رؤية – عجلة التاريخ بين قضية سورية والأمم المتحدة
ثورات الربيع العربي هي أول تمرد "للإرادة الشعبية المحضة" على استبداد محلي يرتكز عليه استبداد الهيمنة الدولية
تشهد قضية سورية هجمة "قوى دولية" بصورة غير مسبوقة على الإرادة الشعبية الثائرة، هل يمكن تفسير ذلك بأنها أصبحت "قضية مفتاحية" لتغيير دولي واسع النطاق زمنيا وجغرافيا؟
هل يمكن -رغم المظهر الحالي للأحداث الجارية- أن تتلاقى المسارات السورية والفلسطينية وثورات الربيع العربي عموما، وتتابع الخطى معا على محور تاريخي تغييري أكبر من حدوده الإقليمية؟
لعل افتتاح الدورة الجديدة للأمم المتحدة وقد بلغت السبعين من العمر، مناسبة لإلقاء نظرة تاريخية تسهل الإجابة
على هذه التساؤلات.
جذور الخلل
كانت فلسطين هي القضية الأولى وأصبحت قضية سورية معها في مقدمة قضايا عديدة أخرى تشهد أن الأمم المتحدة لا تحقق الهدف الرسمي المذكور في ميثاقها بشأن السلم والأمن الدوليين، وتشهد أن عمليات التجميل لم تعد كافية لتصبح المنظمة الدولية محور نظام عالمي جديد.
هي كبرى المنظمات الدولية حجما، ولكنها مجرد وسيلة لتنفيذ إرادة بضع دول مسيطرة، فليست المشكلة في "نصوص ميثاق" بل في واقع دولي يستدعي التبديل.
في الخامس والعشرين من نيسان/ ابريل عام ١٩٤٥م انعقد الاجتماع التأسـيسـي للأمم المتحـدة، وكانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت واقعيا، فبعد بضعـة أيام انتحر هتلر أو مات نتيجة انفجار في برليـن، وبعد أسـبوعين فقط تم استسلام ألمانيا نهائيا، ثم لم تمض أسابيع إلا وتم توقيع ميثاق الأمم المتحدة، وليس في نصوصه تناقض مع ما "يخدم البشرية"، إنما بدأ التناقض يظهر من خلال الأنظمة التي تقررت لتنفيذ الميثاق، أي لتسيير عمل المنظمة الرئيسية بحيث يتم "تطويعها من المهد" لخدمة هيمنة استبدادية دولية.
من عناوين ذلك:
(١) الهيئة العامة لا تملك من الصلاحيات ما يكافئ أنها هي التي تمثل حقيقة الواقع العالمي..
(٢) مجلس الأمن الدولي صاحب القرار الحاسم تحت إمرة بضع دول مسيطرة عالميا..
(٣) المنظمات ذات التأثيـر مثل صـندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي، تشكلت (عمدا) بنظام معين يجعلها أيضا كمجلس الأمن الدولي خاضعة لمصالح القوى العالمية المسيطرة..
(٤) المنظمات الأخرى كمنظمة اليونيسكو أو التغذية والزراعة وغيرهما، لم تخضع لأنظمة تمييز مشابهة، ولكنها تعرضت دوما لضغوط مالية من جانب الدول المسيطرة عالميا، لتتخذ قرارات موافقة لإرادتها وليس لإرادة عالمية جماعية.
كان لا بد أن تنحرف الأمم المتحدة عن الهدف الشكلي من تأسـيسـها في سان فرانسيسكو قبل سبعين عاما، لأنها وليدة أوضاع شاذة منحرفة، تمخضت عنها حروب الصراع بين القوى الدولية الرئيسية آنذاك، فتحقق الانتصار على الفاشية والعنصرية، وسيطرت مكانهما صيغ أخرى لفكر التمييز والسيطرة.. أما تحرير الشعوب فلم يكن "تأسيس المنظمة الدولية" ثورة تغييرية محررة لإرادتها وضامنة لسيادتها.
لم يتبدل منطق السيطرة بحد ذاته، بل الجهة التي تمارسـه والوسـائل التي تتبعها، وحتى التحول الجزئي عن لغة القتال بين الدول الرئيسية (في الشمال) بدا نتيجة طبيعية لمفعول التطور الصناعي والتقني السريع، أي للاستغناء عن القتال بالسلاح (في الشمال) واستخدام وسائل جديدة فعالة من ميادين المال والتجارة والاقتصاد، لمتابعة ممارسة الصراع واستهداف السيطرة. ولكن بقيت لغة القتال بالسلاح هي السائدة في التعامل مع قضايا ما أصبح يسمى العالم الثالث، كما كان في فيتنام أو أفغانستان، أو ما سمي الحروب بالنيابة، وهذا ما تجاوز مائتي حرب مدمرة في هذه الأثناء. رغم ذلك سميت فترة طويلة شهدت تلك الحروب حقبة "الحرب الباردة" لمجرّد أن الرعب النووي المتبادل منع الصدام المباشر لمدة أربعين سنة بين القوى المسيطرة (في الشمال).
أما في الجنوب فقد انضم زهاء مائة وخمسين دولة للمنظمة، ولكن استقلالها كان شكليا مقيدا بالهيمنة الأجنبية، دون استقلال الإرادة السياسية، ودون تحرير داخلي للطاقات البشرية والمادية الذاتية، فلم يكن مستغربا أن تختنق الحركات الواعدة بالتحرر قبل تحقيق أهدافها الطموحة، وأن تصبح الأنظمة الاستبدادية جزءا من نظام الهيمنة الدولي.
واقع الخلل
لقد سادت خلال سبعين سنة مضت سياسات الهيمنة المباشرة وغير المباشرة، عبر "هوة احتكار التسلح المتطور" و"هوة احتكار التقنية الحديثة" فضلا عن هوة الفقر والتخلف والمرض.. وكان من بين المرتكزات الرئيسية المعتمدة:
(١) انتقاص السيادة الوطنية للدول الأضعف عبر وسائل عديدة، أحدثها ابتكار "الديبلوماسية الوقائية" وتزوير مصطلح "الشرعية الدولية"..
(٢) احتكار صناعة القرارات الحاسمة عالميا في إطار منظمات للدول الأقوى، تملي ما تريد على سواها، بما في ذلك الأمم المتحدة وسائر ما يتبع لها..
(٣) الانتقال من مرحلة احتكار أسباب القوة المادية لدى الدول التي تسيطر عليها في المنظومة الحضارية الحالية، إلى مرحلة الحيلولة دون وجود قوة مستقبلية رادعة لدى سواها، بما يحتمل أن يشكل خطرا على واقع الهيمنة..
(٤) تطوير مضامين القيم الإنسانية نفسها بما يتناقض مع مفاهيمها الأصلية، ولكن يتماشى مع لغة الهيمنة والاستغلال العالميين.
. . .
على امتداد سبعين سنة مضت شهد مسار "العلاقات الدولية" حركات تمرد عديدة، بعضها واسع النطاق مثل حركة عدم الانحياز، ولكن الضعف الذاتي فيها جعل من السهل تحجيمها ثم تجميدها، ومنها محدود محلي يتمثل في تمرد "حزب" يهيمن على "دولة" وسرعان ما توضع تحت الحصار كما كان مع كوبا، أو يتم مع مرور الزمن تدجينها من داخلها كما جرى مع إيران.. ولكن ما سمي النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية لم يشهد إلا الآن، عبر ثورات الربيع العربي، تمرد "الإرادة الشعبية المحضة" على أنظمة استبداد محلية، تمثل أهم مرتكزات استمرار استبداد الهيمنة الدولية.. وهذا بالذات ما يستدعي التأكيد:
نعم تمثل قضية سورية مفتاحا لتغيير دولي واسع يتحقق عبر تلاقي المسارات السورية والفلسطينية وثورات الربيع العربي عموما، ولا يستهان بذلك.. فهذا التغيير التاريخي في بدايات تكسير الأغلال التي قيدت الإرادة الشعبية البشرية منذ سبعين سنة.. ومن قبل أيضا.
نبيل شبيب