ورقة – مستقبل مختلف في بلادنا بتأثير كورونا؟
نظرة تحليلية استشرافية نشرت في فصلية قضايا ونظرات من إصدارات مركز الحضارة للدراسات والبحوث
ــــــــــ
(للتحميل: مستقبل مختلف في بلادنا بتأثير كورونا؟)
(للقراءة والتحميل: العدد التاسع عشر – فصلية قضايا ونظرات)
المحتوى
مقدمة
١- مؤشرات سلبية: أوضاع سلبية تأبى التغير والتغيير
على الصعيد الرسمي – على صعيد النخب التخصصية – على صعيد النخب التوجيهية
٢- مؤشرات إيجابية: وعي شبابي ومفعوله في غيب المستقبل
ولادة إنسان التغيير – جوهر التغيير النهضوي – معالم مؤشر الوعي
٣- محذورات الرؤى الاستشرافية:
قاعدة بحثية غائبة – سبق فكري وبحثي – محرك تغيير مستقبلي
خاتمة
هوامش
مقدمة
“لن يكون العالم بعد وباء كورونا / كوفيد – ١٩ كما كان قبله”!
هذه عبارة تتردد في كل مكان من العالم منذ رصد الأبعاد الكبرى للجائحة، ويجري طرح العبارة وتعليل مدلولاتها بأكثر من منظور تبعا لتعدد زوايا النظر والاهتمام في ميادين الصحة والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقيم والسلوك وغيرها.
وهو طرح عابر للحدود المعروفة جغرافيا وسياسيا وعرقيا ودينيا، إنما تتفاوت التوقعات وتختلف، تبعا لتفاوت درجات الموضوعية في أساليب من يطرحها، وتسلل تمنيات عاطفية – وإن كانت مشروعة – عبر بوابة أهداف منهجية، وكذلك تبعا لاختلاف المنطلقات الذاتية ثقافيا وسياسيا وماديا.. هذا مع ملاحظة ما يوجد من تفاوت أيضا في القدرات الفعلية للتأكد من صحة المعلومات الأساسية حول التعامل مع الوباء ونتائجه، ولرؤية مؤشرات التغيرات المحتملة محليا ومناطقيا وعالميا، وذلك بين الجهات المتابعة، التخصصية والبحثية وحتى الإعلامية، وما بين دولة أو منظومة دولية وأخرى، وحتى شعوب الأسرة البشرية.
يسري هذا عالميا، فتظهر الثغرات ونقاط الضعف في المنظومة الدولية بأسرها، لا سيما فيما يتبع للدائرة الحضارية “الغربية” الحالية مع امتدادات هيمنتها المتعددة الوجوه في واقعنا العالمي المعاصر..
ويعني ذلك فيما يعنيه وجود قوى تملك إمكانات كبيرة، لا تريد “التغير” بل تبذل جهودا ضخمة لاستبقاء ما كان من تلك الهيمنة، كما هو قبل ما أضافه الوباء من “معطيات” جديدة، بل تريد مضاعفة تحصين مواقعها لمواجهة مفعول المتغيرات.
ويسري هذا الإطار العام بطبيعة الحال أيضا على دوائر حضارية أخرى، لا سيما دائرتنا الحضارية، وعمادُها أمتُنا العربية والإسلامية، المتميزة بذاتها وتنوعها وفق منظومة الانتماءات المتكاملة فيها، العرقية والعقدية والثقافية معا..
وهنا توجد قوى ذات إمكانات محدودة وطاقات معطلة، تسعى في اتجاه حضاري مستقبلي مختلف، يمكن أن ينطوي على الاستفادة من تلك المعطيات الجديدة وسواها، أو يوجد عى الأقل تطلع مشروع لإيجاد تلك القوى ودعم إمكاناتها وتفعيل طاقاتها.
من المبكر إذن بين هذه العوامل المتضادة والمتداخلة الاعتقاد بقابلية الوصول في ورقة استشرافية إلى أركان بنية هيكلية مستقرة ومتكاملة لرؤية منهجية مستقبلية لتغيرات مرجحة، وإن كان هذا هو ما يراد الإسهام في نثر بذوره تحت عنوان استشراف أولي لحقبة ما بعد الوباء. ويعني تعبير “الإسهام” هنا أن الاستشراف الشامل المطلوب يتحقق بتعدد الرؤى من زوايا متعددة وتكاملها، وتقتصر مهمة الكاتب على طرح بعض المؤشرات الأولية للتغير، كما يقول العنوان، إضافة إلى التنويه ببعض المحاذير التي تواجه الرؤى الاستشرافية عموما بما في ذلك ما يشمل الموضوع المطروح.
هذا.. ولم تجد الشهور الأولى لانتشار الجائحة، وعلى وجه التحديد في دائرتنا الحضارية موضع البحث هنا، سوى مقالات تحليلية أو تعميمية أو حوارات إعلامية عامة مع بعض ذوي الاختصاص والخبرة، وهذا ما يمكن الاستشهاد ببعضه في هذا التقرير، مقابل غياب دراسات منهجية يمكن اعتمادها في استشراف المستقبل، فتبقى المؤشرات الأولية الواردة في الفقرات التالية، في حدود ما تعطيه الانطباعات الذاتية من المتابعة العامة لانتشار الجائحة، ولما ظهر للعيان أو وصل لوسائل التعبير، من صيغ التعامل معها، والتفاعل مع تداعياتها، وبالتالي ما يمكن استخلاصه من ذلك كخطوط عامة يرجى أن تفيد في دراسات متعمقة حول رؤى استشرافية منهجية، مع مراعاة محذورات يرجى تجنبها لتلافي الوقوع في شطط محتمل يؤثر سلبا على سلامة تلك الرؤى ويحدّ من مفعولها.
والله ولي التوفيق.
مؤشرات سلبية
أوضاع سلبية تأبى التغير والتغيير
على الصعيد الرسمي
إذا اعتبرنا محور المقصود بالتغير المستقبلي المرجو بعد جائحة كورونا / كوفيد – ١٩ الخطيرة، هو نوعية التعامل مع قضايا أساسية، مثل التقدم والعدالة والأمن والبحث العلمي والتطوير وغير ذلك على مختلف الأصعدة، أو التعامل مع قضايا ساخنة، مثل قضية فلسطين المصيرية إقليميا، أو قضية التفرقة الحافلة بالأزمات البينية على صعيد الدول والمناطق الإقليمية، فلا بد من التأكيد أن الجائحة لم تغير على الصعيد الرسمي شيئا يذكر في اتجاه إيجابي، إن لم نقل نقيض ذلك.
ولهذا عندما نرصد من يتنبأ لفترة ما بعد الجائحة بحدوث تغير ما في المنطقة العربية مثلا لا يُستغرب عدم انطلاقه من مبادرات تغيير ذاتية بل لا يتوقع ظهورها، إنما ينطلق بتنبؤاته “لدينا” من توقع حدوث تغير في السياسات والعلاقات الدولية، حتى إذا تحدث عن ضروة الاستفادة من فرص التغير، تحدث بصيغة الدعوة إلى التحرك أو صيغة التمنيات، كما يعبر عن ذلك د طارق فهمي في مطلع مقالة بعنوان “خيارات العرب المستقبلية بعد أزمة كورونا” فيقول: (واهمٌ من يتصور أن العلاقات العربية الدولية ستبقى على وضعها الراهن بعد انتهاء أزمة كورونا طالت أو قصرت، وهو ما يجب الاستعداد له جيدا من الآن سواء على مستوى الجامعة العربية أو على مستوى العلاقات العربية – العربية من جانب، والعربية – الدولية من جانب آخر خاصة أن شبكة التحالفات العربية الكبرى والتقليدية على المستوى العربي ستتغير بفعل التوقع بحرص الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا على مراجعة مجمل سياستها بصرف النظر عن استمرار بعض هذه الدول في اتباع سياسات مكررة في الدعم والتواصل وتقديم المساعدات والمنح، لمواجهة تداعيات أزمة كورونا) (١).
إن هدف التقدم الشامل لسواه من الأهداف مرتبط ارتباطا وثيقا بأن يكون هو جوهر الرؤى السياسية الرسمية والمخططات الاقتصادية والمالية والاجتماعية وغيرها، ولا يتحقق هذا كما ينبغي في عالمنا المعاصر دون درجة عالية من استقلالية القرار الذاتي، المتفاعل من موقع “الندّية” كما يقال مع تطور العلاقات الإقليمية والدولية، وهنا نجد في المنطقة المعنية في هذا التقرير – باستثناءات محدودة – أن المؤشرات المستقبلية سلبية للغاية، ومحورها استمرار التشبث باهتمامات سابقة لظهور الجائحة، لم تحققق من قبل هدفا كبيرا في ميادين التقدم والرقي ولا سواها، ولا يوجد ما يشير إلى أن تداعيات الجائحة ستدفع إلى تعديل حقيقي يطال تلك الاهتمامات من الجذور أو يطال على الأقل سلّم الأولويات فيما بينها، وفق ما يقتضيه السعي لتحقيق تقدم حضاري غائب منذ عقود.
وإلى جانب استقلالية القرار يبقى من شروط التغيير على صعيد التقدم أيضا شرط الوصول إلى استقرار حقيقي، عبر إفساح المجال لتخفيف مفعول ما يحول دون العمل لأهداف مشتركة، من أزمات داخلية بين الاتجاهات المتعددة، وبين الأنظمة والشعوب، وفي إطار العلاقات البينية بين الدول، وبالتالي غياب بيئة حاضنة للتنسيق والتعاون، وهو مما توجبه المتطلبات العملية لمواجهة تحديات كبيرة مثل الجائحة، كما يتطلبه التخطيط لما بعدها بصورة جادة.
يسري شبيه ذلك على صعيد تحقيق أهداف مشروعة في “قضايا محورية” مثل قضية فلسطين، فهنا أيضا نشهد أن من يتوقع تغيرا ما، لا يرى بذوره الضرورية الأولى في مبادرات ذاتية، بل في أن تسنح فرصة ما مع تصوّر حدوث معطيات دولية خارجية جديدة، يحتمل أن تقتصر على تخفيف درجة الضغوط مع استمرار الاتجاه السلبي للتطورات، ومثال ذلك قول د. طلال أبوغزالة في مقابلة إعلامية معه في برنامج “الحياة اليوم”، عبر شاشة “قناة الحياة”: (لا يمكن أن يحل موضوع فلسطين مع وجود دولة مهيمنة هي أمريكا حليف لإسرائيل، وعندما يدير أكثر من قطب الحياة الدولية، يمكن أن تحلّ) (٢).
وكما أننا في خضم مسارات الجائحة لا نرصد مبادرات ذاتية إيجابية في التعامل مع قضية “التقدم” كذلك لا نشهدها في قضية مصيرية ساخنة كقضية فلسطين بل نجد تفاقم ما يجري تحت عنوان ما يسمى “التطبيع” وازدياد حدة حصار أهل فلسطين، هذا إلى جانب ما نرصد من استمرار الغياب الرسمي عن مسارح الأحداث في قضايانا الأخرى كقضية كشمير مثلا رغم ما تشهد من تطورات سلبية، وكذلك كمثل آخر استمرار التناكف بين دول عربية وإسلامية بدلا من التنسيق والتعاون في ميادين مشتركة كالاستفادة من الثروات البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط أو المشاريع التطويرية للاستفادة من مياه حوض النيل، وهكذا.
والخلاصة:
إذا كان من تغير بعد الوباء في نطاق بلادنا فلا يعوّل في الاستفادة منه على أنظمة لا تتغير جذريا.
على صعيد النخب التخصصية
من أهم ما تطرحه جائحة الوباء عالميا قابلية تطوير العلاقات المباشرة بين النخب التخصصية، في المجال الصحي وسواه، وهو إن حدث فعلا قد يتجاوز تدريجيا مناكفات خطيرة مرتبطة بغايات الهيمنة السياسية والمادية، وقد حفل بها مسار انحرافات التعامل مع هذه الجائحة، ومن قبل في ميادين أخرى.
نعلم بوجود بعض الصيغ التنظيمية في نطاق هيئات عالمية واتحادات ومؤتمرات عابرة للحدود، للتواصل والتعاون التخصصي على مستوى عالمي، ومن ذلك ما هو بمشاركة عربية وإسلامية، ولكن لم يمنع التعاون العالمي من أن نجد في الوقت نفسه صيغ التعاون على مستويات إقليمية كما في أوروبا وسواها، وبالمقابل نفتقد في دائرتنا الحضارية، العربية والإسلامية، التعاون التخصصي، المنظم والمتكامل بدرجات ناشطة وفعالة.
ومن المفروض أن تدفع تداعيات جائحة الوباء إلى إيجاد مثل هذا التواصل والتعاون ومضاعفته حيث لا يوجد بشكل فعال حتى الآن، لا سيما وأن تعامل ما يوصف بالمجتمع الدولي أو ما يشبه “النظام” الدولي الحالي مع جائحة الوباء قد طرح بقوة قابلية تفاقم أخطار عديدة كانت موجودة من قبل، منها مثلا الخطر الكامن في تصعيد مرجح للتنافس المادي على صعيد صناعة اللقاحات والأدوية وتوزيعها.
والمقصود بالتعاون التخصصي أبعد مدى من مجرد وجود متخصصين متميزين، وقد ظهرت في الشهور الأولى من انتشار الوباء أسماء عديدة لمتخصصين من أصول عربية وإسلامية يعملون على مستوى علمي عالمي متقدم، مثل منصف السلاوي المغربي الأصل في الولايات المتحدة الأمريكية (٣)، كما ظهرت كذلك أسماء أطباء في مقدمة ضحايا مواجهة الوباء مثل أمجد الحوراني وعادل الطيار وحبيب زيدي من أصول سودانية وعراقية في بريطانيا (٤)، وعلى صعيد الدول صدرت عن تركيا خاصة تحركات معروفة لتصدير أدوات مكافحة الوباء إلى دول عديدة، بالإضافة إلى عدة إعلانات عن التقدم في مواجهة الوباء طبيا وعلى صعيد صناعة لقاح مضاد (٥)، إنما لم تظهر أية أخبار أو أنشطة أو حتى فعاليات إعلامية على مستوى تواصل الأجهزة العلمية والطبية ذات العلاقة ما بين البلدان العربية والإسلامية بغرض التعاون فيما بينها، ولا يزال الانطباع العام السائد أن العلاقات التخصصية بما فيها البحثية الهادفة، لاتزال في بلادنا أشبه بمرايا عاكسة لاتجاهات متعددة متفرقة من الارتباطات النوعية المتقلبة بين الأنظمة والقوى الدولية.
يعني هذا بمنظور متطلبات إحداث تغيير إيجابي وحسب معاييره أن ميادين التواصل بين المتخصصين لدينا تفتقر إلى عناصر كثيرة في مقدمتها الاستمرارية والقدرة على التخطيط للمدى المتوسط والبعيد، لا سيما وأن الارتباطات الخارجية المشار إليها سريعة التقلب لأسباب سياسية ومادية على حساب المصالح القطرية وعلى حساب الإنجازات المرجوة من التعاون التخصصي الإقليمي، ناهيك عن تعزيز التأثير السلبي لمعادلة الهيمنة والتبعية بدلا من تخفيفه.
إن غياب التغير بعد الجائحة على صعيد الأنظمة يضاعف أهمية تغير واقع المتخصصين في اتجاه التعاون الهادف.
على صعيد النخب التوجيهية
يعطي “تغير” المعطيات والظروف العامة بفعل جائحة كورونا وتداعياتها فرصا سانحة لعملية “تغيير” هادفة، ولكن تفعيل هذه العملية يتطلب جهودا خاصة من جانب النخب التوجيهية، العلمية والفكرية والدعوية والأدبية والإعلامية وما شابهها.
ومع التنويه بما يبذله مركز الحضارة للدراسات والبحوث من جهود بحثية توجيهية رائدة ومتميزة، ففيما عدا ذلك لم يظهر على صعيد التعامل مع جائحة الوباء أي جهد توجيهي يلفت الأنظار ويتجاوز حدود بعض الدعوات العامة بصيغ إعلامية، ولا يستهان بأهمية ذلك، ولكن نعلم أنه لا يكفي للربط بين آليات التواصل والتشبيك والتعاون، وبين معطيات جديدة عموما بعد الجائحة، وأخرى يمكن صنعها ويجب صنعها.
لقد غلب على أقلام النخبة في المنطقة العربية والإسلامية الحديث عن الواقع دون استشراف مستقبلي غالبا، وربما استسهلت تعليل الإجراءات المتخذة لمكافحة الوباء أو نقدها دون التطرق لما ينبغي أن يترتب عليها وكيف يستفاد من حالات النجاح والإخفاق، في اتجاه “التغيير”، ولئن تعددت زوايا النظر في التعامل مع الجائحة إنما قليلا ما تضمن ذلك نظرة استشرافية، ويسري ذلك على كتابات متميزة مثل “كورونا وأخلاقيات الأوبئة” لبيان العامل الأخلاقي وتأثيره، بقلم معتز الخطيب (٦). وحتى إذا مسّت هذه الأقلام الجانب الاستشرافي، فغالبا ما يقتصر ذلك على خطاب الدعوة العامة إلى استخلاص الدروس كما يظهر حتى فيما ينشره موقع يطلق على نفسه اسم “النخبة” (٧).
لقد أثارت الجائحة الكثير على مستوى عموم سكان المنطقة العربية والإسلامية، وهذا ما يشمل الجوانب العقدية والأخلاقية والسلوكية وغيرها، ولعل التحرك العام عبر المشاعر والعواطف وتبادل الأفكار في مواجهة أزمة الوباء، يمكن أن يوجد تربة “شعبية” خصبة للإحساس بالحاجة إلى التغيير، ولكن نبتة التغيير في هذه التربة تحتاج بدورها للرعاية، لا سيما بعد معاناة سنوات ربيع الثورات العربية، والمقصود برعايتها أن تجد طرحا نخبويا توجيهيا يكشف عن مواطن التغير التي صنعتها الجائحة، وبالتالي عن وجود ثغرات جديدة فيما يبدو من متاريس “واقع مادي قائم”. وإن ظهور هذه الثغرات للعيان ضروري لصناعة دوافع جديدة نحو العمل للتغيير، وهذا بالذات هو واجب النخب العلمية والأدبية والفكرية وما شابهها أكثر من سواها، إلا أننا نفتقده طوال الشهور التي مضت على انتشار الجائحة وظهور أبعادها التغييرية عالميا ومحليا.
هنا يمكن تكرار ما سبق ذكره بشأن النخب التخصصية:
إن غياب التغير بعد الجائحة على صعيد الأنظمة يضاعف أهمية تغير واقع النخب التوجيهية نحو ممارسة تعاون هادف.
مؤشرات إيجابية
وعي شبابي ومفعوله في غيب المستقبل
ولادة إنسان التغيير
١- لئن غلبت المؤشرات السلبية للوهلة الأولى في استشراف ما بعد كورونا في المنطقة العربية والإسلامية فمن أسباب ذلك اعتيادنا منهجيا على الانطلاق تحليلا وبحثا واستشرافا من محاور تقليدية ثابتة، وهذا صحيح بحكم دراستها من قبل والتأكد من النتائج بوضعها على المحك عبر الخبرة والتجربة.
ليس في هذا خطأ من حيث الأساس، ولكن لا يوصل وحده إلى الصواب فمن المعيقات مفعول الضغوط النفسية مما نعايش حقبة بعد حقبة على منحدر التخلف حضاريا والتراجع واقعا، فمن آثار ذلك ضعف الثقة بالذات الحضارية، الفردية والجماعية، ووجودها هو المنطلق لأي تغيير. هذا علاوة على عوائق ضغوط المآسي “المصنوعة” صنعا في غالب الحالات، والمتعاقبة في موقع بعد آخر، فالمآسي تضعف محاولات التحرك الهادف والفاعل للتغيير.
وما دمنا نبحث عن مؤشرات مستقبلية دون تجاوز آفاق هذا الواقع السلبي، فسينقصنا في استشراف منهجي لاحتمالات التغيير على وجه التخصيص ما يمكن وصفه بالقاعدة البحثية الغائبة (انظر لاحقا تحت عنوان محذورات الرؤية الاستشرافية).
٢- إن المحاور البحثية التقليدية وليدة الخبرات الماضية تتحرك ضمن إطار المعروف سابقا ولا تضع في حسابها وجود “عناصر” جديدة لم تظهر بعد، وهي بالذات التي تعتمد عليها أي حركة للتغيير.. ولهذا ينبغي التركيز عليها “تصوّرا وتقديرا” في أي رؤية استشرافية إلى جانب التركيز “بحثا واستنتاجا” على رؤية المعطيات الجديدة المضافة، كعوامل إيجابية مساعدة، أو سلبية معيقة، لعملية التغير أو التغيير.
٣- هنا وبالعودة إلى “ما بعد جائحة الوباء” ينبغي التأكيد أيضا أن ما سيقع في مستقبل دائرتنا الحضارية سلبا أو إيجابا، لا تصنعه ما أحدثته وتحدثه مباشرة من معطيات جديدة في مختلف الميادين، بل سيصنعه التعامل معها مع مراعاة ما يوجد إلى جانبها من معطيات مشابهة ومغايرة من صنع أحداث أخرى (مثل الأزمات المالية والتبدلات المناخية). إن للمعطيات المستجدة من حدث بحجم جائحة الوباء مفعولا كبيرا ولكنه لا يلغي بالضرورة استمرارية مفعول ظروف ومعطيات سابقة، سلبية وإيجابية، فكريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.
٤- ولكن حتى بعد تعداد جميع المعطيات والظروف القديمة والمستجدة لا نغفل عن أنها ليست هي المحرك “الفاعل” في التغير/ التغيير المقبل، بل هي إضافات متجددة على محتويات وعاء ظروف ومعطيات دائمة التجدد والتطور. أما عملية التغير والتغيير فتتضمن وجود الطاقة البشرية القادرة على “استخدام” تلك المعطيات، فهي المحرك الذي يجمع الاستعدادات الذاتية النوعية، الحالية والمحتمل تطويرها، الفردية والجماعية، العامة والتخصصية، الرسمية والشعبية، وذلك للتعامل مع ذلك الوعاء الظرفي بمجموعه، منذ الآن أثناء الجائحة ومن قبلها وفي قادم الأيام.
٥- إن التغيير المحتمل بعد الوباء، على صعيد أمتنا وقضايانا الكبرى، لا تصنعه جائحة الوباء بحد ذاتها، بل يصنعه الإنسان بالمعنى الواسع للكلمة (الكفاءة.. التخصص.. التخطيط.. الإدارة.. هرم الفئات العمرية.. إلى آخره) عبر تعامله مع المعطيات السابقة ومفعولها باق ومستمر، ومع ما طرأ ويطرأ من مستجدات ذات المفعول الإضافي، والحصيلة هي حصيلة تبادلية بين الخصائص والقدرات الذاتية من جهة، وبين المعطيات والظروف ومسار تطورها من جهة أخرى، وهذه معادلة لا تنحصر في إطار حدث بعينه، بل تشمل ما انعكس منها على أرض الواقع قبل ظهور حدث جائحة الوباء، مثل موجة الثورات الشعبية، مثلما تشمل ما يتتابع ظهوره وانتشار تأثيره ابتداء من “منعطف” ما بدأ يصنعه الوباء.
جوهر التغيير النهضوي
الجواب بنعم يقتضي التنويه بالمقصود بعملية “التغيير”، فيقتبس كاتب هذه السطور فقرة حول جوهر التغيير النهضوي المطلوب من موجز محاضرة ألقاها في “ملتقى الحضارات” في الرباط يوم ١٤ / ١١ / ٢٠١٩م قبل ظهور الجائحة (٨).
١- القسط الجوهري المشترك بين سائر الحضارات المتعاقبة أو ما يقال إنه مشترك في الأساس، هو خير الإنسان وهو البوصلة لضوابط المسار الحضاري لكل منها.
٢- الحضارات كالإنسان، تولد وتنمو، ويشتد عودها، وتفسد فتضعف، ثم تورّث ما أنجزت ماديا وتقنيا وعلميا لسواها طوعا أو كرها.
٣- الحضارة تحفظ في جوهرها دوما قسطا من الإيجابيات الثابتة على مر العصور حول محور خير الإنسان، وهذا بعض المقصود بكلمة الأصالة، فهي مستمدة من القديم والجديد معا.
كما تتجلى الحضارة أيضا في عمرانها ليس انفراديا بل كحلقة من حلقات مسلسل الإنجاز البشري من تطورات تقنية وعلمية، وهنا تكون اللحظة الآنية لما يصل إليه مسار الإنجاز الحضاري تقنيا وعلميا هو المقصود بكلمة المعاصرة.
٤- ليس التغيير النهضوي إذن مجرد عملية هدم مطلق وبناء من نقطة الصفر بل هو متابعة الطريق عبر تجديد الأسس والمبادئ وتقويم الانحرافات وتحسين الأداء.
٥- كل تغيير نهضوي قويم ينبثق عن مسار تغييري بوسيلة مناسبة، فيحيي الجوهر الحضاري الإنساني الأصيل المشترك نظريا، أي يستعيد أولوية محور خير الإنسان، ويعتمد في الوقت نفسه على الصحيح المفيد من آليات الواقع المتطور المعاصر).
بهذا المعنى للتغيير الحضاري النهضوي يمكن القول إن ما يمكن استشرافه من ثنايا التفاعل مع جائحة وباء كورونا هو جزء من عملية ولادة إنسان التغيير وهي عملية جارية قبل الوباء، ولا يمكن تحديد تاريخ البداية بدقة، إنما لا شك أن من أهم مظاهرها في بلادنا العربية والإسلامية موجة الثورات الشعبية العربية، ويمكن أن نشهد استئناف المسار بعد الجائحة، مع ملاحظة أن كل حقبة من هذا المسار نحو بناء حضاري تتخذ معالم وأدوات ووسائل جديدة تختلف عما سبقها، ولا نستطيع عبر البحث العلمي أو التقديرات العامة أن نتكهن بنوعيتها مسبقا.
قد تمنع ضغوط معايشة سلبيات الواقع القائم من رؤية شواهد قطعية على تلك الولادة، ولكن يمكن عبر المتابعة العامة للتعامل مع الأحداث.. (الثورات.. الجائحة..) أن نرى معالم لمؤشر وعي حضاري جديد على مستوى الشبيبة، ذكورا وإناثا، على امتداد المنطقة العربية والإسلامية وإن تباينت أشكال التعبير.
معالم مؤشر الوعي
ما هو المقصود بتعبير الوعي بالواقع الحضاري وأدوات النهوض؟
قبل الجائحة وفي غياب قاعدة بحثية لرؤية المستقبل، يمكن مثلا أن نرى وعيا جديدا في إقبال جيل الشبيبة المشرد عن سورية تخصيصا على دورات تأهيل في ميادين عديدة (مثل إدارة الأزمات.. التنمية البشرية..) وهي ميادين لم تكن موضع الاهتمام الفردي والجماعي من قبل، ولكن ظهر للعيان أن النقص على هذا الصعيد ساهم في الانحراف بالمسار الثوري عن منطلقاته الأولى.
ويمكن مثلا آخر أن نرى وعيا متجددا في أساليب التحرك الشبابي الثوري في الجزائر والسودان ولبنان بعد نكسات ما سمي ربيع الثورات الشعبية العربية، ومن تلك الأساليب (وهي هنا مثال دون تفصيل..) عدم الوقوع في فخ ردود الأفعال المتسرعة على استفزازات عمليات القمع والعنف.
وهنا يتكرر تأكيد استحالة النظر في قضية بحجم تداعيات جائحة كورونا مجردة عن سواها، وكذلك ما ينتظر من مؤشرات التغيير الناجمة عنها، فإنما يظهر موقعها من المسار التاريخي عبر وضعها ضمن حزمة مؤشرات التغيير الصادرة عن أحداث أخرى كالثورات.
لقد كانت الثورات وما سبقها من انتفاضات وليدة انكشاف ما يعنيه الاستبداد والفساد محليا ودوليا، بعد الاحتلال والاستعمار قديما. وعلى غرار ذلك يمكن أن نشهد مسارا تغييريا جديدا بعد الجائحة فيكون وليد ما كشفه التعامل المحلي والدولي مع جائحة وباء كورونا، ومن ذلك:
١- تغييب عنصر الإنسان وكرامته وحقوقه تحت وطأة هيمنة المنفعة المادية وتغليبها على ما سواها إلى درجة الاستهتار بحياة الإنسان نفسه وصحته وسلامته، وهذا في واقع كثير من الدول المتقدمة علميا وتقنيا وصناعيا، وفي الواقع العالمي عموما.
٢- مدى انكشاف ثغرات الضعف الداخلية في البنية الهيكلية لقوى مهيمنة عالميا، وهي التي تملي مسارات الانحراف عن جوهر الحضارة الإنساني.
٣- ظهور نماذج ذات تأثير كبير على استعداد الإنسان الفرد إلى المخاطرة بنفسه لأداء واجبه الإنساني والحضاري تجاه سواه.
لا يمكن وصف ذلك بمؤشرات واضحة المعالم من مسار جائحة كورونا ولكن يمكن طرح السؤال عن قابلية أن يؤدي انكشاف هذه المعالم العامة لواقع مرفوض إلى رؤية قويمة وجهد مفروض على مستوى جيل الشبيبة في دائرتنا الحضارية للعمل على تحقيق تغيير حضاري إيجابي.
و(تبدو الإشكالية المستعصية في الوضع الحضاري البشري الراهن أنه يجمع في وقت واحد:
– بين استفحال مخاطر الانهيار: وهذا عبر ضياع بوصلة جوهر الحضارة، أي تحقيق الخير لجنس الإنسان دون تمييز
– وبين معضلة أن استمرارية الانهيار تتضخم وتتسارع كنتيجة غير مطلوبة لتوظيف أدوات الحضارة المهيمنة وتقنياتها في محاولات “منع تصحيح مسارها” خشية الانهيار بمعنى خشية خسارة الهيمنة حضاريا) (٩).
إن المعالم العامة لولادة إنسان التغيير هي المؤشر الأهم من سواه لقابلية أن يصبح ما بعد جائحة كورونا أفضل حضاريا وإنسانيا مما ساد قبلها، ولا يتحقق ذلك إلا بعملية تغيير يطلقها جيل الشبيبة عبر استخدام أساليب ووسائل جديدة، قد يكون في مقدمتها آليات التخصص والتكامل والتشبيك بدلا من آليات حقبة سابقة اعتمدت على الزعامات الكبرى والمسارات المحلية والتنظيمات الجامعة.
محذورات الرؤى الاستشرافية
رؤية ما وراء الأفق فكرا وتطبيقا
المقصود بالمحذورات هنا بعض المعطيات أو الممارسات التي قد تساهم في انزلاق الباحث عن رؤية مستقبلية، إلى ارتكاب أخطاء غير مقصودة تهبط بقيمة النتائج التي يتوصل إليها، وفي الفقرات التالية محاولة تحديد بعض تلك المحظورات كأمثلة على خلفية ما سبق تأكيده من الحاجة إلى رؤى استشرافية عديدة تتكامل مع بعضها لترجيح ما ستشهده حقبة ما بعد الجائحة من فرص وعقبات للتعامل الهادف مع ما صنعته وتصنعه من معطيات، على أمل تحقيق تغيير حضاري انطلاقا من الدائرة الحضارية العربية والإسلامية.
قاعدة بحثية غائبة!
سبقت الإشارة إلى أن البحث عن رؤية استشرافية يواجه غالبا مستجدات لم يسبق وضع قواعد بحثية مجربة لها فلا يمكن ضمان النتيجة تماما، والمعتاد أن يعتمد استشراف التوقعات المستقبلية في العلوم الإنسانية، لا سيما في علم الاجتماع، على الانطلاق من رصد التشابه بين عناصر مسار حدث جديد يراد استشراف نتائجه مع عناصر مسارات أحداث سابقة، سبقت دراستها واستنبط الباحثون فيها قواعد منهجية فاكتسبت مع مرور الزمن صبغة ديمومة صلاحيتها، فيطبقها الباحثون في دراسة الحدث الجديد لترجيح رؤية على سواها بالنسبة إلى تداعيات الحدث المستقبلية.
هنا تزيد احتمالات الخطأ عندما يشمل موضوع البحث المستجد عناصر لم يسبق أن واجهها الباحثون سابقا، وبالتالي لا توجد بشأنها ما يمكن الاعتماد عليه من قواعد أو فرضيات خضعت للتجربة بدرجة كافية.
على سبيل المثال ظهرت منذ مطلع القرن الميلادي العشرين وتتابعت حتى الآن كتابات ودراسات رصينة حول مآلات ما يشبه الامبراطوريات من كيانات سياسية وحضارية في العالم المعاصر. وقد اعتُمدت في ذلك حصيلة دراسات سابقة حول أسباب نشأة امبراطوريات قديمة وسقوطها، ولكن دخلت حديثا عوامل جديدة تماما وذات تأثير كبير على البنية الهيكلية للكيانات المعاصرة وآليات عملها وميادين نجاحاتها وإخفاقاتها، فلا يصح هنا تطبيق كثير من القواعد السابقة، ولهذا كانت نتائج تلك الدراسات على امتداد أكثر من قرن، تنطوي على النقص أو الضعف أو التناقض أو جميع ذلك معا، من حيث تنبؤاتها الاستشرافية، حول سقوط قريب أو زعامة انفرادية أو بسط السيطرة المطلقة.. تارة حول الولايات المتحدة الأمريكية، وأخرى حول منظومة العالم الغربي، وثالثة حول النظام المادي الرأسمالي، وهكذا.
بغض النظر عن استحالة أبدية وضع بعينه وعن حتمية السقوط بحد ذاته، فإن الخطأ المحتمل في التنبؤات الاستشرافية بشأن الموعد والكيفية والنتائج، يتناسب طردا مع مدى جدّة حجم العناصر الطارئة وحجم مفعولها في نطاق الموضوع المعني في كل منها.
لا بد إذن من الحذر في البحوث المواكبة من منظور معرفي واجتماعي وحضاري لاتجاه الريح – كما يقال – في متابعة مسارات حدث جائحة كورونا عام ٢٠٢٠م، بما في ذلك استشراف نتائجه المستقبلية، لا سيما عند استقرائها بالمقارنة مع نتائج ما اشتهر من أوبئة تاريخية منذ الطاعون في مصر قبل الميلاد بألف وخمسمائة سنة، أو طاعون “الموت الأسود” في القارتين الأوروبية والآسيوية في القرن الميلادي الرابع عشر، وحتى وباء “الإيدز / نقص المناعة الذاتية” الذي ظهر سنة ١٩٨١م ولا يزال منتشرا.
وإذا كانت مراعاة الحذر مطلوبة عموما في استشراف حقبة “ما بعد الجائحة” فهي مطلوبة أكثر عند النظر في جانب بعينه من جوانب البحث المتعلقة بذلك، مثل التركيز على مؤشرات التغير المحتملة في مستقبل الأمة وقضاياها في الدائرة الحضارية العربية والإسلامية، فهذا بطبيعة الحال جزء من المشهد ضمن إطار أوسع للدراسات والبحوث المعنية في عالم معاصر تتداخل فيه أجزاء المشهد الواحد وتتفاعل مع بعضها بعضا أكثر من أي وقت مضى.
إن القاعدة الاستنباطية لربط منهجي بين واقع الحدث المرئي حاليا ومستقبل تداعياته المحتملة، قاعدة غائبة حتى الآن، ولا ينتظر أن تثبت منهجيا بمعايير علم الاجتماع وعلم التأريخ، إلا بعد دراسة نتائج الحدث على أرض الواقع.. أي مستقبلا، وأقصى ما يمكن صنعه مسبقا – أي الآن – هو “نحت” أو تصوّر مثل تلك القاعدة فكريا لتكون لدى الباحث في منزلة فرضية استباقية تكتسب قيمتها الفعلية بقدر ما قد يظهر – مستقبلا أيضا – من شواهد داعمة لصحتها.
يعني ما سبق على سبيل المثال أن ما نرصده في أن بعض الدول من دائرتنا الحضارية مثل تركيا، قد لعب أثناء انتشار الجائحة دورا ظاهرا للعيان على صعيد تصنيع ما تحتاجه الأسرة البشرية لمكافحة انتشار الوباء، هذا “العنصر الجديد” نسبيا لا يكتسب بجدارة وصف “مؤشر أول لتغير مستقبلي” إلا بشروط، منها:
(١) أن يكون الإنجاز من البداية جزءا من منظومة متكاملة في ميادين الإنتاج والتصدير والعلاقات الدولية.
(٢) أن يكون بأثر مستدام بأن تنقضي فترة زمنية كافية لرصد استقرار ذلك الإنجاز ومفعوله.
(٣) أن ينجح توظيفه سياسيا واقتصاديا وثقافيا في اتجاه إحداث تغيير في نوعية العلاقات البشرية.
(٤) أن يتجاوز هذا الإنجاز عراقيل المحاولات المضادة “التنافسية.. النزيهة وغير النزيهة” من جانب قوى مستفيدة ماديا من هيمنتها عالميا، وحريصة على عدم وقوع ثغرة في ذلك.
سبق فكري وبحثي؟
أصبحت نتائج أي حدث في عالمنا المعاصر تتجاوز في كثير من الأحيان آفاق التنبؤات، نتيجة تسارع حركة التطورات غير المسبوق، وتأثير التقنيات الحديثة الواسع النطاق، والتفاعلات من وراء الحدود وقد غدت بالغة التعقيد.
بالمقابل لا يخفى أن تسارع نشر الأخبار ومتابعتها بلغ درجة غير مسبوقة أيضا، علاوة على انفتاح المجال لذلك أمام الحرفيين والعامة، إنتاجا واستهلاكا، وهو ما ضاعف بالمقابل نسبة تمرير تحريفات مقصودة وأخطاء غير مقصودة، لا سيما من خلال ما يعرف بظاهرة السبق الصحفي، وكما أن التخلف عن المواكبة الفكرية والبحثية للحدث تخلف خطير فمن الخطورة بمكان أيضا أن تنتقل حمى السبق الصحفي إلى الجانب الفكري والبحثي في كتابات متسرعة، مع إعطائها صبغة منهجية دون استيفاء شروطها.
بعض التوقعات “السريعة” أشبه بالبدهيات مثل الحديث عن استمرار قصور الأنظمة، ورغم ذلك قد يحتاج إلى بيان الدليل، ومنها كتوقع مزيد من التمسك بالدين والقيم، قد يحتاج إلى بيان، وممن ساهم في ذلك المفكر المغربي محمد يتيم، إذ ورد في مقالة له: (غير أن هذه العودة تحمل في طياتها بعض الانزلاقات والمخاطر، في ظل غياب وعي ديني مستنير بحقيقة الدين والعلم في نفس الوقت؛ فالشعور الديني غير المؤطَّر بفهم روح الدين ومقاصده قد يكون كارثة) (١٠).
ونجد بالمقابل أصواتا عديدة ترى أن الشعوب بعيدة عن استيعاب حجم الخطر والوعي به، ناهيك عن إمكانية التوظيف الإيجابي لنتائج المحنة، كما يؤخذ من استطلاع أجراه موقع رصد، ونشرته وسائل إعلامية عديدة تحت عنوان “استطلاع آراء بعض الباحثين” (١١).
وتوجد أيضا تنبؤات رصينة تشير إلى اضطرابات ما بعد الصدمة، كما نسب إلى الباحث في علم الاجتماع حميد الهاشمي في إطار مقالة بعنوان “ما بعد كورونا.. ما الذي سيتغير”، ولكن التغير القيمي والسلوكي وما شابه ذلك هو من قبيل تغير العادات والتقاليد وهو ما يحتاج إلى زمن أطول (١٢).
وهذا ما يشير إلى “العامل النفسي” الذي يراه الخبير في الصحة النفسية أحمد السمري من زاوية أخرى فيقول “إن ظهور وانتشار فيروس كورونا لن يؤثر على الحالة النفسية لغالبية العرب بنفس حجم تأثيره على شعوب العالم الغربي، حيث شهد العرب كوارث أخرى كثيرة”، كما ورد في مقالة بقلم دينا البسنلي، بعنوان “هل نحن مستعدون نفسيا للتعامل مع ما يثيره كورونا من مخاوف؟” (١٣).
محرك التغير المستقبلي
لا ينبغي لرؤية مستقبلية أن تقيد نفسها بمعطيات الحاضر لا سيما وأن “التغير والتغيير” عنوان واقع مستقبلي، لا يمكن أن يصنعه جيل معاصر ضمن معطيات معاصرة، فينبغي لمن يساهم في طرح الرؤى الاستشرافية أن يحرص على نظرة تتجاوز الآفاق الحالية نحو المستقبل ومعطياته المرجّحة، ونحو جيل المستقبل ومواصفاته المرجوة.
وبغض النظر عن الواجبات المفروضة أو المرجوة انطلاقا من ضرورة “المبادرة” للتحرك حضاريا في دائرتنا الحضارية وفي مستقبل قضايا أمتنا، فإن الحديث عن التغير بعد جائحة كورونا تحديدا هو جزء من فرضية تنطلق ذهنيا من أن الخلل الطارئ بسبب جائحة كورونا، على مكونات عالمية، سياسيا واقتصاديا وقيميا واجتماعيا، سيصبح خللا دائما ويصنع ثغرات متفاقمة في معادلة الهيمنة والتبعية، ولكن:
هل سينفسح المجال الظرفي أمام الدائرة الحضارية العربية والإسلامية لتتجاوز المواقع الدونية الحالية على كل صعيد، وربما لتعمل من أجل ملء الثغرات الناشئة في واقع الأسرة البشرية حضاريا؟ إذا صح ذلك فما هي المحركات الأساسية الدافعة لتحقيق المطلوب؟
كل عملية تغير تقوم على عناصر بنيوية أساسية، أهمها:
أولا: البيئة العامة.. ظروف ومعطيات قائمة ومتبدلة في بداية انطلاق حركية التغير
ثانيا: الهدف النخبوي.. رؤية استشرافية للمعالم الكبرى لمسار التغير ما بين المحتمل والمطلوب والممكن
ثالثا: الطريق التخصصي.. تخطيط حرفي متجدد مع المستجدات يراعي المراحل المتتابعة لعملية التغيير
رابعا: الوسيلة المتطورة.. جهود متكاملة مستدامة باتجاه التغير المتوقع أو التغيير المطلوب
هنا ينبغي التأكيد أن التغيير المحتمل بعد الوباء، إنما يصنعه الإنسان بالمعنى الواسع للكلمة (الكفاءة.. التخصص.. التخطيط.. الإدارة.. هرم الفئات العمرية.. إلى آخره) عبر تعامله مع المعطيات السابقة المستمرة ومع ما طرأ ويطرأ من مستجدات ذات العلاقة، والحصيلة هي حصيلة تبادلية بين الخصائص والقدرات الذاتية من جهة، وبين المعطيات والظروف ومسار تطورها من جهة أخرى، وهذه معادلة لا تنحصر في إطار حدث بعينه، بل تشمل ما انعكس منها على أرض الواقع قبل ظهور حدث جائحة الوباء، مثل موجة الثورات الشعبية، مثلما تشمل ما يتتابع ظهوره وانتشار تأثيره ابتداء من “منعطف” ما بدأ يصنعه الوباء.. وهذا ما تعنيه كلمة “استشراف” في هذه الورقة.
خاتمة
يفيد التوقف في الختام عند ما تقول به إيرينه فايبرت-فينّر، الباحثة الألمانية في العلوم السياسية والمتخصصة في شؤون غرب آسيا وشمال إفريقية – والمقصود هو المنطقة الإسلامية – ومن أهم ما ورد على لسانها في حوار بعنوان: “ما هي نتائج أزمة كورونا على الجنوب عموما؟” ما يتلخص في النقاط التالية:
– على المدى القصير.. إذا استطاعت الأنظمة الحاكمة إدارة الأزمة بنجاح كان ذلك من عوامل استقرارها
– على المدى المتوسط والبعيد.. أشك في ذلك كثيرا، فقد كشفت الجائحة عن اهتراء الأنظمة على كل صعيد، بدءا بالإعلام، مرورا بتردي قيمة النقد وتدهور أسعار النفط، وصولا إلى ازدياد حدة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.. ويبقى التعويل على النخب ودورها وعلى الحركات الاحتجاجية، وليس انحسارها إلا مؤقتا وستتجدد في المستقبل المنظور (١٤).
وخلاصة هذا التقرير:
إن السؤال عن تغير مستقبلي في بلادنا في التعامل مع قضايانا لا يجد جوابا دون الإشارة إلى مؤشرات سلبية تكشف عنها جائحة وباء كورونا / كوفيد – ١٩، في مقدمتها..
١- لم يطرأ ما يشير إلى تغير محتمل في الأوضاع المهترئة على الصعيد الرسمي، فلا يتوقع أن تصدر مبادرات رسمية مدروسة هادفة وفاعلة ي اتجاه التغيير.
٢- أعطت جائحة الوباء ما يكفي من الأسباب الإنسانية والعلمية والواقعية من أجل صدور مبادرات جادة عن النخب التخصصية والتوجيهية من أجل التواصل والتشبيك والتعاون ولم تسجل الشهور الأولى من انتشار الجائحة ما يسمح بتوقع ذلك في المستقبل المنظور.
٣- الرؤية الاستشرافية رؤية منهجية لا تنطلق من التمنيات ولا تغفل عن تقدير المعيقات لإثبات صحتها كتقدير العوامل الإيجابية المؤيدة لها، وهنا لا ينبغي الانزلاق إلى التسرع في استقراء الحدث، ولا الاقتصار على ما ثبت من قواعد تقليدية للبحث دون مراعاة العناصر الجديدة في حدث الجائحة كمثال على حقبة من حقب النقلة الحضارية المتوقعة، مع ما تلقيه من واجبات على جيل المستقبل للانطلاق من المعطيات الجديدة على طريق صناعة التغيير.
٤- وعلى خلفية ظاهرة إقبال جيل الشبيبة على التأهيل الذاتي في ميادين تساعد على سلوك طريق التغيير، يبقى لدينا التساؤل دون جواب جازم ما إذا كان جيل المستقبل سيتمكن من الاستفادة مما كشفته الجائحة محليا وعالميا من ثغرات خطيرة في الجسد السياسي / الحضاري المادي القائم، فآنذاك يحق لنا أن نستشرف من وراء آفاق الواقع السلبي ولادة إنسان التغيير بالمواصفات المطلوبة.
نبيل شبيب
هوامش
(١) – د طارق فهمي، “خيارات العرب المستقبلية بعد أزمة كورونا”، ٧ / ٥ / ٢٠٢٠م في موقع “العين الإخبارية”.
https://al-ain.com/article/arab-future-options-after-corona-crisis
(٢) – نقلا عن شريف سليمان، في مقالة بعنوان “طلال أبو غزالة: هجمات كورونا لن تنتهي قبل عام”، في موقع “الوطن” يوم ١٣ / ٤ / ٢٠٢٠م.
https://www.elwatannews.com/news/details/4698737
(٣) – انظر(مثلا) “فيروس كورونا: منصف السلاوي العالم المغربي الذي عينه ترامب للعثور على لقاح”، موقع بي بي سي – عربي، ١٦ / ٥ / ٢٠٢٠م
https://www.bbc.com/arabic/trending-52692057
(٤) – انظر (مثلا) “ثلاثة أطباء مسلمون أول وفيات الصف الأمامي لمواجهة كورونا في بريطانيا”، موقع شبكة الجزيرة، ٣١ / ٣ / ٢٠٢٠م
(٥) – انظر (مثلا) “تركيا تتوصل لأولى لقاحات كورونا وتعزل الفيروس، موقع العربي ٢١، ٥ / ٤ / ٢٠٢٠م
وانظر أيضا ياسين أقطاي، “هكذا أثبتت حرب كورونا نجاعة نظام الرعاية الصحية في تركيا”، شبكة الجزيرة، ٢٦ / ٣ / ٢٠٢٠م
(٦) – انظر مثلا معتز الخطيب، “كورونا وأخلاقيات الأوبئة”، شبكة الجزيرة، ١ / ٤ / ٢٠٢٠م
(٧) – انظر مثلا هند الشومر، “دروس ما بعد جائحة كورونا، موقع النخبة، ١٢ / ٦ / ٢٠٢٠م
https://www.nokhbahnews.com/?p=67311
(٨) – انظر للكاتب “محاضرة – من مقومات الأصالة والمعاصرة في صناعة التغيير، ١٤ / ١١ / ٢٠١٩م، ونشر النص في موقع مداد القلم يوم ١ / ١٢ / ٢٠١٩م.
(٩) – المصدر السابق
(١٠) – محمد يتيم، “أزمة كورونا وانعكاساتها على منظومة القيم”، ١٠ / ٤ / ٢٠٢٠م، شبكة الجزيرة
(١١) استطلاع آراء بعض الباحثين، ٢١ / ٣ / ٢٠٢٠م، موقع رصد
(١٢) – “ما بعد كورونا.. ما الذي سيتغير، ١٥ / ٤ / ٢٠٢٠م، موقع تلفزة سكاي نيوز العربي.
(١٣) – دينا البسنلي، “هل نحن مستعدون نفسيا للتعامل مع ما يثيره كورونا من مخاوف؟”، موقع دويتشه فيلي، ٢١ / ٣ / ٢٠٢٠م
(١٤) – يوم ٩ / ٦ / ٢٠٢٠م، في موقع “المؤسسة الاتحادية للتوعية السياسية”:
Corona-Krise: Welche Folgen hat die Pandemie für Länder des Globalen Südens?
https://www.bpb.de/politik/innenpolitik/coronavirus/311256/globaler-sueden