إنسان ما بعد النكبات

محور العجز هو الأنانية الفردية والانتمائية

تحليل – نشر يوم ١٠ / ٥ / ٢٠١٧م في مجلة اتحاد منظمات المجتمع المدني السوري

156
٥:٤٥ دقائق

 

تحليل

يمر بنا الخامس عشر من أيار / مايو فيذكرنا بنكبة ١٩٤٨م، ويمر بنا الخامس من حزيران / يونيو فيذكرنا بنكبة ١٩٦٧م، ويمر بنا سواهما فيذكرنا بنكبات أخرى، ولا بد من كلمة حاسمة: كفانا هذه السلبية في التفكير وفي الشكاوى من العجز.

نحن في حاجة إلى إنسان ما بعد النكبات، إنسان النهوض، إنسان العمل؛ نحتاج إلى صناعة أساسية تكوينية، لا تمنع من الأحلام المشروعة العريضة ولا تغفل عن الرؤى الموضوعية والكفاءات والتخصصات والمهارات العملية.

والخطوة الأولى هي إدراك عميق لمواصفات مطلوبة للإنسان الفرد، القادر على الخروج بالتعاون مع سواه، من منحدر صناعة النكبات والهزائم والتخلف، إلى مرتقى صناعة التحرر والعدالة والنهوض والتقدم.

دعونا من نكبات من صنع سايكس بيكو ووعد بلفور وما شابه ذلك ولننظر كيف أننا نحن من أصبحنا منذ عشرات السنين نمضي بأنفسنا وبقضايانا الكبرى المشتركة إلى مرحلة تمزيق الممزق، مرة بعد مرة، وجولة بعد جولة من جولات صراع صفري، بين مزق نسيجنا الاجتماعي.

إن مصداقية أي هدف وجدية أي عمل رهن برؤية حقيقة أوضاعنا وليس بتبريرها، ولا قيمة لما نصنع ما لم نضع في الحسبان متطلبات النجاح رغم وجود عمل مضاد وليس بتوهّم قابلية زواله من تلقاء نفسه.

ولا تناقض ذلك مع علمنا أن أول ما يسبب استمرار السقوط على منحدر النكبات والتخلف هو الاستبداد بمعنى قهر الإرادة الفردية والجماعية، ثم الفساد بمعنى تقويض الإمكانات الذاتية والقضاء حتى على براعمها الأولى؛ هذا ناهيك عن مفعول التجزئة الجغرافية ومفعول الأنانية الفردية والانتمائية.

لقد تسرب ذلك كله إلى صناعة الإنسان الفرد، إناثا وذكورا، ناشئة ونخبا، من خلال المناهج الرسمية ومن خلال ما نعتبره مستقلا عنها.

أما صناعة إنسان النهوض فمرتبطة بأداء مهمة تأسيسية تتجاوز مفعول صناعة إنسان النكبات والتجزئة والتخلف، وتعطي كلمة النهوض مضمونا متجددا يلغي أول ما يلغي توظيف التعددية في الهدم بدلا من البناء.

هذه المهمة أكبر من مهام أنشطة مجتمع مدني، كما نعرفها عن مجتمعات متقدمة ومستقرة نسبيا، فهنا تعتبر الأنشطة تكميلية في تكوين المجتمع، بينما نحتاج أولا إلى تثبيت أقدام الإنسان في مجتمعاتنا على الدرجة الأولى من درجات سلّم النهوض، المعنوي والمادي، مع تحرير الإرادة الفردية والجماعية الشعبية، واستعادة الحريات والحقوق.

لا بد للناشطين على هذا الطريق من تنشئة إنسان الآفاق الواسعة، القادر على توظيف الأهداف القطرية والانتمائية المشروعة توظيفا يتفاعل مع احتياجات جنس الإنسان، أي احتياجات أوسع نطاقا، فلا تبقى نظرته محاصرة بوطأة الاحتياجات الآنية والمحلية ووطأة النكبات والمعاناة والتخلف والتجزئة.

كل نشاط جماعي ناجح يبدأ منذ نشأته الأولى برؤى ذات آفاق واسعة، ومخططات ذات أبعاد إنسانية لما وراء الحدود، رغم الصعوبات والعراقيل التي تواجهها.

ونحتاج في ذلك إلى خطوط عريضة لرؤية جامعة بين منظومة القيم وحداثة الوسائل، والمقصود هو تلاقي فئاتنا المجتمعية على قواسم مشتركة مع استيعاب الوسائل الحديثة لعمل مشترك، دون أوهام تقول بضرورة التطابق أولا، وهو أمر مستحيل، أما البديل المنطقي فهو تكامل الأفكار والأهداف وصياغة مخططات تتضمن أعمالا تتكامل إنجازاتها عبر قواسم مشتركة بين قضايانا، وبين فئاتنا، وعبر قواسم مشتركة تضعف مفعول التجزئة في مجتمعاتنا.

ولا نغفل بالمقابل عن أن تغييب الآخر يعني غياب الذات المشتركة المتميزة، وخدمة ما تصنعه معادلة الهيمنة والتبعية في عالمنا المعاصر؛ ويستحيل أن نصنع نهوضا عبر من يقبل بموقع التابع بدلا من الشريك في البناء، فظهور الذات المتميزة هو الخطوة الأولى لرؤية قواسم مشتركة مع الآخر يمكن البناء عليها، وهذا ما نرجوه ونتطلع إليه.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب