مصانع التمييز العنصري في مسارات فلسفية
جذور تاريخية لسياسات وممارسات معاصرة
ورقة بحثية – نشرت في موقع إسلام أون لاين يوم ٢٢ / ٤ / ٢٠٠٩م
ورقة بحثية
تمهيد – رقيق بحكم الولادة – ظلمات على جبهة التنوير الأوروبي – عولمة العنصرية الأوروبية – المتاجرة السياسية المعاصرة
تمهيد
العنصرية والتمييز العنصري كلمتان كريهتان ثقيلتان على السمع، وثقيلتان في واقعهما التطبيقي كما عرفه التاريخ البشري، وأثقل من ذلك وجود من ابتكر لتطبيقهما نظريات شاذة، ليسوّغ لمن يمارسهما ويعتبر نفسه إنسانا ما، فيمارس بحق الإنسان “الآخر” ظلما فاحشا يجعل الحياة جحيما شيطانيا، ويصل إلى درجة القضاء على الحياة نفسها بالإبادة الجماعية، ثم يدّعي المنظرون فوق ذلك -أو يُدّعى لهم- أن لِما يقولون به في الفكر موضعا، وفي عالم القيم مكانة!
لقد عرف التاريخ عموما وتاريخ الفكر الفلسفي الغربي تخصيصا، تلك الصور المنفرة للتمييز العنصري تنظيرا وممارسة باستمرار، من قبل عهد أرسطو وأفلاطون، وعبر ما مرّ من ألوف السنين بعدهما، حتى أصبحت وقائع الممارسات مما لا يكاد يمكن تصديقه، لولا أنها كانت فعلا من وقائع التاريخ وشواهد الحاضر، وليست من ميدان التكهن والتأويل والافتراء، والأنكى من ذلك أن يرتدي الغرب نفسه اليوم رداء المحاماة عن “مكافحة العنصرية والتمييز العنصري”، وما تخلّص منهما داخليا ولا انتزع نفسه من الازدواجية في التعامل مع المتشبثين بهما على حسب درجة ارتباطهم به، ويصرّ فوق ذلك على تحصين ما يمارسه مباشرة أو يمارسه ربائبه بدعم منه، من ألوان التمييز العنصري، كيلا تنال منه كلمة العدالة منالا في عالم الضمير الإنساني، ناهيك عن قاعات المقاضاة والمحاسبة والردع والعقوبات.
من العناوين التاريخية لممارسة التمييز العنصري انطلاقا من “فكر” عنصري عناوين صارخة بمضامينها، لا تكاد توجد حاجة إلى تثبيت ما تعنيه تفصيلا عند النظر فيها بمعيار قويم للمعاني الإنسانية، وأبرزها: انتشار العبودية في العصور الامبراطورية، وتجارة الرقيق في العصور الاستعمارية، وانحرافات الرؤية المادية في حضارة “الإنسان الأبيض” في العصور الحديثة.
ولئن كان تسويد شرعة الغاب هو العنصر الحاسم من وراء تلك الممارسات الكريهة على امتداد أكثر من خمسة آلاف سنة، أي منذ بدأ تدوين التاريخ الغربي، فالأشد من ذلك أنه لم يكن يخلو عصر من تلك العصور من وجود فلاسفة ومفكرين من البشر، بكثرة ملفتة للنظر، ممن يسوّغون لمن يملك أسباب القوة في ظل شرعة الغاب أن يصنع ما يصنع، وينصبون حواجز “شبه” فكرية عقلانية في وجه من يمكن أن يتحرك بفطرته وإحساسه ومنطقه السليم معارضا لواقع قائم يرى فيه أخاه الإنسان ظالما لإنسانية الإنسان، سواء كان ظالما بما يمارسه، أو ظالما بسكوته عن ممارسات الظلم، أو ظالما نفسه بخضوعه لتلك الممارسات.
رقيق بحكم الولادة
في العصر الإغريقي كان أفلاطون يتحدث عن “أفضل” صيغ الديمقراطية في عصره فيما عرف بالمدينة الفاضلة (Politeia)، فيقسم الجنس البشري إلى طبقات، ويعزو مفكرون محدثون هذا المجال من فلسفته إلى ما يشابه ظاهرة التفرع الانفصالي (Dichotomie) المعروفة في علم الأحياء، وتعني على وجه التقريب عملية تفرع طبيعي لكيان حي واحد إلى جزئين منفصلين عن بعضهما انفصالا يمنع من تلاقيهما مرة أخرى.
وعدّد أفلاطون في مدينته الفاضلة مواصفات معينة للحطّ من شأن “فرع دونيّ” بشري، ومن ذلك أن يكون أنثى، أو غريبا، أو جبانا، أو بسيطا، ولم يكن ذلك موقفا “فلسفيا” فحسب بل كان وسواه من جذور ممارسات التمييز العنصري الإغريقي، وانتشار النظرة الاستعلائية داخل نطاقه وتجاه شعوب أخرى، ورغم ذلك كان هذا ما اعتبره المفكرون الغربيون المحدثون أساس قيام ما سمي الديمقراطية الآتيكية، نسبة إلى منطقة (Attika) حول أثينا، حيث كان مفهوم الرأي العام (communis opinio) محصورا في نطاق العرق الإغريقي “الأعلى مقاما”.
أما العلاقة بالشعوب والأجناس الأخرى فقامت على ما يُوزع عليها من مواصفات تعميمية، من ذلك اعتبار قبائل “تراك وسكوت” التي انتشرت ما بين أوروبا وآسيا آنذاك أقوام قتال وحرب، واعتبار الفينيقيين والفراعنة مسخرين للعمل والخدمة، أما الإغريق في أثينا وحولها فهم وحدهم الجديرون بتشكيل طبقة حاكمة، وتلك هي الطبقات الثلاثة التي قامت عليها نظرية أفلاطون بشأن “المدينة الفاضلة”.
ويكرر أرسطو ما قال به أفلاطون ومن عاصروه وسبقوه، ويزيد على ذلك في مثل قوله إن “العبيد ولدوا من الأصل ليكونوا رقيقا”.
ويشير فينسن روزيفاتش (Vincent Rosivach) من جامعة فيرفيلد الأمريكية إلى أن حمرة البشرة وشقرة الشعر كانت من مواصفات العبودية في نظر الإغريق لدى القبائل التي يتحدث أفلاطون عنها، وقد استُرقّ كثيرون من أفرادها في عهد الحاكم الإغريقي سولون (Solon، توفي ٥٦٠ ق.م على الأرجح) ويكفي لتقدير موقع ممارسة التمييز العنصري الإغريقي في الفكر الغربي التنويه إلى أن سولون هذا – وكان من الشعراء أيضا – يُصنف في مرتبة الحكماء السبعة من بين حكام الإغريق!
كان ذلك التصور عن لون البشرة والشعر أسبق من سواه فيما عرفه التاريخ الغربي من مقولات للتمييز العنصري بين إنسان وآخر على أساس مواصفاته الجسدية الخلقية، إنما كان الإغريق وكذلك الرومان، يعلّلون “أفضليتهم” المزعومة على سواهم بعوامل أخرى أيضا، و”يفلسفون” مفعولها، ومنها الموقع الجغرافي والمناخ المعتدل كما هما معروفان عن اليونان وإيطاليا منذ القدم، وقد قال بذلك أرسطو فيما ابتكره لتصنيف مراتب الشعوب غير الإغريقية من أوروبا وآسيا، فيما يشبه السلّم أو المنحدر، وأعطى أهل آسيا الصغرى (تركيا حاليا) المرتبة الدنيا فيه قائلا باستمرارية مواصفاتهم الولادية للرقّ.
ولا يفوت التنويه بأن فلسفة ممارسات التمييز لم تكن غائبة عند الفراعنة وقدماء أهل الصين والهند أيضا، بل يردّد المؤرخون الغربيون (مثل إيمانويل جايس Emanuel Geiss الألماني) أن مهد تنظير التمييز العنصري كان في الهند، حيث ما تزال آثاره معروفة إلى اليوم في التقسيم الطبقي الرباعي للمجتمع، وأعلاه البراهمة، وأوسطه كاشاتاريا من العسكريين وفايشا من التجار والمهنيين، وأدناه شودرا أو “المنبوذون”، مع تعليل ذلك بأسطورة “براهما”، الإله، أو الكائن العملاق الذي نشأت البشرية من خلال أعضائه المتفاوتة القيمة بعد التضحية به!.
ظلمات على جبهة التنوير الاوروبي
ليس مجهولا كيف انتقلت تطبيقات التمييز العنصري عبر استرقاق الآخر داخل الامبراطوريات القديمة وحيثما وصل احتلالها لأراضي الآخر، إلى العصر الوسيط الأوروبي الذي بلغت فيه سيطرة التحالف الإقطاعي-الكنسي مداها، فما كانت معاملة الإقطاعيين للفلاحين مختلفة في جوهرها ولا في مظهرها عن تعامل الرومان مع الرقيق، بينما كان طريق العلم محظورا على من لا ينتسب إلى طبقة النبلاء أو الكنيسة، وهو ما نشر ظاهرة الأديرة كمراكز معزولة ومحصنة لدراسة “العلوم السبعة” – وكان سواها من العلوم محظورا – ولعل انتشار المعرفة بتلك المظاهر على نطاق واسع في الوقت الحاضر يعود إلى تركيز الحقبة العلمانية الحديثة على إبراز الجوانب المظلمة – وهي كثيرة – في حقبة الاستبداد الإقطاعي والكنسي، ولكن قلّما تُنقل أفكار ومواقف تشوّه الصورة التعميمية المشرقة عن عصر التنوير (وكان فيه كثير من الإيجابيات امتدادا لما سمي حقبة الفلسفة الإنسانية قبله، وفيها الكثير مما انتقل عبر قرطبة وغرناطة وبغداد والقاهرة ودمشق إلى الفكر الغربي أواخر العصر الوسيط الأوروبي كما تشهد كتابات كثير من أهله آنذاك).
على أن في عصر التنوير أيضا الكثير مما يلقي ظلالا سوداء كثيفة على تلك الفترة، ومن ذلك على سبيل المثال دون الحصر قول فولتيير (Voltaire توفي ١٧٧٨م) الفرنسي، الذي يعتبر من أعمدة فكر التنوير الأوروبي: “جنس السود (ن ش: النيجر) نوع بشري مختلف كلية عن نوعنا البشري، كاختلاف كلاب سبانيلس (ن ش : أو إيباجنول: نوع من كلاب الصيد المميزة) عن كلاب الريح (ن ش: نوع آخر بقوائم طويلة يُستخدم في المطادرة لنشر الفزع بين ما يراد صيده من حيوانات) ويمكن القول إن مستوى ذكاء ذلك الجنس ليس مختلفا عن مستوى ذكائنا فقط، بل هو دونه إلى حد بعيد”، كما ورد في مقالة له، أي فولتيير، من عام ١٧٥٥م.
ويشير المؤرخ كريستيان جويلن (Christian Geulen) في كتابه (تاريخ العنصرية) إلى الأرضية الفلسفية لتلك الممارسات في عصر التنوير الأوروبي، ففلاسفة التنوير وأساتذته ساهموا من خلال سعيهم المطلق إلى درجة التعصب، من أجل تنظيم العالم بأسره تنظيما عقلانيا محضا، إسهاما كبيرا في إعطاء أرضية عقائدية للتصورات العنصرية التي سادت من قبلهم لمئات السنين على أرضية عقائدية أخرى، فأصبحت تصوراتهم تجذب كل من يميل إلى ممارسة التفكير العقلاني المجرد.
وليست هذه الشهادة الوحيدة على أحد الجوانب المظلمة في عصر التنوير في أوروبا، ومحورها أن العنصرية كانت من قبلُ تصورات يوجد من يحاول تعليلها من منطلقات غيبية أو دينية، فأضاف إلى ذلك عدد من فلاسفة التنوير أرضية علمانية، كما يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة هارفارد الأمريكية جورج فريدريكسون (George Fredrickson). وقد انطلق المؤرخ جورجيوس هورنيوس (Georgius Hornius توفي ١٦٧٠م) من معتقداته الكنسية ليقسّم البشرية إلى بيض (نسل يافث) وصفر (نسل سام) وسود (نسل حام)، أولاد نوح عليه السلام، بينما انطلق الفيلسوف الفرنسي فرانسوا بيرنييه (François Bernier توفي ١٦٨٨م) من لون البشرة والبنية الهيكلية وشكل الوجه في تقسيمه للبشرية إلى عدة طبقات متفاوتة، وحذر بعض الفلاسفة آنذاك من أن تداخل الأعراق البشرية – بالزواج مثلا – يؤدي إلى انقراض البشرية.
عولمة العنصرية الأوروبية
يؤرّخ الغربيون للعصر الحديث بعام ١٤٩٢م الذي شهد سقوط غرناطة ووصولهم إلى الأرض الأمريكية (يقولون: اكتشاف العالم الجديد، وكأن من كان يقطن فيه من قبل ليسوا من البشر!) إنما يمكن دون المبالغة تاريخيا أن يوصف هذا العام نفسه بميلاد أشد حقب التمييز العنصري ظلمة في تاريخ البشرية بنشره أو عولمته، مرافقا لانتشار الاستعمار الغربي.
كان المنطلق من أسبانيا وكانت جذوره تمييزا عنصريا دينيا محضا كما يؤكد فريدريكسون فيقول إن الأسبان اعتبروا المسلمين واليهود غرباء فور سيطرتهم على الأندلس وأطلقوا عليهم وصف “الخنازير – Marranos” ويضيف أن ما صنعوه يحمل جميع ما تمثله النظرية العنصرية، وليس مجهولا كيف كان التطبيق العملي عبر الإبادة والتشريد ومحاكم التفتيش وسواها.
وانطلاقة العنصرية والتمييز العنصري من أسبانيا في بداية العصر الحديث وفق منظور التأريخ الأوروبي كانت متزامنة مع انطلاقتها بوصول الأسبان ثم من تبعهم من الأوروبيين إلى أمريكا، فبدأت إبادة الهنود الحمر، ترافقها النظريات العنصرية أيضا، كما كان يجادل فيها كمثال بارتولومو دي لا كاساس (ـBartolomeo de las casas من كنيسة الدومينيكان، توفي ١٥٦٦م في مدريد) وخوان جينيه دي سيبولفيدا (Join geneh de sepulveda من الكنيسة نفسها، توفي ١٩٧٣م في مدريد) ومحورها “هل الهنود الحمر بشر؟ وهل ينبغي التعامل معهم على هذا الأساس؟” وكانا يستشهدان في جدالهما بما طرحه أرسطو من فكر فلسفي تحت عنوان: “البرابرة”.
وآنذاك بدأت الحملة الكبرى لتجارة الرقيق المختطفين من إفريقية لتشغيلهم في المزارع والمصانع الناشئة على الأرض الأمريكية، وكانت ظاهرة الرقيق تلك “نظاما” قائما بذاته ليس للأسباب الاقتصادية فقط، بل كانت تشمل تنفيذ اغتيال اجتماعي وثقافي للرقيق على حد تعبير فريدريكسون، وهذا – بالإضافة إلى ما شهده تاريخ أوستراليا – ممّا جعل كولين تاتس (Colin Tats) مدير “مركز دراسات الإبادة الجماعية” في سيدني الأوسترالية، يعتبر الإبادة أقصى صورة من صور العنصرية عالميا.
ومن تلك الفترة انطلق الإرث العنصري في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصبحت البشرة البيضاء هي العنصر الحاسم في تثبيت الحقوق السياسية والاجتماعية والفكرية، وكانت ذروة ممارسته في الفترة بين ١٨٩٠ و١٩٦٠م، ولا تزال آثاره مستمرة رغم التشريعات القانونية لإلغائه.
ويسري شبيه ذلك على مناطق أخرى من الأمريكتين، كما في البرازيل، حيث انتشرت “نظرية التبييض” ومحورها أن القضاء على العنصر الأسود بجلب المزيد من العنصر الأبيض الأوروبي، سيؤدي إلى تطهير المنطقة مع التنبؤ باستكمال ذلك كلية عام ٢٠١٢م، ولا يزال مفعول هذه النظرية ساريا، إلى درجة أن الصعود الاجتماعي لفرد من السود، كان يوصف بارتقائه من طبقة إلى أخرى داخل نطاق طبقات الجنس الاسود، وهذا ما قيل عن باراك أوباما، أثناء معركته الانتخابية على الرئاسة الأمريكية، مع الإشارة إلى أنه لا ينتسب إلى سود من الرقيق.
وحيثما وصل “المستعمر الأبيض” من أنحاء المعمورة كان يعتبر نفسه “سيد الجنس البشري” كما يقول عنوان كتاب لفيكتور كيرنان (Victor Kiernan) أستاذ التاريخ الحديث في جامعة إدينبورج البريطانية، فما يسري على الولايات المتحدة الأمريكية يسري على أوستراليا التي أصبحت دولة عام ١٩٠١م دون أن تنفصل عن تبعيتها للدولة البريطانية الاستعمارية، فكان شعار ما عرف بالحركة العمالية فيها “أوستراليا للرجل الأبيض”، واقترنت بطرد كل ذي بشرة غير بيضاء من البلاد، ممن كانوا ينتمون إلى الصين وغيرها في منطقة المحيط الهادي، كما أصبح الهدف الرسمي للبرنامج الانتخابي لحزب العمال الأوسترالي “الإقصاء المطلق لكل عنصر غريب”، وهو مما جعل الصحفي الأوسترالي ويليام لين (William Lane) يقول “إن ما يجري في أوستراليا عملية عنصرية ثمنها أوستراليا نفسها”.
ولا ينبغي في هذا الإطار استغراب تأثير تلك الجذور القديمة المستمر إلى اليوم، كما يشهد وقوف أوستراليا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض الدول الأوروبية في صف واحد في العمل على تحصين الممارسات العنصرية الصهيونية من مجرد النقد أو الإدانة في مؤتمرات دولية.
ويكفي بصدد إفريقية التنويه بانتشار مقولات من قبيل إن الأفارقة “إن لم يكونوا أنصاف حيوانات، فهم على الأقل كائنات دون ثقافة”، ولهذا يصبح قتلهم عملا حضاريا ويعتبر “الرشاش أداة حضارية”، كما وصفه الصحفي البريطاني والباحث في الشؤون الإفريقية هنري مورتون ستانلي (Henry Morton Stanley توفي ١٩٠٤م)، وقد كانت الكونجو نموذجا تطبيقيا صارخا لهذا التمييز العنصري الاستعماري، حيث فرض الملك البلجيكي ليوبولد عقب استعمارها مباشرة نظاما عنصريا استهدف نهب ثرواتها من الكاوتشوك والعاج والزيوت وغيرها، مع السيطرة العسكرية الدموية عليها، عبر فرض أعمال السخرة على أهل البلاد الأصليين. وما يسري على الكونجو يسري على سواها، وليس مجهولا ما عرفه الجنوب الإفريقي على هذا الصعيد.
المتاجرة السياسية المعاصرة
لم يبدأ النقد الذاتي على المستوى الأوروبي إلا في بداية القرن الميلادي العشرين، وكان من رواده تيوفيل زيمار (Théophile Simar) في كتابه “دراسة ناقدة لأشكال نظريات العنصرية” من عام ١٩٢٢م، وقد نشر بالفرنسية في باريس وبروكسل، وكان ردا على وصول الأفكار العنصرية إلى مستوى التمييز بين “البيض” أنفسهم، وهو ما بلغ مداه مع انتشار النازية الألمانية واعتبار العنصر الآري متفوقا على سواه. ويسري ذلك أيضا على كتاب جوليان هوكسلي (Julian Sorell Huxley توفي ١٩٧٥م) وآلفريد هادون (Alfred Cort Haddon توفي ١٩٤٠م ) بعنوان “نظرة في المشكلة العنصرية” من عام ١٩٣٥م.
وأول من حاول وضع تعريف للكلمة روث بينيديكت (Ruth Fulton Benedict توفيت ١٩٤٨م) الأمريكية في كتابها “العنصر – علوم وسياسات”، إذ اعتبرت العنصرية “تصورا عقائديا يرى نقصا طبيعيا كبيرا في مجموعة من البشر وتميزا طبيعيا كبيرا في مجموعة أخرى، ويربط أمل العالم الحضاري بالقضاء على أجناس واستبقاء أخرى نقية، ويعتبر عنصرا بعينه من وراء تحقيق التقدم في مجموع التاريخ البشري وهو المؤهل لذلك مستقبلا”.
وتبنت “الانسكلوبيديا العالمية” في عام ١٩٦٤م تعريفا آخر وضعه عالم الاجتماع آلبرت ميمّي الفرنسي من أصل تونسي (Albert Memmi) ويقول “العنصرية هي التعميم المطلق لقيمة فروق فعلية أو وهمية لتحقيق منفعةِ من يدعيها لنفسه ويلحق الضرر بضحيته، ليسوّغ تميزه وعدوانيته”.
إلا أن اتفاقية عام ١٩٦٥م العالمية لإزالة مختلف أشكال التمييز العنصري ثبّتت تعريفا بصيغة تقنينية يقول إنه “كل تمييز (بمعنى تفريق) أو استثناء، أو تحديد، أو تفضيل، يستند إلى العرق، أو لون البشرة، أو الولادة (النسب)، أو الموطن الأصلي، أو الانتماء الشعبي (القبلي)، بما يستهدف أو بما يؤدي، إلى حظرٍ أو عرقلةٍ، للاعتراف أو التمتع أو الممارسة، على قدم المساواة، لحق إنساني أو حرية أساسية، في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من ميادين الحياة العامة”.
وفي العام نفسه أكّد مؤتمر عالمي لمنظمة اليونيسكو أن مفهوم كلمة “العنصرية” لا ينبغي أن ينسحب فقط على تمييز ينطلق من اعتبارات فروق حيوية (كلون البشرة) بل على ما ينطلق من اعتبارات فروق اجتماعية أيضا.
على أن مجرد التعريف والتقنين لا يكفيان إذا ما كان مفعول القيم مغيّبا وراء مفعول المصالح المادية وألوان التعصب الممقوت، ولهذا نجد في العصر الحاضر كيف أن لفظة العنصرية كالتمييز العنصري موضع التنديد والإدانة – كما هو الحال مع لفظة “الإرهاب” مثلا – فلا ينقطع تداولهما في الميادين السياسية والقانونية الدولية والمؤتمرات العالمية، ولكن دون الالتزام التطبيقي بما اتُفق عليه على مستوى مواثيق أو حتى على المستوى الفكري عموما. وليس هذا إهمالا ولا عجزا غير مقصود، إنما يساهم تمييعُ ما يقتضيه التعريف الملزم، أو تجاهله بعد تثبيته، في فتح أبواب “المتاجرة السياسية” بمدلولات الكلمة، وهذا مطلوب لتمرير ما يراد تمريره وحظر ما يراد حظره بمفعول سيطرة شرعة الغاب، بدلا من شرعية دولية، ولهذا نشهد ما شاع في وصفه تعبير الازدواجية حول التعامل مع “كبار الإرهابيين وصغارهم” وكذلك في التعامل مع “كبار من يمارس التمييز العنصري وصغارهم”.
لا بد من الربط الوثيق بين عالم المعاملات البشرية، على مستوى الفرد، والمجتمع، والدولة، والعلاقات البشرية، وبين منظومة قيم فعالة، تنظيرا وتربية وتأهيلا وتقنينا، وهذا ما لا يمكن تحقيقه دون مفعول العقيدة في أعماق النفس البشرية وعلى صعيد السلوك اليومي، الفردي والجماعي، ولهذا كانت وستبقى نقطة الانطلاق الأولى والأكبر فعالية، للقضاء على العنصرية والتمييز العنصري، بمختلف أشكالهما، فكرا وممارسة، متمثلة في ولادة المساواة بين البشر باعتبارهم جميعا خلق الله تعالى، كما تعبر عن ذلك وترمز إليه كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) كما روى الإمام البيهقي، من حديث جابر رضي الله عنه.
ولا حاجة بنا في هذا الموضع إلى تعداد الشواهد كيف اقترن القول بالتطبيق على هذا الصعيد، كما خلدته كلمات من قبيل “أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا” أو “لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها”، أو “إنك امرؤ فيك جاهلية” أو مقاضاة أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه مع خصمه اليهودي، أو مقولة الفاروق رضي الله عنه “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.. وجميع ذلك وما تلاه تزامن مع حقبة الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض في أوروبا العصر الوسيط، ولن تزول الظلمات المعاصرة المتراكمة في حياة “الأسرة البشرية” دون العودة إلى تلك الثوابت الإسلامية الإنسانية الحضارية، عقيدة وقيما وتطبيقا ونظاما.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب