كانت السعودية ذات يوم

"الترفيه" محور رؤية ٢٠٣٠ السعودية

ذاكرة سياسية – سلطات لتأبى أن تقود المنطقة حضاريا رغم الإمكانات والفرص التاريخية

61
جادة الترفيه رؤية ٢٠٣٠ السعودية

ذاكرة سياسية

ليس الحديث هنا عن ذكرى عابرة من ذكريات يومية، بل هو عن مشهد تاريخي كامل، يملأ جنبات الذاكرة، وله مساره في صناعة مجرى التاريخ. وليس في المشاهد التاريخية بداية ونهاية، فهي سيولية متداخلة، إنما يقع أحيانا في يوم معين حدث ما، فتربطه الذاكرة بآخر وتنسج القصة ما بين بداية ونهاية. وقد حدث في أواخر شهر تشرين أول / أكتوبر ٢٠٢٠م، أن نشرتُ في واحدة مما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي بضعة سطور، أحسب أنني لو نشرتها أو نشرت ما يشابهها قبل عشرين عاما أو أكثر، لاتخذت التعليقات عليها اتجاها آخر تماما.

كان محتوى تلك السطور انتقادا لأصحاب السلطة في السعودية، بسبب تأخر الإعلان عن موقف رسمي واضح يتضمن ردا مناسبا على إساءات الرئيس الفرنسي ماكرون تجاه الإسلام والمسلمين. نشرت ذلك فغضب غالب المعلقين وعبروا بصياغات عديدة عن غضبهم ذاك، ليس من الانتقاد بحد ذاته، بل من تسجيله بصيغة ديبلوماسية، فهذا كثير على السياسة السعودية، التي وصفتها التعليقات بصياغة قاطعة وحادة، وتكشف مضامينها عن تراكم الانزعاج والغضب على امتداد سنوات أو عقود عديدة.

هي سياسات تستحق الإدانة في إطار قضايا عديدة، وهي بالغة التأثير في صناعة الموقف الشعبي من جهات رسمية، كان منها حديثا:

ذاك التحول الداخلي من شعارات لطالما امتطت زورا ظهر وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى ممارسات علنية باطلة بمختلف المقاييس، منها الاعتقال التعسفي الجائر للعلماء والدعاة ولكل ناشط أو ناشطة من أجل الحقوق والحريات.

كذلك التحول الصارخ من الحرص على نشر التشدد والتعنت المنفر من صوره المتناقضة مع وسطية الدين الحنيف، إلى السقوط في مستنقعات الانحلال والتسييب وسلوك سبل الإغواء دون حدود ولا حياء.

وقد سبقت ذلك أدوار إجرامية بحق الشعوب وتحررها، فكانت المشاركة في التحرك المضاد لثورات تحرير الإرادة والأوطان والإنسان، لا سيما في مصر وسورية واليمن وليبيا.

علاوة على ما ظهر من مؤشرات وأدلة علنية لمزيد من التفريط بفلسطين وقضية القضايا عربيا وإقليميا وإسلاميا، وتحويل الحديث عن أولى القبلتين -ناهيك عن خدمة الحرمين الشريفين- إلى تبعية مطلقة لمزيد من العهر السياسي الأمريكي.

التعليقات المشار إليها تمثل حالة شعبية عامة في نطاق المشهد التاريخي المقصود بهذه السطور، وقد وجدت نفسي أقارنها بحالة شعبية مقابلة، سادت قبل عقود واستمرت طويلا، وكانت تتمثل في التشكيك والرفض الصادرين عن حسن نية وسلامة طوية من جانب كثير من العامة من المسلمين، إذ يعارضون ما يسمعونه من حديث، تنويها أو صراحة، حول انحراف السياسات السعودية منذ زمن بعيد وخطرها على القضايا العربية والإسلامية والإنسانية، السياسية وغير السياسية، ومن ذلك أنّ استخدام التشدد وتغييب وسطية الإسلام، جنبا إلى جنب مع عدم التزام صنّاع القرار بالأحكام الإسلامية المعيشية، سرا وعلنا، إنما هو نهج مقصود لتنفير جيل الشبيبة من الدين، ولتشويهه في أعينهم وأذهانهم، وأن معظم ما كان من تدهور أخلاقي وقيمي ساهمت في صنعه وسائل إعلامية معروفة، مقروءة ومتلفزة، كان من ورائه تمويلا وتخطيطا وإدارة وتنفيذا عدد من الشركات التي يمتلكها لفيف من الأمراء من العائلة السعودية وبعض من يتبع لهم من بلدان أخرى، مع الاستعانة بفئات سبقت سواها إلى هذه الممارسات في بلدان عربية أخرى.

المشهد يثير الأسى، وهو أحد المشاهد من حقبة تاريخية لا نزال نعايش الكثير مما سوّد صفحاتها ولا يزال يسوّدها من الانحرافات والسقطات والخيانات.

يثير الأسى لأن السعودية فقدت -كما ينوه مثال التعليقات المشار إليها- حتى البقية الباقية من مفعول التضليل الذي انتشر على قدر انخفاض مستوى الوعي، للتمييز بين الإسلام كما أنزل وبين مظاهر شكلية مبتسرة تحمل عنوان الإسلام ولا تلتزم به على حقيقته.

يثير الأسى لأن السعودية كانت -رغم سياساتها تلك- مستهدفة طوال تلك العقود، من جانب قوى دولية تمسكت السلطات السعودية بالتبعية لها، وقد انطلق الاستهداف دوما من حسابات سياسية لاحتمال تقلب الأوضاع الداخلية وانتقال الإمكانات المادية المتوافرة إلى أيد أمينة.

ويثير الأسى لأن هذا الاستهداف وصل إلى تحقيق معظم أغراضه في هذه الأثناء، فلم يعد للسعودية التأثير على الشعوب عقديا، ولا على الدول الأصغر إقليميا كما تشهد حرب اليمن، ولا على صناعة القرار النفطي ماليا واقتصاديا، ولم يعد يستبعد الاستغناء عن السلطات الحالية إذا أمكن تنصيب سواها لمتابعة مشوار التبعية.

يثير الأسى تخصيصا لأن من عاصر هذا المشهد التاريخي وما كان فيه من تدهور، يتمنى أو يتصور قابلية صنع مشهد آخر مكانه؛ فالسعودية في نهاية المطاف، أو شكليا على الأقل دولة ذات إمكانات مادية (وجيوسياسية) كبيرة، وكان يمكن توظيف تلك الإمكانات لتفتح لنفسها أبواب القيادة والزعامة، لا سيما وأن ربيع الثورات الشعبية أعطاها فرصة تاريخية متميزة لمسيرة أخرى، ولم تفعل؛ فالسلطات في السعودية لم تنطلق يوما من منطلق سياسي متوازن، بل من تسمية مضللة للدولة، فهي تتصرف وكأنها تمتلك رقاب العباد وحق التصرف بالثروات وتمتلك صناعة القرارات بأسلوب الاستعباد والاستبداد.

لقد آثرت تلك السلطات التبعية على السيادة -إلا في حالات نادرة كعهد الملك فيصل- وآثرت الانحراف على الاستقامة، وبقيت مفتقرة إلى رؤية قويمة وأهداف كريمة وإدارة راشدة وإلى ربط صنع القرار بالقيم والمعايير الإسلامية والإرادة الشعبية والإنجازات العلمية والتقنية والإنتاجية، وهذا أشد ما يثير الأسى في مشهد تاريخي متطاول، لا يستوعب مغزاه ويستفيد منه، سوى من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب