استراحة – بوصلة التغيير
فقدنا الاتجاه ومن يوجّهون فكيف نعمل؟
بين أيديكم للنهوض والتغيير مهام أعظم وأكبر مما واجهناه في عقود ماضية
كان الهمّ ظاهرا على وجهه الغض وفي صوته المضطرب وهو يقول:
– يا أستاذ.. اسمح لي بسؤال ولا تظنّ بي الظنون!
غلبتني ابتسامة أو ضحكة خفيفة وكنت حريصا على إظهار أنني أسمع إليه جادّا بالفعل، فتساءل منزعجا:
– علام تضحك؟
– تناديني يا أستاذ، وتعلم أنني إنسان بسيط، وتطلب أن أتجنب الظنّ فيك، وتعلم أنك موضع ثقة كبيرة عندي، فغلبتني الابتسامة، فمعذرة.. إنما يهمني ما تقول قطعا.
قال:
– أما كلمة أستاذ فهذا ما نشأنا واعتدنا عليه تجاه من يكبرنا سنّا، فكيف إذا كان ممّن يكتبون، وأما مسألة الظن فهذا لأن سؤالي غير عادي، ولا أريد أن تحسبني قد تخليت عما أوقن به من الوصول إلى النصر والتغيير وعن ضرورة مواصلة العمل لذلك.
قلت:
– أثرت فضولي؛ فادخل في الموضوع دون مقدمات.
– أشعر أنني أضعت البوصلة فيما نحن عليه الآن..
سارعت إلى القول وربما تسرّعت في ذلك:
– وأنا أيضا، وأنا أيضا.
تابع كأن لم يسمعني:
– أين القائد الذي نسير وراءه؟
– سؤال قديم؛ وتعلم باستحالة أن يوجد في عالمنا وعصرنا قائد منفرد ويصلح لكل ميدان، خذ العلم من العالم، والموعظة من الداعية، والفكر من المفكر، والتخطيط من المتخصص، والإدارة ممن يتقنها، وهكذا لتجتمع لك الفائدة.
قال وفي نبرته بعض الانكسار:
– طالما سمعت ذلك منك وقرأته، ولكن لم أعد أجد -إلا من رحم ربي- من يلتزم حدود ما يعرف فيتجاوزه إلى ما لا يعرف ولا يتقن، وكل طرف يتضارب قوله مع قول سواه. فهل من تنظيم لم أسمع به يتكامل فيه هؤلاء وسواهم، ولا يدخل في صدامات مع تنظيمات أخرى؟
قلت متعمدا الإجابة غير المباشرة:
– إن وجد ذلك ستجده أنت قبلي، فأخبرني وسأنخرط وإياك بالعمل معه، ولكن يبدو لي أن الزمن تجاوز عصر التنظيمات الجامعة، فليتنا نعمل بأسلوب التشبيك ما بين التخصصات؛ إنما طرحت حتى الآن أكثر من سؤال، فما علاقته بكلامك عن ضياع البوصلة؟
أجاب:
– ما دمنا دون قيادة ودون تنظيم، من يمكن أن يعود بجيلنا إلى بوصلة الثورة ومسار التغيير من خلالها، شريطة وضوح الغاية والطريق لنتابع العمل باطمئنان؟
قلت متهربا من الإجابة:
– وهل كانت بوصلة الثورة واضحة للعيان من قبل؛ على الأقل بعد عامها الأول؟
قال بشيء من الغضب:
– معذرة، أعلم ذلك كما تعلمه، ولكن أشكو في هذه اللحظة مما يتراكم بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، مما لا يحصى من مواقف وبيانات وحملات ومحاضرات وحتى الخطوات العملية على الأرض، مع نزف الدماء وازدياد المعاناة وتضاؤل فرص التحرك؛ بل أصبح جميع ذلك يزيد التناقضات يوما بعد يوم، ومنه ما يحطّم البقية الباقية من قدوات رائدة في ميدان بعد ميدان، ناهيك عمن يستهلك بقية رصيده لدينا من أشخاص أو جهات؛ فلم نعد في مرحلة أضعنا البوصلة بل تجاوزناها إلى المشاركة المباشرة في ضرب أي جهد صغير أو كبير للعثور على الطريق الصحيح من جديد.
انتظرت حتى فرغ من قول ما قال مع شعوري بوجود المزيد لديه، حتى إذا سكت هنيهة، قلت:
– تريد كلاما صريحا؟
استغرب سؤالي قائلا:
– لولا ذلك ما توجهت إليك بالكلام!
تابعت:
– وتعلم أنني مع صراحة الكلام أتجنب ذكر أسماء أو جهات بعينها، ليقيني أنّ من أتكلم إليهم يعلمون بأوضاعنا أفرادا وتجمعات بما فيه الكفاية؛ فدعني أعدد لك بعض الملاحظات فحسب.
إن جيل القيادات الثورية المخلصة الفذة من العام الأول قُضي عليه بأيدي أعداء الثورة وبأيدينا وألسنتنا وأقلامنا؛ ومنذ ذلك الحين ضعفت قدراتنا، نتيجة سياسات وممارسات بعيدة عن روح التغيير الذاتي.
أما ما نرصده هذه الأيام، فهو -دون تعميم- مما يصنعه القادرون على الحركة والكلام لأن الداعمين لا يرون في نتائج حركتهم وكلامهم ما يمكن أن يعيد البوصلة الثورية الشعبية الخالصة لوجه الله؛ في تحرير إرادتنا وبلدنا ومستقبل شعوبنا، ولو رأوا ذلك لانقطع الدعم، فهذه البوصلة لا تريدها القوى الإقليمية والدولية، المعادية والداعمة على السواء، وإن العمل بتوجيهاتها أو ضمن حدود قيودها وشروطها، لم يوصل من قبل ولا يوصل الآن إلى استعادة البوصلة من جديد.
يوجد بطبيعة الحال مخلصون يرون أن العمل المحدود وإن كانت نتائجه ضعيفة ومحدودة ورغم إسهامها في ضياع البوصلة أفضل من تغييب ما بقي من إمكانات للعمل المحدود…
قال:
– تعني أنه لم يعد لنا أمل في العمل المثمر!
– معاذ الله، فلا يغيب الأمل العقدي والموضوعي عن مؤمن ذي بصيرة، ونسأل الله أن نكون من المؤمنين ومن ذوي البصيرة، ولكن:
خذ ممن يعطي ما في عطائه من إيجابيات ودع سواها ولا تشارك فيما يخوض فيه الخائضون؛ وأنت من الشباب، ولا ينبغي لشباب المستقبل وفتيات المستقبل الانقطاع عن إعداد أنفسهم وكفاءاتهم وعن تواصلهم وتشبيك علاقاتهم وتكامل تخصصاتهم، فبين أيديهم مهام أعظم وأكبر للنهوض والتغيير مما واجهناه في عقود ماضية، وما صمد خلالها إلا قليل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وأستودعك الله وأستودعه كل من يتابعنا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب