيم – لا توجد في نظام استبدادي دولة عميقة وأخرى ظاهرة للعيان بل توجد بنية هيكلية علنية واحدة يجب استئصالها

35

مفاهيم

ليس سهلا الحديث حول الدولة العميقة لبيان خطورة ما يراد تحت عناوين حلول سياسية للثورات الشعبية أو بعضها، فقد استخدم هذا التعبير بأساليب خاطئة جعلت الحديث عنه شائكا عندما يمس بعض الأطراف، كما جعلته حديثا صعبا في حقل ألغام

ويستخدم التعبير هنا في إطار ثوري وليس في دراسة أكاديمية، وهو لا يرقى على كل حال لمستوى مصطلح، وإن لم يكن تعبيرا جديدا، ولكن مفهومه الأول قبل أربعين عاما كان لتشخيص وضع تركيا الداخلي ثم تناول وضع الولايات المتحدة الأمريكية، فاقتصر على بيان دور قوى خارج نطاق السلطة الرسمية تسيطر على صناعة القرار فيها من خلال ما تملك من أسباب القوة، لا سيما المالية، أما في دول استبدادية فاسدة، واجهت الثورات الشعبية،  فالسيطرة مفروضة ابتداء بالقوة غير المشروعة من جانب السلطات الرسمية نفسها، وهذا ما لم يجد نظرة مقارنة عند انتشار تعبير الدولة العميقة في الأدبيات السياسية والكتابات الإعلامية العربية بعد الانقلاب العسكري على ثورة مصر الشعبية تخصيصا.

القول إن الدولة العميقة انقلبت على الثورة ينطوي على خطأ أساء للوعي الثوري والشعبي العام، في مصر وخارجها، إذ قيل بنشأة تحالف ضم أطرافا معادية للثورة، وأخرى غير معادية بل كانت جزءا منها، وشمل ذلك من قلب السلطة  أجهزة عسكرية وأمنية وقضائية وحزبية وحتى شبه سياسية وشبه دينية، ومن خارج السلطة بعض التجمعات التي ارتبط وجودها بالثورة نفسها. وقد شارك الجميع بدرجات متفاوتة في الانقلاب. تدبيرا وتبريرا وتعزيزا له لتثبيت أقدامه؛ هذا بغض النظر عن توجيه ضربات الانقلابيين لاحقا لبعض من تبعهم ومكّنهم من فعلتهم.  

جميع ذلك صحيح ولكن ليس صحيحا طرحه مع التركيز على عنصر المفاجأة من ظهور ذلك التحالف؛ فالواقع أن وجود القوى الأساسية في التحالف وجود رسمي قديم، وكانت توصف بمراكز القوى في الدولة، وأصبحت توصف بعد الانقلاب بالدولة العميقة، وكأنها من خارج السلطة أو أنها خفية لم يرصدها أحد.

لقد كان طرح عنصر المفاجأة وسيلة لفريق من الثورة لتبرئة نفسه من أخطاء ارتكبها -وليست هي موضع الحديث هنا- وبالتالي ليضع نفسه في موقع الضحية عندما يصوّر ما جرى أنه تحرك مفاجئ من جانب دولة “عميقة” غير منظورة، فلا يلام إذن أنه لم يرها!

ليس القصد هنا المحاسبة أو اللوم، فذلك متروك للتاريخ والدراسات الرصينة، إنما القصد أن نتعامل الآن تعاملا قويما مع الوعي الشعبي والثوري على أمل ألا يتكرر في مصر وسواها وقوع مزيد من الأخطاء الجسيمة.

مراكز القوى التي وصفت لاحقا بأنها الدولة العميقة في مصر كانت دوما شبكة قوى اندماجية تعمل جهارا نهارا على امتداد العقود الماضية، وسيان هل صنع الاستبداد والفساد بعضها مباشرة، أو نشأ بعضها ذاتيا فوظفه الاستبداد والفساد لصالحه وربط وجوده بوجوده، فإن الجميع يعلم بالمنظور الثوري العملي أن معظم من شارك في الانقلاب في مصر، أو الردة الانقلابية في تونس، أو في الأعمال العدوانية المضادة في أخواتهما قد كان جزءا من بنية عضوية اندماجية للسيطرة الاستبدادية الفاسدة على مفاصل صناعة القرار وتنفيذه على كل صعيد، ولم يكن قوى متخفية أو مستترة لتطفو على السطح وتظهر إبان تحرك مضاد للثورة، لتفاجئ من يهمه أمر الثورة الشعبية التغييرية، فمن يظهر في موقع المتفاجئ، ينقصه الحس الثوري، أو يتجاوز الحدود في حرصه على تبرير عمله، ولكن الأهم من ذلك أنه يساهم في لحظة حاسمة في الإساءة إلى الوعي الشعبي الثوري، إذ ينشر التوهم الخطير بأن خلع رأس النظام يتضمن خلع القوى التي يعتمد عليها في استبداده وفساده، فتغيب الصورة الحقيقية، وهي:

الدولة بمفهومها الأصلي هي التي اغتالها النظام الاستبدادي الفاسد، بسيطرته على ما يوصف في العلوم السياسية الأكاديمية بمقومات دولة، أي الأرض والشعب والسلطة، فلم يعد يوجد دولة ودولة عميقة بل أصبحت الدولة الظاهرة والعميقة ضحية هيكلية النظام الاستبدادي الفاسد المسيطر.

لكل تعبير إيحاءات تؤثر إيجابا أو سلبا، ولكن الأهم من ذلك أن عناصر ما سمي دولة عميقة كانت لها من البداية وظيفة: مكونات الاستبداد والفساد الظاهرة للعيان، وهي التي اندلعت الثورة ضدها، فإذا سقط رأس الأخطبوط فقط كان يُفترض بمن يحمل همّ الثورة أن يدرك ضرورة استمرار الثورة لإسقاط البنية الهيكلية الاندماجية المؤلفة من مصانع توليد رؤوس بديلة.

بدلا من ذلك انتشر تعبير الدولة العميقة فساهم في نشر الوهم بقابلية الفصل بين أجهزة رسمية تمثل الدولة وبين نظام استبدادي فاسد يمكن إسقاطه مع استبقاء الدولة، وهذا ما بدأ استغلاله لاحقا في قضية سورية أكثر من سواها.

منذ فترة لا بأس بها يدور الحديث بصدد سورية عن خطورة انهيار الدولة؛ أيّ دولة؟ وعن ضرورة حماية مؤسساتها من التفكك، أيّ مؤسسات؟

طالما زعم بعض أعداء الثورة المشاركين في العمل لاغتيالها، أنه حريص على سورية الدولة فيقول مخادعا إنه لا يدافع عن رأس النظام بل عن مؤسسات الدولة؛ أين معالم الفصل بين هذا وذاك؟

الأخطر من ذلك: بدأ بعض المجتهدين تفاوضيا باسم الثورة بالحديث عن أنهم لا يعملون من أجل انهيار الدولة؛ كلا المطلوب هو بناء الدولة من جديد.

لقد تراكمت المغالطات فوق بعضها بعضا، ولا تزول دون التأكيد:

أي ثورة شعبية ضد استبداد فاسد لا تحقق هدفها الأول (إسقاطه) كمقدمة لهدف البناء والنهوض، دون خلع مخالب مكونات الاستبداد والفساد جميعا، فهذا ما يمنع وقوع ما يسمى ثورة مضادة أي انقلابا داخليا، وهو أيضا ما يحول دون أن يجد الدعم الخارجي للانقلاب بقايا مرتكزات محلية يعتمد عليها للحيلولة دون استكمال تحرر الإرادة الشعبية عبر الثورة.

إن القضاء على مكونات النظام الاستبدادي الفاسد جميعا شرط حاسم من أجل بناء دولة تغييري يحقق أهداف الثورة التغييرية، وهذا في منزلة خط ثوري أحمر، فالالتفاف عليه بأي صيغة يعني إسقاط الهدف الأكبر للثورة: تحرير إرادة الشعب وضمان زوال الاستبداد والفساد نهائيا.

١- إن رأس الأخطبوط الاستبدادي الفاسد في أي نظام قطعة عضوية من جسده وأذرعه، وإن سقوطه وحده لا ينهي الاستبداد والفساد.

٢- إن تفكيك مكوّنات الأخطبوط مع رأسه، سواء وصفت بالدولة العميقة أم لا، شرط لنهايته ولتأمين البناء والنهوض من بعده.

٣- تفكيك المكوّنات يعنى تفكيك جميع المفاصل التي تتحكم بوجودها واستمرار فعاليتها.

٤- لهذا فكل طرح ينطوي على استبقاء أي بذرة من بقايا الأخطبوط الاستبدادي الفاسد ليس طرحا ثوريا بل انتحاريا.

٥- هذه رؤية ثورية تزعزع الالتزام بها في مصر فكان الانقلاب وليد التهاون في التشبث بها ثوريا، ولا ينبغي التهاون في الالتزام بتلك الرؤية الثورية لمن يريد صادقا مواصلة العمل:

– لمواجهة المساعي الدموية والسياسية المستمرة لإعادة تثبيت مرتكزات الاستبداد والفساد مع التبعية الأجنبية في دول الثورات الشعبية العربية، لا سيما سورية واليمن وليبيا، فضلا عن المساعي المستمرة أيضا بصيغ أخرى في مصر وتونس، ناهيك عن مخططات قديمة وجديدة يجري تنفيذها لتصفية قضية فلسطين منذ استأنفت انتفاضاتها مسيرة التحرير على درب المقاومة بعد توهم دفنها في أوسلو، ولتصفية قضية تحرر العراق بعد احتلاله الأمريكي الإيراني المشترك.

بلادنا تتعرض لحلقة كبرى أخرى من حلقات عدوان طويل الأمد، واسع النطاق، ومن شروط مواجهته استيعاب ما يجري لتتوافر لنا رؤية متكاملة على طريق التغيير الذي فتحت الثورات أبوابه، وكل تهاون بشأن التحرير الكامل للإرادة الشعبية، يعني النكوص عن هدف التغيير الحضاري البعيد المدى كما أرادته الثورات الشعبية المشروعة، ودفعت الشعوب ثمنه، وإن ننكص الآن عن متابعة طريق التغيير الجذري الشامل، فلن ننجو من عواقب ذلك في الدنيا والآخرة. 

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب