كلمة وفاء – د أحمد بن سعيد الشلاح رحمه الله

أسأل الله تعالى أن يمنّ  بالعودة على كل من باعدت الأيام بينه وبين بلده، وأن يجمع أفراد كل أسرة تشتت المقام بهم في أصقاع الأرض

29

كنت دون العشرين من العمر، حديث الإقامة طالباً في بون بألمانيا، عندما تعرفت عن طريق أخي الحبيب محمد عمر الشلاح حفظه الله، على الأخ الكبير أحمد بن سعيد الشلاح، وكان يكمل مسيرة تخصصه في الصناعات الكيمياوية بمدينة آخن، مع ثلة من رفاق الدرب الدراسي الجامعي آنذاك، في تلك المدينة الواقعة وسط أوروبا، على ملتقى الحدود الألمانية- البلجيكية- الهولندية، وقد أخذوا على عاتقهم -وهم طلبة يدرسون- مهمة جسيمة، يمكن أن نتصور ما قيمتها عندما نعود بالذاكرة إلى تلك الفترة من ستينات القرن الميلادي العشرين، عندما كانت غالبية الطلبة الوافدين من البلدان العربية تحت تأثير الدعوات القومية والاشتراكية، ولم يكن يوجد كثير من المسلمين الحريصين على دينهم في ديار الغربة، ونادرا ما وجدوا مسجدا أو مصلى يؤدون فيه صلاة الجمعة ويتذاكرون أمورهم في لقاءات جماعية.

أحمد وصحبه كانوا من أولئك القلّة، واستطاعوا وضع مشروع لبناء مسجد في المنطقة الجامعية وتنفيذه، ولا يجهل من عاصروه أنه كان رحمه الله في مقدمة رفاق الدرب سعيا وإدارة وتنظيما وتأمينا لمصادر التمويل ومتابعة لشركات البناء وتواصلا مع الإدارة الجامعية التي خصصت لهم أرضا بسعر رمزي، حتى إذا اكتمل بناء "مسجد بلال" كان لجهود أحمد وصحبه أيضا أن عبّدوا الطريق ليقوم بأداء دور ريادي إسلامي وثقافي واجتماعي في المغترب، إذ حصلوا عام ١٩٦٤م ‎على موافقة الأستاذ الجليل عصام العطار لإدارة المركز الإسلامي (مسجد بلال) وكان قد وصل به الترحال القسري إلى أوروبا بعد أن منع من العودة من الحج إلى موطنه في سورية، كما سدّت في وجهه إمكانية الإقامة مع حرية العمل في الدعوة إلى الله في أي بلد من البلدان العربية الأخرى.

. . .

أحمد الشلاح في مقدمة من أسأل الله أن يكتب في صفحة أعماله من الأجر ما وعد من فضله وإحسانه على إقامة مساجد الله، وما تحقق عبر مسجد بلال من انتشار للدعوة إلى الله في ألمانيا وجميع أنحاء أوروبا حتى ضاق المكان بالمترددين عليه وتمت توسعته إلى أقصى ما تسمح به الأرض المخصصة للمسجد.

وإذ أدعو للفقيد بالمغفرة والرحمة ولزوجه وأولاده وذويه جميعا بالصبر والسلوان، فلا أستطيع استثناء نفسي، فمعرفتي بأحمد الشلاح لعدة سنوات لم تقتصر على اللقاءات العامة، بل شملت علاقة أخوية وأسروية خاصة عميقة، جمعتنا عبر التردد على آخن آنذاك، وكذلك في بون، حيث أقمت وأقيم، وسكن فيها الفقيد لفترة من الزمن مع أسرته الصغيرة، قبل أن يغادر ألمانيا إلى سورية، حيث أصبح أستاذا جامعيا، ومرجعا في تخصصه في الصناعات العضوية والصناعات الثقيلة غير العضوية، وقد وضع منفردا وبمشاركة متخصصين آخرين أكثر من كتاب جامعي مرجعي في هذا التخصص وفي شؤون التلوث البيئي والأمن الغذائي.

. . .

كان أحمد الشلاح رحمه الله صاحب أخلاق رفيعة متميزة، في نطاق أسرته، ودائرة معارفه الواسعة، وفي علاقاته العامة، وكان قوام علاقاته مع الآخرين دماثة في المعشر إلى درجة اللين المبالغ فيه في نظر من عرفه لا سيما وأن هذا كان شأنه في التواصل حتى مع من كان -للأسف- لا يسرّ كثيرا لرؤية أخيه متفوقا أو صاحب إنجازات كبيرة.

وكان أحمد الشلاح رحمه الله في مقدمة من تعلمت من خلالهم في فترة الشباب المبكر ما يحققه الجدّ في العمل مع الصدق، والعزيمة لتحقيق الهدف رغم قصور الإمكانات، والقدرة على الجمع بين إنجاز كبير كبناء مسجد وإنجاز كبير آخر كالتخصص في الدراسة الجامعية، فضلا عن حرصه -كسائر إخوته- على أن يضع نفسه وتخصصه في خدمة بلده وأهله من اللحظة الأولى، وهذا ما صنعه من قبل أخوه الأكبر، مأمون الشلاح، وقد توفي في دمشق يوم ٢٦/ ٥/ ٢٠١٥م، وهذا أيضا ما سعى إليه في السنوات الأخيرة من عمره أخوه الأصغر عبد الستار الشلاح -ولم يفلح فعاد إلى ألمانيا- وتوفي في بون بألمانيا يوم ٢٢/ ٥/ ٢٠١٤م.

هم إخوة عرفتهم من كثب، وأعلم أنه يوجد في كثير من العائلات الكبيرة، في سورية وسواها، من تتعدّد بهم المشارب والتوجهات والسلوكيات، إنما كان هؤلاء من أسرة الشلاح الذين عرفتهم مباشرة سباقين في المبادرة إلى الخير، والجد في العمل، والإخلاص للأهل والوطن، وكان ظاهرا عليهم التأثر بنهج تربيوي لأبيهم محمد سعيد الشلاح رحمه الله، وهو النهج الجدير بوصفه (المدرسة السعيدية) وقد جعله أخي الحبيب د محمد عمر الشلاح -حفظه الله- عنوانا لكتيب صغير، سبق أن عرضت تعريفا به مطلع عام ٢٠٠٨م، وأعيد نشره في مداد القلم في مواكبة هذه الوقفة القصيرة التي عدت بها لفترة أعتز فيها بمعرفة أخي أحمد، ويحزنني أنني لم أستطع المشاركة في تشييعه في القاهرة، ولم أستطع أيضا أن أكون بجوار أخي محمد عمر وقد عاد إلى ديار الغربة، بعد أن كان حريصا أيضا على العودة والاستقرار في بلده، يخدمه من خلال اختصاصه في طب الأطفال، حيث عرفته أسر دمشقية كثيرة من خلال عيادته، وكذلك من خلاله ملازمته لأهل العلم، ومن خلال ما ساهم فيه من أعمال الخير.

أسأل الله تعالى أن يمنّ بالعودة على كل من باعدت الأيام بينه وبين بلده، وأن يجمع أفراد كل أسرة تشتت المقام بهم في أصقاع الأرض، وأن يغمر برحمته وإحسانه أحمد وإخوانه وكل من انتقل إلى جوار ربه من المسلمين والمسلمات، لاسيما في هذه الحقبة العصيبة، في سورية وأخواتها وفي المغتربات، إنه سميع مجيب، غفور رحيم، عزيز حكيم.

نبيل شبيب