رؤية تحليلية – معول الفلسفة في التعامل مع الكوارث المناخية-
عندما ينحرف مسار الفلسفة عن الفكر الإنساني
يواجه التعامل مع المناخ عقبة سيطرة الفكر الأناني المحض وليد فلسفة الواقعية النفعية الغربية
معظم فلاسفة الغرب الأقدمين والمحدثين أوروبيون، ومعظم التوجهات الفلسفية الغربية ذات نشأة أوروبية، إلا القليل، فنجد جذورا أوروبية لفلسفة ما بعد الحداثة، التي تتهم مسارات الحداثة بتقويض ما بقي من أنوار أوروبية، بينما نجد بذورا أمريكية لفلسفة الواقعية النفعية المعروفة باسم البراجماتية، التي أصبحت حجر زاوية صناعة القرار السياسي، فهذه الفلسفة بالذات أمريكية النشأة، وانتقلت إلى أوروبا لاحقا، وأول من استخدم التعبير اصطلاحيا هو الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس عام ١٨٩٨م، استنادا إلى أفكار تشارلس ساندرس بيرس الفلسفية، الأمريكي أيضا، وانطلاقا منها بدأ تبديل تعريف كثير من المفاهيم الأساسية، فكرا وفي العلاقات اليومية، مثل الحقيقة، والعقلانية، والعملية، وأصبح محورها مفهوم كلمة “أنا”، الذي كون أساس التفكير “الواقعي” الجديد، السياسي ومن ورائه المالي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وقد جعل المصلحة النفعية الأنانية / الذاتية معيارا لصناعة القرار، وهو ما يتجلى في الرأسمالية المنبثقة عن “الليبرالية” وبلغ مداه في الليبرالية الجديدة، وتعرف أحيانا بالمتشددة والوحشية، وأصبح التعامل مع جميع ذلك في هذه الأثناء كما لو كان من البدهيات، فمنذا الذي يمكن أن يصغي للتحذير من مفعول “الواقعية السياسية” مثلا على صناعة القرار الدولي والمحلي؟
لا بد من أخذ هذه الخلفية الفلسفية بعين الاعتبار لاستيعاب ما جرى ويجري في التعامل مع الكوارث المناخية، بما في ذلك عبر مؤتمرات دولية كبرى حول المناخ، ولنستبعد بالتالي التذكير المتكرر بتأثير الفطرة البشرية التي خلق الله تعالى الناس عليها، أي بالعوامل الأخلاقية والقيم الإنسانية وإن جرى تثبيت بعضها في مواثيق دولية وحفلت بها تصريحات رسمية وكتابات إعلامية.
تناقضات المصالح “الواقعية النفعية”
إن السؤال الحاسم المطروح على كل دولة تشارك في مؤتمرات المناخ، لا سيما الدول التي يؤثر قرارها على مستقبل الظروف المناخية أكثر من سواها، هو السؤال عما يتحقق من مصلحة ذاتية، وهذا ما يفسر مصلحيا سلسلة من “التناقضات”، أو ما يبدو “تناقضات” للوهلة الأولى:
١- الحديث في الغرب عن أزمة المناخ حديث قديم، وشمل ما يُنتظر منها مستقبلا أيضا، ورغم ذلك نلاحظ من جهة عدم إنكار مسؤولية الدول الصناعية عن انتشار مسببات الكوارث المناخية، ومن جهة أخرى عدم تحرك الدول الصناعية إلا متأخرة لمواجهة المشكلة، رغم شهرتها بالدراسات المستقبلية.
ما الذي يحركها الآن إذن؟
يتلاشى التناقض عند الإشارة إلى أن الكوارث المناخية لم تعد مجرد توقعات مستقبلية، بل بدأت بوادرها بالظهور، والأهم من ذلك أن هذه البوادر بدأت تترك أثرها المباشر في الدول الصناعية، فأصبح من مصلحتها التحرك.
٢- ترتبط الدول الصناعية جميعا بشبكة مصالح سياسية واقتصادية كبيرة فيما بينها، ورغم ذلك نلاحظ:
– بعد تلكؤ طويل بدت الدول الأوروبية في مقدمة من يتحرك لمواجهة الأزمة المناخية
– لم تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية إلا في فترة متأخرة للغاية، وبخطوات بطيئة ومترددة إلى حد بعيد
يضمحل هذا التناقض عند الإشارة إلى أن البوادر الأولى التي ظهرت فعلا للكوارث المناخية التي قد تتفاقم مستقبلا، تركزت على أوروبا (في نطاق العالم الغربي) لوقوعها بين جليد القطب الشمالي وجليد قمم الألب، ولا يسري وضع مشابه على المساحة “القارية” للولايات المتحدة الأمريكية، رغم ازدياد مفعول الكوارث الطبيعية من أعاصير وزلازل. وتتكرر هذه الصورة على صعيد التنبؤات المستقبلية، ومن ذلك مثلا: المساحات الجغرافية الأوروبية التي يسري عليها وصف “الأراضي الواطئة” مثل هولندا، وبالتالي المعرضة للغرق والاختفاء كجزء من “برّ أوروبا”، تمثل نسبة عالية من المساحة الجغرافية الأوروبية إجمالا، ولا يوجد مجال للمقارنة بنسبة مئوية جغرافية أمريكية مشابهة.
٣- صناعة القرار أوروبيا وأمريكيا متشابهة من حيث المناهج والآليات، فعلام ساد التردد في واشنطون إذن؟
إذا تجاوزنا الشعارات ورجعنا إلى حقيقة أن “قرارات الكونجرس” مرآة عاكسة لعملية التوازن المصلحية الدائمة بين مراكز القوى من مصارف وشركات عملاقة وجماعات الضغط المنظمة، وجب التساؤل بلغة أخرى بعيدة عن عوامل الأخلاق والقيم:
ما هي المصلحة المادية الذاتية وفق منطق الواقعية السياسي الأمريكي في أن تتحرك مراكز القوى لإنفاق المليارات أو التخلي عن المليارات من “الأرباح والعائدات”، من أجل مواجهة أعباء كوارث مناخية، قد لا تصيب من المواطن الأمريكية سوى جزر هاييتي وهاواي مثلا إصابات بالغة، وربما بعض الجزر الصغيرة الأخرى مع سكانها؟
إن آثار الكوارث المناخية لا تصيب الدول الصناعية بمعدلات متساوية جغرافيا وبشريا، وخارطة التحرك لصناعة القرار السياسي في مواجهة الأزمة تتطابق إلى درجة مثيرة للذهول، مع خارطة تفاوت المصلحة المادية الذاتية المحضة في تقدير عواقب الكوارث المناخية مستقبلا.
تناقضات عالمية اقتصاديا
إذا كانت العوامل المصلحية الأنانية أو المنفعية المادية المحضة، وبالتالي العوامل التي تحمل عنوان الواقعية النفعية (البراجماتية) تلعب دورها في تفاوت تعامل القوى الصناعية بين بعضها بعضا لمواجهة الأزمة المناخية، فمن الطبيعي أن يستحيل استبعادها عند الحديث عن “أسرة” بشرية، في قمة تجمع الدول الصناعية والناهضة والنامية والنفطية والفقيرة والشديدة الفقر، كما تجمع دولا تصنع القرار وفق لعبة التوازن أو الصراع الدائمة بين آليات الديمقراطية للحقوق والحريات وآليات “الليبرالية” لموازين القوى الرأسمالية، مثلما تجمع دولا لا تعرف سوى صناعة القرار الاستبدادي سياسة واقتصادا.
من المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية التي يقطنها ما يعادل أربعة ونصف في المائة من “الأسرة البشرية”، تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث الإسهام الفردي الوسطي في ظاهرة الاحتباس الحراري الناجمة عن انبعاث غازات سامة في مقدمتها ثاني أوكسيد الفحم، وهي أمريكية المصدر بنسبة ٢٥ في المائة تقريبا، عند الشروع في طرح الأزمة المناخية عالميا، وبدأت هذه النسبة تهبط في إطار المقارنات العالمية، أي ليس نتيجة هبوط الأرقام المطلقة لحجم الغازات السامة الأمريكية الانبعاث، وإنما بسبب ارتفاع الكمية المطلقة لها في دول أخرى كالصين والهند حيث يعيش ثلث البشرية.
والمعروف أيضا مقابل ذلك:
عواقب الكوارث المناخية المنتظرة نتيجة سياسات التصنيع الأمريكية (والغربية عموما) والناجمة عن ارتفاع وسطي حرارة الأرض (وقد بدأ تدريجيا) بمعدل درجتين مئويتين حتى عام ٢٠٥٠م، هذه العواقب لا تصيب الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة ٢٥ في المائة، ولا حتى بنسبة أربعة ونصف في المائة، ولكنها تصيب دولا مثل إندونيسيا وبنجلادش وماليزيا في آسيا ومدغشقر وسيراليون والجابون في إفريقية، بنسب قد تزيد على ٥٠ في المائة بالمعيار الجغرافي والسكاني، وهي لا ناقة لها ولا جمل في احتباس حراري في الأجواء، وما يصنعه من ارتفاع خطير لسطح مياه المحيطات!
من هنا المطالبة بأن تتولى الدول الصناعية جزءا من النفقات المترتبة على الدول النامية والفقيرة، إذا التزمت هذه الدول بإجراءات وقوانين جديدة، كيلا تضيف المزيد على مسببات الانحباس الحراري، وإن أدى ذلك إلى إضافة مزيد من القيود والعراقيل على طريق التنمية الاقتصادية فيها خلال عشرات السنين القادمة، وما زال الاتفاق يتعثر من حيث المبدأ ومن حيث “حصص توزيع النفقات”. ومن العقبات:
١- كما هو الحال مع قضايا عالمية مشابهة، مثل انتشار الفقر والمجاعات ومكافحتها، وانتشار الأوبئة ومكافحتها، لا تريد الدول الصناعية الالتزام إلا بحد أدنى من النفقات أقل بكثير مما يعوّض عن حجم ما سببته سياساتها الصناعية على صعيد الاحتباس الحراري.
وللمقارنة يمكن أن نذكر أن دولة واحدة كألمانيا، خصصت مائة مليار يورو، لتأميم مصرف مالي محلي كبير واحد، ومنعه من الانهيار في حمأة انهيارات المصارف المالية الغربية، ولا ينتظر عند بيعه للقطاع الخاص مجددا، أن تستعيد شيئا يستحق المقارنة من هذا المبلغ، أما على صعيد المناخ العالمي فيبقى التزامها في حدود الملايين أو عشرات الملايين.
٢- قطع بعض الدول النامية شوطا على طريق التصنيع، وأصبح يحمل وصف الدول الناهضة، وأصبحت هذه الدول (وكذلك الدول النفطية بعد ارتفاع عائداتها المالية من تصدير النفط ولكن دون تحقيق تقدم اقتصادي محلي) مستهدفة أكثر من سواها من جانب الدول الصناعية، استهدافا مزدوجا:
– عليها أن تشارك بأكبر قسط ممكن من تحمل نفقات دعم الدول النامية الفقيرة
– وعليها الالتزام بإجراءات وقائية ترفع نسبة تكاليف متابعة نموها الاقتصادي الذاتي
وهذا ما تتلاقى على الاعتراض عليه الصين والهند ودول ناهضة ونفطية.
لم يخرج التعامل مع الأزمة المناخية عن مفعول التعامل وفق منطق السياسات الواقعية النفعية الغربية، مع تطور خارطة النظام الدولي، ولم يخرج بالتالي عن الخلل الكبير الذي صنعته العقود الماضية منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يصل أفضل الأطروحات إلى طرح حد أدنى من العلاج الضروري لتجاوز هذا الخلل في واقع البشرية، لصالح مستقبل أفضل يراعي قيم المساواة والعدالة على صعيد استغلال الثروات الأرضية لصالح الإنسان الفرد، كعضو في الأسرة البشرية، وليس كعضو في طبقات متعددة بمستويات معيشة متفاوتة، داخل البلد الواحد وعالميا، وذلك بقدر تفاوت امتلاك أسباب القوة وصناعة القرار. مقابل الحديث عن التساوي في الكرامة الإنسانية!
بين الضرورات البشرية وصناعة القرار
اندلعت الأزمة الرأسمالية العالمية، أو من حيث جوهرها أزمة شبكة المصارف المالية الرأسمالية، أثناء التحرك الدولي لمواجهة الأزمة المناخية العالمية، وأثناء المماطلة المعروفة في التعامل الدولي مع “مكافحة الفقر” بعد اعتباره عشية الألفية الميلادية الثالثة في مقدمة الواجبات البشرية المشتركة للقرن الميلادي الحادي والعشرين، ويمكن أن نضيف إلى ذلك وضعَ مكافحة “الإرهاب الدولي” وفق صياغة تعريفه الغربية، على رأس قائمة الأولويات دوليا.
على ضوء هذا التزامن في التعامل مع “مشكلات دولية” شاملة، يمكن المقارنة بين:
١- انفراد الولايات المتحدة الأمريكية وجرّ من قَبِلَ بالانسياق وراءها في اتخاذ قرار سريع تحت عنوان “الحرب ضد الإرهاب” شمل تنفيذه حروبا عاتية، ونفقات مالية “خيالية”، وتقويض أنظمة وبلدان، وضحايا بلا حساب.
ولم يجد صانع القرار الأمريكي ما يستدعي مؤتمرات دولية وقرارات مشتركة وتوزيع نفقات ووضع مخططات على هذا الصعيد.
٢- تحرك الدول الرأسمالية بسرعة مذهلة لإنقاذ مصارفها المالية وشركاتها العملاقة ومواقعها الاحتكارية في الصناعة دوليا، على حساب الطبقات الأفقر داخل بلدانها، وعلى حساب التزامات مالية سابقة لصالح مشكلات عالمية من صنعها كمشكلات الفقر وانتشار الأوبئة، فاستطاعت أن تستعيد بعض التوازن لبنيتها الرأسمالية وعلى وجه التحديد لمواقع مراكز القوى المالية فيها ثم من خلالها عالميا، ولم تجد هذه الدول الرأسمالية حاجة إلى مؤتمرات دولية ومخططات مشتركة، إلا بقدر ما استهدف ربط الدول الناهضة وبالتالي ربط إمكاناتها المالية المتزايدة، في شبكة العلاقات المالية الأضخم للدول الصناعية.
٣- قضية المناخ العالمي مطروحة بالمقابل منذ “عشرات” السنين، وانعقدت من أجلها عشرات المؤتمرات الدولية الكبيرة والصغيرة، التخصصية والسياسية، ولم توصل إلى نتائج حاسمة وملزمة، رغم أن الكوارث المنتظرة وبوادرها الأولية، أكبر بما لا يقارن مع ما صنعته ظاهرة “الإرهاب العالمي” أو ما صنعته “أزمة المصارف”.
الواقع أن الوصول إلى “اتفاق” يجمع ما يناهز مئتي دولة على أرضية مشتركة أمر عسير يحوّل المؤتمرات الكبرى إلى مسارح استعراضية لخلافات كبرى، ولا يكاد ما يسمى “المجتمع الدولي” يلجأ إلى هذه الطريقة، إلا عند رغبة القوى الفاعلة فيه في الجمع بين المماطلة وفق الرؤية المصلحية النفعية الذاتية من جهة، والظهور بمظهر السعي لحل مشكلات تهم الرأي العام من جهة أخرى، لا سيما عندما تكون المسؤولية عن المشكلات مسؤوليتها، وتريد توزيع “ثمن” الحلول لها، وهذا هو الفارق الجذري في التعامل ما بين الأزمة المناخية، والأزمة الرأسمالية والأزمة “الإرهابية”!
هو الفارق الحاسم بين تحرك سريع من جانب القادرين على التحرك عالميا، وتحرك بطيء يوجهونه ويرسمون خطواته، أو هو الفارق بين “مواطِنِ” ما يقع من أضرار وخسائر، فهنا تقتضي السياسة الواقعية النفعية المعاصرة بمنظورها الغربي:
– تجنيد كل ما يمكن تجنيده سريعا لتبقى آثار الإرهاب خارج الحدود الغربية
– تجنيد كل ما يمكن تجنيده سريعا لتبقى مراكز القوى المالية للهيمنة العالمية
أما التحرك في مواجهة كوارث المناخ، فيتخذ جغرافيا وزمنيا الصورة المذكورة آنفا، وفق تفاوت العواقب المترتبة عليه، وحجم ما يصل منها إلى مستوى تهديد مصلحة ذاتية لمراكز صناعة القرار.
لم تعد مشكلة المناخ العالمية مجهولة من حيث أبعادها، ولم تعد الأدلة العلمية المنهجية موضع تشكيك كما بقيت من قبل زمنا طويلا، وليس حل المشكلة في حاجة إلى وضع مزيد من “المخططات” التفصيلية فهي متوافرة، وليست النفقات المطلوبة من أجل إجراءات تعديل الطرق التقنية والإنتاجية صناعيا ومن أجل إجراءات وقائية على مستوى التصنيع في بلدان نامية أكبر حجما مما خُصص سريعا وأنفق سريعا لمنع انهيار مراكز الشبكة المالية الرأسمالية مثلا، إنما يبقى التعامل مع مشكلة المناخ أمام عقبة كأداء، هي استمرار سيطرة الفكر الأناني المحض الذي ساهمت في صنعه فلسفة الواقعية النفعية (البراجماتية) السياسية والاقتصادية الغربية، فأصبح أداة صناعة القرارات الحاسمة، داخل كل دولة على حدة، وفي التعامل باسم “الأسرة البشرية” مع مشكلات عالمية كبرى، لا تزال عجلة التطور الصناعي الحداثي تنتجها وتصدرها مع السيارات والطائرات والصواريخ ومع الأسلحة الفتاكة والأوبئة الصحية والاجتماعية.
نبيل شبيب