التعامل مع ذكرى إحراق الأقصى سنة ١٩٦٩م

كيف نجعل من الذكريات حجة لنا لا علينا

حوار – أجرته توكل كرمان، الكاتبة والصحفية (آنذاك)، مع نبيل شبيب للنشر في جريدة (العاصمة) اليمنية

109

حوار

تمر مع الثامن من رجب في كلّ عام هجري والسادس عشر من آب أغسطس من كل عام ميلادي ذكرى جريمة إحراق المسجد الأقصى، التي تحفر في الأذهان ذكرى أليمة في تاريخ الأمة المثخن بالجراح، وهي محطة ظلام كبيرة ووصمة عار لا يغسلها سوى التحرير الواجب لبيت المقدس، وقد نشرت جريدة (العاصمة) اليمنية آنذاك هذا الحوار الذي أجرته مع كاتب هذه السطور توكل كرمان، الكاتبة الصحفية (آنذاك.. والقيادية الثورية في اليمن لاحقا)، وكان ذلك عام ٢٠٠٣م، ورغم تطور الظروف والأحداث والمعطيات لا يزال المحتوى ساري المفعول من حيث الأساس، لا سيما ما يتعلق بشروط تحرير الأقصى وفلسطين. 

التعويد على النكبات – تحرير الأقصى رهن بهدف التحرير الشامل – الحقّ الثابت والأباطيل المصطنعة – إذا هُدم الأقصى فهي عملية انتحارية – مفعول إحياء المناسبات

التعويد على النكبات

س- عاصرتم تلك الجريمة النكراء فهل لنا أن نتعرّف على مشاعركم ومشاعر المسلمين آنئذٍ خاصة وأنهم كانوا حديثي عهدٍ بهزيمة مدوية، فقدوا فيها معظم أراضيهم، بما فيها بيت المقدس؟

ج- لا أكتمك أنّ الصدمة الشديدة التي أحدثتها عملية العدوان الإجرامية التي استهدفت المسجد الأقصى مباشرة، لم تكن من حيث قوّتها، ومظاهر التعبير عنها في انحاء العالم الإسلامي، كتلك التي أحدثتها من قبل عملية العدوان الإجرامية التي أوصلت في عام ١٩٦٧م إلى سيطرة الاستعمار الصهيوني على شرقي مدينة بيت المقدس، وبذلك على المسجد الأقصى المبارك أيضا. وفي هذا ما يشير إلى نقاط بالغة الأهمية، وأكتفي بذكر عنصرين أساسيين فقط، أوّلهما أنّ “مسلسل” النكبات المعاصرة، يتضمّن فيما يتضمّن تعويد المسلمين أو تعويد الشعوب عموما على “التعايش” معها، وتقبّل وجودها واستمرارها، فإذا بهم أقلّ إحساسا بالخطر، وأقلّ تعبيرا عن رفضه، ناهيك عن العمل لمواجهته في نكبة بعد نكبة وفي مرحلة بعد مرحلة. والأمر الثاني أنّ هذا المسلسل يمكن أن يوصلهم إلى مرحلة التسليم النهائي بما يجري وتلقّي الضربات المتوالية، استعمارا للأرض، وانتهاكا للمقدّسات، وحرمانا من الحقوق المشروعة.

لن نحول دون هذا التسليم الخطير بمجرّد التذكير بالنكبات والمآسي، بل قد تتحوّل عملية التذكير نفسها إلى نوع من التخدير، المطلوب توعية قائمة على بيان نوعية الأخطار، ومصادرها، وواقع نقاط الضعف والقوّة لدينا، وكيف نستغلّ القليل الذي نملكه من إمكانات، فنوجّهه ونطوّره ونصنع ما ينقصنا على صعيده لممارسة المواجهة الفعلية لتلك الأخطار.

إنّ جريمة تدبير حريق في المسجد الأقصى لم تقع إلا نتيجة عدم المواجهة الحقيقية الفعّالة على مستوى الشعوب والجماعات والحكومات لجريمة اغتصاب شرقي بيت المقدس من قبل، وهذه لم تقع إلا نتيجة عدم ممارسة المواجهة الحقيقية لجريمة اغتصاب غرب بيت المقدس وبقية الأرض المحتلة عام ١٩٤٨م.

تحرير الأقصى رهن بهدف التحرير الشامل

س- برأيكم ما هي الأسباب الحقيقية للمحاولات المستمرة للعدوان الصهيوني على المسجد الأقصى ولماذا هذا التركيز الصهيوني على اغتصابه بالذات؟

ج- في كلّ حرب تاريخية، والحرب على منطقة فلسطين وما حولها حرب تاريخية متطاولة عبر القرون، محطات زمنية وجغرافية، لها تأثيرها الأوسع من نطاقها الذاتي، وكان من هذه المحطات التاريخية والجغرافية تمكين البريطانيين من اقتحام القدس الشريف في الحرب العالمية الأولى، ثم اقتحام القدس الغربية في النكبة الأولى ١٩٤٨م، واقتحام الشرقية في نكبة ١٩٦٧م، وجريمة إحراق الأقصى عام ١٩٦٩م.. هذا بمنظور النكبة، ولدينا محطات تاريخية وجغرافية أخرى ذات أبعاد مؤثرة عبر العصور، مثل فتح القدس في عهد الفاروق رضي الله عنه وكتابته العهدة العمرية، أو يوم تحرير القدس في عهد صلاح الدين الأيّوبي وإقامة أوّل صلاة جمعة فيها بعد العهد الصليبي.

تركيز الاستعمار الصهيوني بفلسطين على المسجد الأقصى يستهدف فيما يستهدف صناعة “رمز تاريخي” بأبعاد مؤثّرة تتجاوز رقعته الجغرافية المكانية وتتجاوز ساعة الحدث زمانيا، كما يستهدف في إطار المعركة الشاملة حصرَ أهل ما يُسمّى المسيرة السلمية في نطاق قضية القدس وحدها، مع جدال لا ينتهي حول التدويل أو التقسيم أو سوى ذلك من الأطروحات، وهذا ما يختزل قضية فلسطين وقضية مواجهة الخطر الصهيوني في المنطقة كلّها في عنوان “كيف نحدّد الإدارة البلدية لمدينة القدس”.

لا يمكن أن نستهين بقضية بيت المقدس والمسجد الأقصى على الإطلاق، ولكن في الوقت نفسه لا يجوز بحال من الأحوال أن نغفل عن الجوانب والأبعاد الأخرى للقضية، فقضية تحرير الأقصى هي جزء لا ينفصل عن قضية تحرير الإنسان والأرض والإرادة السياسية في فلسطين وما حولها.

س- باختصار ماذا يمثل المسجد الأقصى في وجدان المسلمين؟ وهل يمكن للمسلمين أن يقبلوا بتدويل تلك المنطقة سياسيا وتعويمها دينيا بحيث تكون منطقة متاحة للديانات الثلاث خاصة وأن لها مكانتها الدينية عندهم جميعا؟ 

ج- أمّا الأطروحات المتعدّدة، باسم التدويل، أو التقسيم، أو تعدّد الإدارة، أو سوى ذلك مهما كانت التسميات، فلا أخوض فيها بالتفصيل، فهي مجرد عناوين للتضليل عن أصل القضية المتمثل في اغتصاب أرض بالقوّة غير المشروعة، ووجوب تحريرها بقوّة المقاومة المشروعة، فإذا تحقّق هذا الهدف المقدّم على ما سواه، يمكن الحديث عن هذه الصيغة أو تلك للتعامل مع التفاصيل مثل “الوضع الخاصّ” للقدس.

أمّا عن مكانة المسجد الأقصى لدى عموم أهل المنطقة لا سيما المسلمين في الوقت الحاضر، فقد اقتصرت على جانب “عاطفي” وهو جانب لا يستهان به ولكن لا يكفي. دون تحريك الطاقات عملا وجهادا.

نحن في حاجة إلى تصحيح أسلوب تعاملنا مع المسجد الأقصى، وسائر ما نطرحه كرموز بحيث يشمل هذا التعامل في وقت واحد، الجوانب الوجدانية العاطفية، والمنطلقات الحضارية-التاريخية، والرؤى العقلانية الموضوعية المنهجية للعمل.

الحقّ الثابت والأباطيل المصطنعة

س- هل لليهود حق في تلك البقعة المباركة خاصة وأنهم يتشبّثون بهذا الحق الديني والتاريخي حتى جعلوا شعار دولتهم نجمة داود عليه السلام السداسية إشارة إلى عقيدتهم؟

ج- لندع مسألة نجمة داوود السداسية هذه فهي واحدة من أباطيل عديدة لا تستحقّ الانشغال بها كثيرا، وقد بيّن المتخصصون في التاريخ بطلان نسبتها إلى نبي الله داوود عليه السلام، ولا ننسى هنا أن الكتب المحرّفة التي يستند الصهيونيون إليها تصوّر داوود عليه السلام بالذات بصورة عدوانية مهينة مزرية، تثير العجب من تلك الجرأة أن ينسبوا أنفسهم إليه وهم يشتمونه، كما تجعلنا أعمق فهما لما يقوله القرآن الكريم من أنّهم لعنوا على لسان داوود عليه السلام وعلى لسان عيسى عليه السلام على السواء.

ولكن كلّ حركة، لا سيّما إذا كانت مخادعة عدوانية، تحتاج إلى رموز، فلا تتورع عن نسج الأباطيل لاصطناع رموز تجد القبول عند العامّة، كما تحتاج إلى “دافع ديني” ما لتحرّك الأتباع، وهذا ما يوصلنا إلى الجزء الأهمّ من السؤال، فالحركة الصهيونية بالذات كانت منذ نشأتها تعتمد عنصر “استغلال الدين” لتعبئة اليهود في أنحاء العالم من جهة، وللحصول على دعم النصارى في أنحاء العالم أيضا من جهة أخرى، ولكسر شوكة المقاومة لدى المسلمين من جهة ثالثة. وللمسجد الأقصى كما نعلم مكانة لا تتزعزع لدى المسلمين، ولا حاجة هنا إلى تكرار ما نردّده جميعا باعتباره أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى السماء، وأحد المساجد الثلاثة التي يجوز أن تُشدّ إليها الرحال، ولكن أريد أن أضيف إلى ذلك هنا فيما يتعلّق بالسؤال، أنّ المسلمين يحملون أيضا أمانة رعاية الديانات السماوية السابقة، إذ انتقلت إليهم واستقرّت بين أيديهم باعتبار الإسلام خاتم الرسالات من قبل إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام وحتى عيسى عليه السلام، ومن ذلك أمانة “المسجد الأقصى” الذي ذكره القرآن الكريم بهذا الاسم، باعتباره كما ورد في الحديث الصحيح المسجد الذي أقيم بعد البيت الحرام بأربعين عاما، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام لتوحيد الله وعبادته، وقد كان قائما في مدينة بيت المقدس أيضا، إلى أن كان العهد الإسلامي وأقيم المسجد الأقصى الذي نعرفه الآن.

بغضّ النظر عن مسألة الموقع الجغرافي والتاريخي للمسجد الأقصى، يبقى التأكيد أنّه كما حافظ الإسلام وحمل المسلمون أمانة الحفاظ على وجود “النصرانية” في أرض فلسطين وسواها فكانت واقعيا تحت حمايتهم قرونا عديدة، يجب أن نحمل نحن المسلمين أمانة الحفاظ على المسيرة النبوية بمجموعها، بما يشمل عهد سليمان وداوود عليهما الصلاة والسلام، فدولتهما دولة التوحيد، دولتنا نحن، وتاريخها، تاريخنا نحن، ومسجدها الذي أقيم لعبادة الله عزّ وجلّ، مسجدنا نحن، وهذا ما يفرض علينا فرضا أن نحول دون الاستغلال الإجرامي البشع الذي تمارسه الصهيونية للدين، بما يشمل طرح هدف تدمير المسجد الأقصى، رمز ديانة التوحيد على امتداد العصور، ورفع شعار إقامة “هيكل سليمان” مكانه، وهم الذين يتّهمون في الكتب المحرّفة سليمان عليه السلام بالكفر والزنا.

نحن في قضية المسجد الأقصى نحمل أمانة الحيلولة دون هذا الاستغلال الصهيوني للقضية، واستغلال من يعتبر نفسه يهوديا على دين موسى عليه السلام، أو نصرانيا على دين عيسى عليه السلام، ولا ننجح في ذلك إلاّ باستعادة فهم الإسلام كما أنزل، ومن ذلك ترسيخ “السلام” ما بين الأديان، ووضع نهاية لممارسة القتل والاغتصاب والتدمير ومختلف الجرائم الأخرى بحقّ الإنسانية وبحق الحضارة والثقافة ومستقبل البشرية، مع تزوير لافتات ذات صبغة دينية لتبريرها.

إذا هُدم الأقصى فهي عملية انتحارية

س- هل يمكن أن  يهدم المسجد الأقصى المبارك، وهل في الآثار الإسلامية أو غيرها ما يشير إلى حدث جلل كهذا؟

ج- أترك الحديث عن الأحداث التاريخية ممّا جرى مع الكعبة المشرّفة مثلا، أو استعمار الصليبيين لبيت المقدس وما صنعوه بالمسجد الأقصى على امتداد ٩٣ سنة مثلا آخر، فهذه الأمثلة تحتاج إلى شرح أطول لبيان المقصود منها.

في الوقت نفسه أكاد أخشى القول إنّني أعتقد باستحالة إقدام الاستعمار الصهيوني بفلسطين على جريمة هدم الأقصى المبارك.. أخشى أن يلمح أحد في هذه المقولة دعوة إلى الاطمئنان والخلود إلى الدعة وانتظار مجرى الأحداث.. كلا.. ولكن خطوة من هذا القبيل جنونية إجرامية -وقد تكون شبه انتحارية للصهيونية- يمكن أن تقع في أيّ لحظة من اللحظات التي توصف بفترات غفلة تاريخية في حياة أمّة من الأمم.، وأمتنا بدأت تصحو كما تشهد ثورة الانتفاضة الأولى والثانية بفلسطين حديثا، وهذا لا يقتصر على تحريك القضية، وتطهيرها من وبال مسيرات كامب ديفيد ومشروع فاس أو مؤتمر مدريد وأسطورة أوسلو.. فالأهم هو أن بطولات أبناء فلسطين رجالا ونساء، أطفالا وكبارا، أدخلت مجرى أحداث القضية وتطوّراتها في مفصل تاريخي حاسم، لم يعد يمكن العودة عنه للتحرّك في اتجاه آخر، ومن هنا اعتقادي الجازم، أنّ قضية فلسطين تجاوزت مرحلة ترسيخ أقدام الاستعمار الاستيطاني والهيمنة الأجنبية في المنطقة بمجموعها، وفتحت الأبواب أمام صناعة مرحلة تحرير الارض من ألوان الاستعمار الاستيطاني والتبعيّ وسواه، وتحرير الإرادة من ألوان حلول التصفية والتسليم والتراجع عن الثوابت ومسخ الحقوق الشرعية وتشويه المصطلحات في عملية غسيل دماغ جماعية، وفي ظلّ هذا التحوّل التاريخي لا أتصوّر ارتكاب جريمة من حجم جريمة هدم الأقصى، إلا من قبيل أن تكون عملية انتحارية ترتكبها الحركة الصهيونية فتعجّل في سقوطها.

س-كيف نحافظ على مقدساتنا الإسلامية في ظل هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين؟

ج- السؤال الأهم كيف نصنع الإنسان القادر على الحفاظ على المقدّسات، على تحريرها، على ربط قضايا معيشته اليومية بقضايا أمّته المصيرية، فلا يحسب أنّ انشغاله بلقمة الطعام نتيجة الفقر أو نتيجة البطر، يبقيه بعيدا عن نتائج ضربة عسكرية توجّه في فلسطين أو العراق أو الصومال أو الشاشان. وإنّ أمانة صناعة الإنسان بما يشمل الحفاظ على المقدّسات يشمل الحفاظ على أرواح البشر وأجسادهم وحقوقهم وحرياتهم وكرامتهم وسيادتهم على أنفسهم وصناعة مستقبلهم والتحكّم في مصائرهم وتأمين احتياجاتهم المعيشية.. هذه الأمانة يمكن أن ننهض بها بإيجاد الشروط الموضوعية اللازمة لنتحرّك من جهة، ومن جهة أخرى على قدر الامتناع عن اعتبار الهجمة الشرسة الخارجية عائقا، والتعامل معها على أنّها “حافز” لأداء الأمانة بقوّة أكبر، وبما يشمل المواجهة المفروضة أيضا.

إنّ ازدياد شراسة الهجمة العدوانية الخارجية وضراوتها يفرض مضاعفة الجهود لتعبئة أسباب المواجهة والصمود والتحرّك، ولسنا في وضع ميؤوس منه، بل على النقيض من ذلك، فرغم شدّة النكبات والمآسي الراهنة، يمكن لمن عايش النكبات والمآسي وعايش معها “الموات” في مواجهتها قبل جيل واحد، أن يدرك أنّ الأمّة بدأت تتحرّك في اتجاه تاريخي صحيح، وأنّ ما صنعه جيل سابق في مواجهة استعمار أجنبي تقليدي، وسلّمه إلى جيل آخر وعلى هذا الجيل الجديد، جيل المستقبل، تقع المسؤولية التاريخية الكبرى، الشاملة لكافة جوانب التحرير والبناء، ومنها مسؤولية الحفاظ على المقدسات الإسلامية، الحسيّة والمعنوية.

مفعول إحياء المناسبات

س- كيف يجب على المسلمين أن يتعاملوا مع هذه الذكرى؟.. ما هي الخطوات العملية الخاصة بذلك؟

ج- في هذه الذكرى وفي سائر الذكريات التاريخية أو المناسبات التي نحتفل بها سنويا أو بين حين وآخر، نحتاج أوّل ما نحتاج إلى عدم الوقوف عندها كذكريات ومناسبات فحسب، وألاّ نكتفي بجانب “الاحتفاء” بها والحديث عنها فقط. قد نغطّي الجانب الوجداني بذلك، ولكنه لا يكفي، وفي الوقت نفسه لا يمكن ولا ينبغي الاستغناء عنه، إنّما يجب أن نصل في التعامل مع مثل هذه المناسبات، وفي كثير من مجالات حياتنا الأخرى، إلى صورة متكاملة تشمل فيما تشمل:

– العامل الوجداني، فهو الطاقة التي تجعل الإنسان يشعر بهول الجريمة فيتحرّك لدفعها مع الاستعداد الذاتي للعطاء والبذل والتضحية.

– العامل التاريخي والثقافي والحضاري، فهو ما يجعل “الرمز” المتمثل في المسجد الاقصى أو سواه، “مرتكزا” من مرتكزات الوعي بالقضية وأبعادها التاريخية والمعاصرة والمستقبلية، ويربط بين هذا المرتكز وسواه على مستوى الامتداد التاريخي من جهة، وعلى مستوى الامتداد الجغرافي المعاصر من جهة أخرى.

– والعامل المنطقي العقلاني، بما يشمل التخطيط والتوجيه والتنظيم والتنفيذ والتقويم والتطوير، فهذا ممّا يجعل العامليْن المذكوريْن أساسا للعمل، لا وقوفا وقتيا عند الذكريات والمناسبات فقط، ويجعلهما منطلقا للتعبئة والتحرّك، لا للحديث والكتابة نثرا وشعرا، أدبا وفكرا، فحسب، وهذا ما يساعد على الرؤية الموضوعية للواقع دون تهويل من شأنه أو تهوين، ودون التسليم بما يستجّد فيه ممّا يصنعه سوانا مع الإحجام عن أن يكون لنا نحن نصيب في صناعته وفق ثوابتنا وأهدافنا وحقوقنا الأصيلة المشروعة، كما يساعد أيضا على تقويم الإمكانات الحقيقية المتوافرة لدينا، والعمل الدائب على حسن استغلالها، وتطويرها وزيادتها، بما يرتقي بها وبنا إلى مستوى تحقيق الأهداف العزيزة الجليلة التي نحمل مسؤولية تحقيقها.

س- ذكرى إحراق المسجد تجعلنا نتذكر ميلاد منظمة المؤتمر الإسلامي، فماذا عن سقوط بغداد مع احتلال العراق.. كيف نقارن بين اليوم والأمس؟؟

ج- في السؤال جانب من الإجابة، فميلاد المنظمة كردّ فعل تاريخي في ذلك الحين على الحادثة، وتأسيس لجنة القدس الدولية في المغرب آنذاك ايضا، لم يمنع من وقوع نكبة سقوط بغداد بعد أكثر من ثلاثين سنة، أي بعد جيل كامل.

نحن لا نعاني من قلّة المنظمات أو كثرتها، ولا من ردود الأفعال وضعفها أو قوّتها، ولا نعاني من عدم وجود “مواقف” أصبحنا -للأسف- بسبب تزويرها والعمل بنقيضها نتهكّم عليها، بدءا بالشجب وانتهاء بالإدانة، أو بدءا بإعلان التضامن وانتهاء بالإشادة الكلامية بالمقاومة، فكم ساهم ذلك في نشر التيئيس بعد أن اقترن بتوجيه الطعنات أو المشاركة في توجيهها لظهور الشعوب وقضاياها المصيرية؟

نحن نحتاج أوّلا إلى عنصر الإنسان الذي لا يكون تابعا لعدوّ، ولا يستسلم له، ولا يزوّر المواقف أو يرتكب الخيانات، كما لا نحتاج إلى الجبان، أو المتهوّر. باختصار نحن نحتاج إلى عنصر الإنسان الذي يتكوّن تكوينا متوازنا، عقيدة، وعلما، ووعيا، وتخصّصا، وطاقة قادرة على العطاء والإبداع، فإذا وُجد هذا “الإنسان” المسلم ديانة، أو من يعيش في ديار المسلمين ويكون صاحب انتماء إسلامي حضارة وتاريخا وإن لم يكن مسلما.. إذا وُجد في مكان ما سيملأ فراغا حوله ويؤدّي واجبا مطروحا بين يديه، وإن واجه حدثا من الأحداث كسقوط بغداد سيكون قادرا على التفاعل القويم معه في الثغرة التي يقف عليها، وستتلاقى الجهود آنذاك وتصب في إنجاز جماعي شامل.

عنصر الإنسان لا ينشأ من فراغ، ولكن نخطئ كثيرا إذا كرّرنا التساؤل كما نصنع في كثير من المناسبات: من أين نبدأ؟.. كانت البداية عسيرة ولهذا نجد الأخطاء والأخطار الآن كثيرة ومتنوّعة، ونجد المنجزات محدودة أو هي غائبة عن أعيننا، ولكنّ التحوّل التاريخي والاجتماعي يجري، وقد لا يظهر للعيان، فنحن نعيش في عالم واسع، ونعايش تطوّرات تاريخية كبرى متطاولة، ولسنا في قرية صغيرة نرصد أحداثها المحلية.

إنّ ممّا نحتاج إليه:

– القضاء على مفعول التيئيس والتضليل.

– تجديد الثقة بالنفس والقدرة على تحقيق الغايات الكبيرة.

– النأي بأهل بلادنا فكرا وتعاملا عن المعارك الجانبية جميعا.

– تعزيز استخدام الوسائل المتوفرة وتطوير المزيد لتعزيز التواصل.

– التركيز على جيل الشبيبة ذكورا وإناثا، ليس في القضايا “الحماسية” أو قضايا “التوعية” فحسب، بل وفي مجال الارتقاء بأنفسنا إلى مستوى قيادة الأمّة في عالمنا المعاصر.

ويوجد المزيد ولكن لا أرى في ربط حدث “سقوط بغداد” بذكرى “حريق الأقصى” وإنشاء “منظمة مؤتمر العالم الإسلامي” ما قد يستثير الحديث عن إنشاء منظمة أخرى مثلا، فالمهّم في تصوري هو التركيز على المضامين، وآنذاك تنشأ الهياكل التنظيمية “الفاعلة” المتلائمة معها، وليس العكس.

س- بماذا تتوجهون للشعب اليمني في هذه الذكرى؟

ج- لو أردت أن أقول ما لديّ جوابا على هذا السؤال، لكرّرت ما ذكرت أعلاه، فهو حديث لا يميّز -مثلما لا أميّز في أيّ مجال آخر- ما بين أهلي في اليمن، وأهلي في العراق، أو فلسطين أو المغرب أو أفغانستان. ولا أحسب أنّ واجب أحدنا هنا يختلف من حيث الجوهر عن واجب أخيه أو أخته هناك، إنّما يختار كلّ منا ما يناسبه من وسائل وفق النظر الواعي في إمكاناته وفي الواقع القائم حوله، ليؤدّي ذلك الواجب المشترك على الوجه الأمثل والأنسب لواقعه، دون تساهل مع نفسه، فقد لا يجد لنفسه عذرا يوم القيامة إذا ما قصّر الآن في أمر من الأمور وقبل الناس بعذره الظاهري، ولئن أردت إضافة خاصة باليمن وأهله، فأوّل ما يخطر لي أنّه -بغضّ النظر عن تجاربه الخاصة- قد نجا من كثير من الويلات التي أتت بها التجارب في أقطار عربية وإسلامية أخرى، فآمل ألاّ تتكرّر لديه وقد أصبحت نتائجها واضحة للعيان. ولا تضيف هذه الذكرى الأليمة لإحراق الأقصى جديدا على ما سبق، ولكن نحن القادرين -في اليمن أيضا- أن نضيف عند مرور هذه الذكرى وسواها بنا، جديدا من العمل والإنجاز، ومن التوعية والتعبئة، ومن التعاون على ما يرضي الله في الدنيا والآخرة، وآنذاك تكون “الذكريات والمناسبات” حجّة لنا لا علينا.