رؤية – من الفوضى الهدامة إلى الغليان العسكري

سياسة التدمير المتعمد من جانب قوة مهيمنة تكشف عن مخاوف حضارية ثقافية وليس عسكرية

36

تهديدات عسكرية إسرائيلية وأمريكية تجاه إيران، إدانة كلامية تجاه هجمات عسكرية من جانب قوات روسية وميليشيات بقايا النظام على السكان والمشردين في إدلب وما حولها في سورية، مضاعفة شحن السلاح لفريق كردي يتعاون مع الأمريكيين شمال سورية على الحدود التركية، دعم عسكري إقليمي وغربي للمتمرد العسكري على سلطة مدنية في ليبيا ما بعد القذافي، استمرار الدعم العسكري لأطراف القتال في اليمن المنكوب على حساب ثورته الشعبية، دعم مالي وسياسي لمجلس عسكري يماطل في تسليم السلطة للمدنيين من الحراك الثوري الشعبي في السودان، مماطلة مشابهة في الجزائر، مزيد من الدعم الغربي والإقليمي بمختلف أشكاله للسلطة الانقلابية العسكرية في مصر.. لقد أصبحت المنطقة بكاملها في خضم غليان عسكري متعدد الأشكال وواسع المخاطر، فمن أين نشأ، وإلى أين يصل؟

 

فوضى هدامة من العراق إلى مجلس التعاون الخليجي

في عام 2005م أطلقت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، كونداليزا رايس، عبر جريدة واشنطون بوسط الأمريكية، تصريحا واضح الصياغة أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على نشر الفوضى الخلاقة فيما يوصف بالشرق الأوسط لإيجاد شرق أوسط جديد.

كانت بداية تنفيذ ذلك عمليا في أرض العراق:

(1) احتلالا عسكريا مباشرا بعد حصار طويل الأمد

(2) تفكيكا غير منظم للمؤسسات الأساسية للدولة

(3) إثارة النعرات الطائفية والقومية والإرهابية

(4) التمكين للنفوذ الإيراني مع توقع ممارسات انتقامية على خلفية الحرب العراقية-الإيرانية من قبل

(5) نشر الجريمة العلنية دون محاسبة ولا مقاضاة، وكان من رموزها كأمثلة "بلاك ووتر" و"أبو غريب" وموجة اغتيال العلماء

(6) فرض دستور "المحاصصة الطائفية" المجرب من قبل في لبنان والذي يحول دون استقرار دولة حديثة..

وغير ذلك مما يعتبر "عوامل محركة لمرحلة فوضى تالية" وفق مصطلح "الفوضى الخلاقة" الذي نشأ في الأصل في نطاق علم الرياضيات في منتصف القرن الميلادي التاسع عشر وتطور خلال العقود التالية.

في ميدان علوم الرياضيات، لا سيما الفلكية، تنشأ تلك العوامل المحركة تلقائيا على خلفية سنن كونية وطبيعية فتؤدي لاحقا إلى حالة استقرار إيجابية، أما الجديد في استخدام المصطلح أمريكيا فهو إقحام مصطلح "علوم طبيعية" على عالم الممارسات السياسية، ولكن تظهر هنا نقطتان جوهريتان:

(أولاهما) في عالم السياسة وممارساتها نجد العوامل الأولية المحركة في اتجاه فوضى خلاقة تصنع صنعا من جانب القوة المهيمنة، ولا تنشأ ذاتيا أو تلقائيا كما هو الحال في الرياضيات الفلكية.

(الثانية) العوامل المصنوعة سياسيا لا تؤدي إلى حالة استقرار إيجابية، بل من طبيعة العوامل المحركة المصنوعة ميدانيا أنها هدّامة من الأصل، بل تدمّر تخصيصا ما كان قائما من أوضاع إيجابية نسبيا.

لقد ظهر عبر ممارسة الفوضى "الخلاقة" في العراق أن نتائجها تدميرية هدامة، ثم بدأ تطبيقها – إذن – عن سابق إصرار وتعمّد في نطاق التحرك المضاد لتحرير إرادة الشعوب عبر الثورات الشعبية العربية، ثم عن سابق إصرار وتعمّد أيضا في هدم دعائم مجلس التعاون الخليجي.. ولا يزال هذا المسلسل التدميري الهدام مستمرا.

 

التدمير هو هدف عملاق مريض

من أخطائنا في مواكبة أحداث عدوانية مستجدة نعايشها أننا نحاول سبر غورها واستشراف مستقبلها باستخدام قواعد المنطق السياسي "الأكاديمي" فقط، مثل السؤال عن المصلحة، وموازنة المكاسب والخسائر، وتلويث سمعة هذه الدولة أو تلك، وما شابه ذلك، فنستغرب غالبا وقوع الحدث العدواني إذا وقع، ولا نستشرف عواقبه كما ينبغي.. والواقع أن تلك الأحداث تُصنع صنعا من جانب قوى مهيمنة لا تنطلق من تلك الموازنات المنطقية، وترمز إلى ذلك عقليات تختلف من حيث أساليب التعليل كلاما، وتتوافق من حيث المضامين تصرفا وسلوكا، مثل سلسلة كارتر (كامب ديفيد) – بوش الكبير والصغير (العراق) – أوباما ( القتل بالطائرات المسيرة) – ترامب المتبجح بجميع ذلك وزيادة عليه.

ليس السؤال: ما الهدف من التدمير؛ فالهدف من الأصل هو التدمير الذي يستحيل أن يكون "خلاقا".

السؤال الأصح: ما الهدف من التدمير المتعمد رغم إدراك أنه "تدمير" هدّام إلى أقصى الدرجات.

 

في التاريخ البشري امبراطوريات كبرى عديدة، بدأت ترنّحها المرضي وهي في أوج قوتها المادية والعسكرية، فانعكس ذلك في حملاتها العدوانية على سواها. والولايات المتحدة الأمريكية في أوج قوتها المادية والعسكرية، ولكن بدأت معالم الترنح المرضي بالظهور، ومن أعراضها:

(1) تزعمت الدولة الأمريكية ضغوط العولمة لفترة طويلة لإلغاء الحواجز الضريبية والجمركية في وجه التجارة الدولية والاستثمارات المالية.. وها هي الآن تلجأ إلى تلك الحواجز بعد أن ارتفعت هامات المنافسين الدوليين لها في أسواق المال والبضائع، فلم تعد قادرة على النجاح عبر التنافس النزيه.

(2) مارست الدولة الأمريكية لعقود عديدة أسلوب الإملاءات المباشرة تجاه الحلفاء والأصدقاء، وكانوا يستجيبون إلى ذلك طوعا وكرها.. ولم يبق بين من يستجيب لأسلوب الإملاءات سوى "فريق من الأتباع الصغار".

(3) تصدرت الدولة الأمريكية المكانة الأولى عالميا في تصدير بضاعتها في ميادين الثقافة والفنون والحريات الفردية ومجالات التعليم والتربية.. وأصبحت تتصدر الدرك الأسفل من أرقام قياسية حول القتل العشوائي والاعتداء الجنسي وانتشار المخدرات والتمرد على أنظمة واتفاقات دولية تخدم البشرية بدءا بالمناخ العالمي انتهاء بالألغام الأرضية.

ولهذا أصبحت الدولة الأمريكية عملاقا مريضا متبجحا في عهد ترامب بعدوانيته – وذاك جوهر شرعة الغاب -مستندا إلى أن دولته مدججة بالأسلحة الفتاكة، ولكنه يعلم أن الأعراض المرضية هو البداية لسقوط عملاق الهيمنة عالميا تحت عنوان "سقوط حضاري ثقافي".

من أراد حقا سبر غور ما يجري في عالمنا المعاصر ولا سيما في بلادنا، وأراد استكشاف مستقبله، وهو يتابع مراحل نشر الفوضى الهدامة وتهييج مرجل الغليان العسكري، فلا ينبغي أن يبحث عن تعليل سياسي منطقي، فالعملاق المريض يضرب ولا يفكر، إنما يستشعر وجود خطر إرهاصات تغيير حضاري ثقافي سيقوض جذور شرعة الغاب التي تستند الهيمنة عليها.

نبيل شبيب