رؤية تحليلية – ما بعد أزمة الرأسمالية

الأزمات المالية العالمية أزمة نهج رأسمالي، وليست أزمات عابرة أو محدودة التأثير زمنيا

66
الفقاعة العقارية

ــــــــــ

سنة ٢٠١٩م تعددت النذر من جانب المسؤولين المتخصصين – كصندوق النقد الدولي – بمخاطر وقوع أزمة مالية عالمية، تتجاوز بنتائجها الاقتصادية ما كان عقب الأزمة المالية العالمية سنة ٢٠٠٨م، وازداد القلق مع تداول مصطلح “الأزمة الاقتصادية” بسبب التعامل الأمريكي بأسلوب هيمنة عشوائية تجاه القوى الاقتصادية الأخرى في عهد ترامب، ثم أظهرت جائحة كورونا – كوفيد ١٩ مدى هشاشة الأوضاع الاقتصادية والمالية في معظم ما يوصف عادة بالعالم الأول والعالم المتقدم؛ فهل يمكن القول إن أزمة ٢٠٠٨م، لم تكن مالية فحسب، بل كانت حلقة من حلقات تكشف عن عمق الأزمة في النهج الرأسمالي نفسه وهو المهيمن عالميا؟
آنذاك كان استيعاب التطورات واستشراف النتائج عسيرا على كثير من المتخصصين، فضلا عن عامة من يتابع الأحداث. وقد تناولت هذه الرؤية التحليلية الاستشرافية في حينه السؤال عن مجرى تلك الأزمة وما يحتمل أن يترتب عليها، قياسا على تجارب تاريخية سابقة، واستنباطا من بعض ما يثبت من معلومات تصلح منطلقا لتقدير تطورات تالية، وقد نشرت الرؤية في ٦ / ٣ / ٢٠٠٨م في موقع إسلام أون لاين، ويتجدد نشرها في مداد القلم دون تعديل يذكر.

للتحميل: رؤية تحليلية – ما بعد أزمة الرأسمالية بقلم نبيل شبيب

*        *        *

المحتوى
ألغاز الحديث عن الأزمة – عندما يصيب الحريق أجهزة الإطفاء – الحل الجماعي والنزعة الفردية – التشابك الاقتصادي بين حالتي النظام والفوضى – موطن الضعف في العملاق الرأسمالي – تصحيح التمنيات الساذجة والمتسرعة – الأطروحات الإسلامية مظلومة أم قاصرة؟ – أمنية مشروعة

*        *        *

ألغاز الحديث عن الأزمة
رغم كثرة الحديث عن أن الأزمة المالية العالمية ستسفر عن نهاية الهيمنة الأمريكية عالميا، ما يزال يوجد من يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية ستستعيد عافيتها، وأن الأزمة لن تترك أكثر من خدوش في هيمنتها، وأن منهج الرأسمالية المتشددة القائم على “ليبرالية جديدة” أرسخ وأبعد انتشارا -عبر العولمة- من قابلية تحقيق نبوءات تتحدث عن نهاية هذا النهج.
ويلفت النظر أن نسبة من يتحدث بهذا الاتجاه من التشكيك في المنطقة العربية والإسلامية تضاهي – إن لم تكن أكبر بصورة ملحوظة – نسبة المتحدثين بذلك في العالم الغربي نفسه، وفيه نشأت الرأسمالية وشاخت ومنه انتقلت بمختلف الوسائل إلى معظم بقاع العالم.

ونواجه على هذا الصعيد مشكلة إضافية، فكثير من الخبراء بحكم علمهم ومواقعهم وعملهم ودرجة متابعتهم، يتحدثون بلغة أشبه بالألغاز بمنظور من لا يحوز على خبرة مماثلة، ويسمع عن المليارات وألوف المليارات ولا يكاد يستطيع مواكبة سرعة ما يصدر من مواقف وإجراءات وينعقد من مؤتمرات ولقاءات، ولكن أقوال هؤلاء الخبراء يناقض بعضها بعضا، فكيف نصل إلى تصوّر أقرب إلى الصحة؟
هل نعايش أزمة عابرة أم بداية انهيار؟
هل تخرج القوى المهيمنة وفي مقدمتها مراكز القوى الأمريكية من الأزمة أم تجرفها؟
هل يصيب الانهيار بعض أركان النظام الرأسمالي أم يصيب معظمها؟
هل نحن أمام نهاية الحقبة “الحضارية المادية الغربية” في مجرى تاريخ البشرية، أم نقبل بمقولة نهاية التاريخ بمعنى أن البشرية ستبقى وفق تصورات صاحب تلك النظرية – قبل أن يتنصل منها لاحقا – تعيش في قيادة تلك الحضارة المادية الغربية إلى ما لا نهاية؟
لا أحد يستطيع الجزم بصدد كل سؤال من هذه الأسئلة مع الاستناد إلى تعليلات منطقية موضوعية ثابتة ومقنعة، سواء كان من الخبراء أو لم يكن، بل لا بد من الجمع بين الاستنتاجات الثابتة وترجيح الاحتمالات الأقرب إلى المنطق، لأن كل تغيير جذري كبير في حياة البشرية، كان على الدوام بالغ التعقيد، متعدد الجوانب، ينطوي على ما لا يوضع في الحسبان سابقا، وهذا ما ازداد مع مرور الحقب التاريخية حتى عصرنا الحاضر.

عندما يصيب الحريق أجهزة الإطفاء
أول ما نحتاج إلى تحديد معالمه هو الفارق بين أزمة عابرة وأزمة “انهيار” شاملة، ونعلم أن أزمات الإفلاس المالي إلى درجة انهيار مصارف كبرى، أو دول، أو قطاعات صناعية وظهور سواها، ليست جديدة في تاريخ النظام الرأسمالي المهيمن عالميا. كما أن دورات الركود والانتعاش الاقتصادي معروفة على المستوى النظري وعلى المستوى التطبيقي ومشهودة في وقائع مجرى التاريخ القريب.
والسؤال المطروح في البداية مطروح رغم ذلك، أي أن من يطرحون هذا السؤال بغض النظر عن اختلاف أجوبتهم، يرصدون ويدركون أن ما جرى ويجري سنة ٢٠٠٨م، ينطوي على معطيات تجاوزت كل ما كان معروفا عن أزمات مالية ودورات اقتصادية سابقة. لهذا أيضا لا ينبغي التسرّع بمحاولة إجابة جازمة وقاطعة، ولكننا أحوج ما نكون إلى استيعاب الحدث واستشراف نتائجه، لأن واقعنا هو واقع التأثر بتلك النتائج، رغم عدم امتلاك ما يكفي من أسباب التأثير المباشر على مجراها.
هذا ما يتطلب تبسيط الحديث عن معالم الحدث، والحفاظ على ما يكفي من الواقعية في تشخيصه، خارج نطاق ما قد نتمناه أو لا نتمناه في هذا الاتجاه أو ذاك.

مثال للتوضيح:
نتصوّر النظام المالي والاقتصادي العالمي بناء ضخما – من قبيل ما أصبح بعض الأنظمة العربية يشيده بإنفاق ثروات خيالية – وفيه إجراءات للسلامة واسعة النطاق، فنشوب أزمة عابرة يشبه اندلاع حريق في أحد طوابقه، ونرى آنذاك كيف تتحرك “شبكات التأمين” في البناء نفسه لإخماد الحريق، بدءا بأجهزة إطفاء مركّبة في سقوف الغرف لتصب الماء تلقائيا فور ارتفاع درجة الحرارة إلى مستوى الخطورة الدالة على نشوب حريق، انتهاء بجهاز المراقبة على الشاشات الصغيرة لتوجيه فرق الإنقاذ إلى المصابين لإسعافهم.
ولكن إذا رافق الحريق تعطل شبكة الإطفاء الآلية، قد يتأخر إخماده، ويبقى جهاز المراقبة قادرا على جلب فريق إطفاء يعمل بخراطيم المياه. وحتى عندما تشمل الأزمة تعطيل جهاز الرقابة على الشاشة الصغيرة أيضا، قد يخمد الحريق ويتأخر إسعاف المصابين بعض الوقت. المهم في المثال أن الحريق يصيب قطاعا أو عدة قطاعات ويبقى الجزء الأكبر من مجموع “شبكات” تأمين البناء سليما يمكن الاعتماد عليه في تعويض الاضرار.
هل ينطبق ذلك على “أزمة مالية” سنة ٢٠٠٨م؟
أول ما يلفت النظر أن ما يجري تبدلت عناوينه بسرعة غير اعتيادية بمقاييس توالي الأحداث والتطورات الاقتصادية، وقد انتقلت التسميات من “أزمة قروض عقارية فاسدة”، إلى “أزمة ائتمانية”، إلى “أزمة مالية أمريكية”، إلى “أزمة مالية عالمية”، وقد يصل إلى ما يأخذ عنوان “أزمة اقتصادية عالمية”، وربما إلى “انهيار النهج الرأسمالي” نفسه.
هذا التبدل المعبر عن اتساع رقعة الأزمة وعمقها مرتبط مباشرة بواقع “تشابك العلاقات والمعاملات المالية” وهذا ما تضاعف حجمه كمّا وكثافة بسرعة كبيرة للغاية خلال عشرين عاما، أي اتخذ صورة موجة كبرى من موجات انتشار ما سمي ظاهرة العولمة.

لقد كان من المستحيل من البداية أن تبقى أزمة القروض العقارية الفاسدة في نطاق تلك القروض أو في نطاق قطاع العقارات وحده.

ومن تابع ما نُشر حول الموضوع يبصر سلم المنحدر إلى هاوية الأزمة وكانت عناوين “درجات المنحدر” دون تفصيل:
عقود قروض فاسدة – عجز عن التسديد – عجز مالي مصرفي – ضياع أرضية الثقة بين المصارف – امتداد الأزمة إلى بلدان أخرى تبعا لانتشار المعاملات البينية المصرفية عبر الحدود – امتداد الأزمة إلى قطاعات أخرى غير العقارية تبعا لامتداد أنشطة المصارف والمؤسسات المالية إليها – بداية أزمة اقتصادية أوسع نطاقا من أزمة المعاملات المالية والمصرفية، ويعني ذلك أن الخطر بعد ظهوره بفترة وجيزة نسبيا أوشك أن يصل إلى البنية الهيكلية لوجود الاقتصاد الرأسمالي ومصدر قوته، فمن يطفئ الحريق آنذاك؟
هنا تنبهت الحكومات، وهي المسؤولة من قبل عن “تحرير” قرار صاحب المال، لتجد نفسها أمام خطر انهيار البنية الاقتصادية في بلدانها تبعا لقرارته.

المشكلة أن تركيبة النظام الرأسمالي تجعل من انهيار جهاز المعاملات المالية فيه حدثا لا يؤثر فقط على صانع القرار في المؤسسات ومراكز القوى المالية وحدها وعلى “ثرائه”، بل يؤثر التأثير الأكبر والأشمل على وجود البلد نفسه، أو البلدان ذات العلاقة بأنشطته، أي على اقتصادها وتجارتها ومستوى المعيشة فيها.
لهذا أصبح على الحكومات أن تقوم بدور جهاز إنقاذ وإطفاء، وهي لا تملك المال، ولكن تملك صناعة القوانين أو القرارات لتأمين الأموال عبر إجراءات عديدة، أقصاها تأميم المصارف أي مصادر “حرية صناعة القرار فيها” بعد أن سبق وأطلقت لها العنان، وبين “الاقتراض” مع ضمان السداد عبر دخل الدولة من الضرائب، أي عامة السكان، ممن لم تكن لهم ناقة ولا جمل في صناعة الأزمة من البداية.

الحل الجماعي والنزعة الفردية
ما سبق هو وجه واحد من الأزمة، مبسط للغاية عبر تعداد عناوين حلقاتها حتى أصبحت “أزمة عالمية” خلال أقل من عام، ووصلت إلى مرحلة “البحث عن حل”، وفي هذه المرحلة يظهر اختلاف وجهات النظر بصدد الحلول المطروحة والنتائج.
أوّل ما يبرز للعيان أن الباحثين عن حلول لا يمثلون “مجموعة متجانسة” ولا حتى مجموعة واحدة، بل هم في وقت واحد:
– أطراف الأزمة من مراكز القوى المالية.
– وأطراف الأزمة في الهيكل الاقتصادي من أصحاب الشركات.
– وأطراف الأزمة السياسيون من “الحكومات والمجموعات الدولية” من العالم الرأسمالي الغربي.
– إضافة إلى حكومات وأجهزة في دول متضررة، ولكن ليست لها مشاركة فعالة في صناعة القرار المالي العالمي.

هل يمكن أن تتلاقى رؤى هذه الفئات على أرضية مشتركة تنقذ الجميع من خطر يهدد الجميع بدرجات متفاوتة؟

والسؤال الأصح: هل يمكن ذلك على أرضية النهج الرأسمالي تحديدا؟
ليس مجهولا أن النهج الرأسمالي لا يقوم فقط على معاملات مشتركة وقواعد ما تضبطها، أي لا يقوم فقط على الميدان الذي تتوجه إليه المساعي في الحلول المطروحة.
جوهر النهج الرأسمالي كما هو معروف هو – نظريا – توظيف النزعة الأنانية الفردية لتحقيق مصالح جماعية مشتركة. فمنذ نظرية آدم سميث (المفكر الأول للنهج الرأسمالي) والقاعدةُ الرأسمالية الأم في اقتصاد السوق (أي الرأسمالية) تنطلق من تصور الوصول إلى استقرار وتوازن مع نمو اقتصادي متواصل، اعتمادا على التنافس والتلاقي المصلحي ما بين المشاركين في السوق، وكل منهم يعمل وفق نزعته الفردية من أجل تحقيق الكسب لنفسه، ويتراكم الكسب ويتم توزيعه فيستفيد الجميع.
قد يصح تطبيق هذا التصوّر النظري عموما في وضع اعتيادي، أي في الوضع الخالي من الازمات، أما عند حدوث أزمة فالعامل الحاسم فيها هو عامل الصراع، إذ يحاول كل طرف أن يكون حل الأزمة لصالحه، بدفع الأضرار المادية عن نفسه، بغض النظر عما يصيب سواه.
السؤال عن مخرج من الأزمة الحالية يتحول بذلك إلى سؤال عن حصيلة صراع ما تفرضه النزعة الفردية مع ما تفرضه المصلحة المشتركة، وما إذا كان النظام الرأسمالي قادرا على إعطاء الجواب.
لهذا – وليس من باب الحماسة أو العداء للرأسمالية وهيمنتها فقط – سارع كثيرون إلى القول بالعجز والإخفاق عندما لجأ المسؤولون إلى وسائل ليست من نهجهم الرأسمالي مثل التأميم الكلي أو الجزئي ناهيك عن التدخل الحكومي السياسي في صياغة القرار المالي والاقتصادي.

التشابك الاقتصادي بين حالتي النظام والفوضى
ما سبق يمس جوهر الأزمة ولا يمس مباشرة جوانبها المتعددة وتعقيداتها، فلا يكفي وحده لاستيعاب أبعادها. القواعد والأنظمة وآليات التنفيذ التي تسري في الحالات الاعتيادية، لا تظهر حقيقة فاعليتها وجدواها إلا في الحالات الاستثنائية.. كما هو الحال مع نظام السير الذي يتألف من قسمين، قسم يعتمد على الالتزام الذاتي (مثل قاعدة اليمين قبل اليسار، وللمشاة الأولوية على المركبات) وقسم يعتمد على آليات تنفيذية (مثل إشارات المرور وشرطة السير)، فلنقارن بين الوضع الطبيعي الاعتيادي وبين حالة انقطاع التيار عن إشارات المرور جميعا وغياب جهاز الشرطة أو عدم كفاية عدد أفراده. ولنرصد ما يبقى من مفعول “الالتزام الذاتي” آنذاك إذا غلبت عليه “النزعة الفردية”، بمعنى الرغبة في المرور أو الوصول للهدف أو تجاوز الشارع أو عبور تقاطع الطرق، وإعطاء ذلك الاولوية على ما عداه.

ونمضي مع المثال شوطا أبعد، فما نواجهه لا يمثل أزمة محدودة، في شارع، أو مدينة، أو بلد واحد، بل هو شامل لرقعة الكرة الأرضية، وفيه عدد ضخم متفاوت القدرة والمفعول من الأطراف، وقد بدأت تقع حوادث الصدام في أكثر من بقعة في وقت واحد، مع استمرار “حركة السير” المضطربة، وفيها مع غياب “شرطة السير” غيابا شبه كلي:
1- شاحنات لنقل البضائع والوقود، فقدت وقودها فتوقفت وسط الطريق؛ أي كبعض شبكات التعامل المصرفي
٢- مقطورات أصبحت عبئا على القاطرات الناقلة لها، فتركتها على قارعة الطريق؛ أي كمئات المصارف الاستثمارية
3- سيارات سباق لا هم لها سوى سرعة التحرك، فقدت بعض مصادر وقودها؛ أي كبعض الدول النفطية
4- سيارات عتيقة اعتمدت على من “يجرّها” على الطريق وانشغل بنفسه فازداد بطء حركتها؛ أي كبعض الدول النامية.
٥- أما ما بقي من شرطة السير التي سبق أن تخلت عن صلاحياتها فعادت تحاول ضبط حركة السير، ولكن تشك هي نفسها بقدرتها على ذلك؛ أي كما هو حال معظم الحكومات الرأسمالية.

جميع الأطراف، بدءاً بالدول الرأسمالية الكبرى، انتهاءً بأفقر دول العالم معرض لأضرار الأزمة المالية نتيجة “عولمة” هيمنة النهج الرأسمالي عالميا، ونتيجة احتكار مفاصل صناعة القرار المالي والاقتصادي بأيدي مراكز القوى المهيمنة ماليا، وهي نسبة محدودة جدا من تعداد البشرية.

هؤلاء في صراع دائم فيما بينهم، وكل منهم يريد أن يخرج من الأزمة كاسبا، أو بخسائر أقل من الآخر، والجديد هنا أن الهوة الهائلة التي أصبحت تفصل عالميا بين ثراء مبطر وفقر مدقع، لم تترك لدى أشد المتضررين من النظام القائم منذ عشرات السنين، أي الدول الفقيرة والنامية، من الثروات ما يمكن “امتصاصه” لصالح المهيمنين ماليا، كما كان يجري على امتداد العقود الماضية منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ استقرت قواعد النظام المالي العالمي على ما استقرت عليه عند تأسيس صندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي بعد مفاوضات 1944م، أي أثناء وجود طرف أمريكي منتصر وأطراف عديدة منهزمة، أو “مشاركة جزئيا” في صنع الانتصار العسكري في الحرب العالمية الثانية.
إن التشابك البالغ التعقيد وتعدد أطراف الأزمة مع تفاوت قدراتهم واختلاف وجهات تحركهم وغاياتهم، يمثل جانبا من الجوانب التي قد يوضح هذا المثال ما يعنيه القول إنّ الأزمة الحالية أزمة نهج ونظام، وليست أزمة عابرة أو محدودة كسواها سابقا.

موطن الضعف في العملاق الرأسمالي
كذلك السؤال عن مصير الهيمنة الأمريكية ليس سؤالا عشوائيا، بل هو مطروح موضوعيا لكون الأضرار الجسيمة الجديدة تصيب الجهة التي تملك الثروة الأعظم من سواها.
وبالعودة إلى المثال التصويري السابق، فإن المتضرر من عموم الفوضى في حركة السير هو من يملك القاطرات والمقطورات والشاحنات والصهاريج، إذ تتلاشى قدرته على استخدامها في السيطرة على سواه أو على حلبة السير (الكرة الارضية) المذكورة في المثال، بينما لا يتضرر بالقدر نفسه من لا يملكها.

إن تركيز الهيمنة أمريكيا كان ناجما عن عاملين أساسيين:
1- مجرى التطورات في العقود الماضية إذ كان – بسبب الخلل في النظام المالي والاقتصادي العالمي – في صالح الولايات المتحدة الأمريكية، أي في صالح الدولة التي تضم من مراكز القوى المالية أكثر مما تضمه أي دولة أو مجموعة دول أخرى، وهو ما جعل حصيلة حركة الأموال عالميا (استثمارا وقروضا وفوائد ربوية وتجارة) في صالح الدولة الأمريكية باستمرار.
2- أشد تطبيقات النهج الرأسمالي المتشدد (المعرضة للخطر الآن، مثل الحرية المالية المطلقة وعدم تدخل الدولة) استوطن الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد ريجان على الأقل، ثم بريطانيا في عهد تاتشر، وانتقل بدرجات أقل إلى بقية الدول الرأسمالية عقب سقوط الشيوعية.

وعلى سبيل المثال، من المعروف أنه عندما يهبط سعر النقد في حالات “الركود” الاعتيادية يخسر من يملك رصيدا كبيرا من العملات “قدرا كميّا كبيرا” ولا يتأثر كثيرا كتأثر من لديه رصيد صغير ويخسر نسبة ما منه، ومن طرق التعويض في النظام الرأسمالي الربوي (وهي واحدة من طرق أخرى عديدة) أن الخاسر، صاحب الرصيد الصغير، يضطر إلى الاقتراض من الخاسر صاحب الرصيد الكبير، فتتراكم على الأول خسارة أكبر ويعوض الثاني عبر الفوائد الربوية بعض خسارته.
أما في حالة أزمات كبيرة فلا تسري هذه القاعدة الرأسمالية الربوية، ولا تجد الخسارة الضخمة التي تصيب صاحب الرصيد الكبير ما يعوضها، حتى وإن فقد صاحب الرصيد الصغير رصيده كله، بل يضاف إلى ذلك أنه يصبح آنذاك عاجزا عن “الشراء والاستهلاك” أي حتى عن الإسهام في تحقيق أرباح تجارية غير ربوية لصالح صاحب الثروة والمصنع وبالتالي الرصيد المالي الأكبر.
إن الخاسر الأكبر في الأزمات الصغيرة المتتالية على امتداد العقود الماضية هو الطرف الأضعف ولهذا ازدادت هوة الثراء والفقر إلى حد غير مسبوق، عالميا وداخل كل دولة رأسمالية على حدة، أما الخاسر الأكبر في الأزمة العالمية الشاملة، فهو الطرف الأقوى ماليا، ولهذا لا ينبغي اعتبار السؤال المطروح عن اضمحلال الهيمنة الأمريكية سؤالا “عاطفيا”، كما يقول بعض من لا يزال يتمسك بتصورات واهمة عن أن العملاق الأمريكي يمكن أن يترنح ولكن لا يمكن أن يسقط!
ولأن العملاق الأمريكي كان القاعدة التي يقف عليها النهج الرأسمالي الغربي الحديث، فإن إصابته إصابة بالغة لا بد أن تسري في مفاصل ذلك النهج.

تصحيح التمنيات الساذجة والمتسرعة
في الغرب ينتشر الحديث عن الأزمة وحلها مع التركيز على ضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإصلاح ما ارتكب من أخطاء جسيمة، إضافة إلى التشكيك باحتمالات النجاح. ولكن المحاولات المبذولة ليست رأسمالية غربية جامعة، بل هي “برامج متعددة” وكل منها قائم بذاته، أمريكيا، وأوروبيا، ويابانيا، ثم تأتي محاولات “الإنقاذ” أو الاستفادة، الروسية والصينية والهندية والبرازيلية.
بتعبير آخر: لم تعد خطورة الأزمة مقتصرة على نوعية الإصابة وعمقها واتساع نطاقها، بل أصبحت تنطوي أيضا على معالم شروخ عميقة تخترق “عالمية” الجسد الرأسمالي، مثلما اخترقت القاعدة الأساسية (حرية قرار صاحب رأس المال) التي يقف الجسد الرأسمالي عليها.
جولة ٢٠٠٨م بين الأطراف الرأسماليين في العالم الرأسمالي “الواحد” لا تشابه جولات سابقة متكررة ومعروفة، جوهرها الصراع على الاستثمارات وتصريف الإنتاج، وموطنها إجراءات الحماية والرسوم الجمركية كما كان فيما مضى حول تجارة الموز والفولاذ والأرز والسيارات وغير ذلك من الخامات والمنتجات.
كل جولة صراع من تلك الجولات كانت في قطاع من القطاعات، وكانت لفترة زمنية تطول أو تقصر، بينما تتميز جولة الصراع الحالية بأنها تتناول جذور النظام القائم، بدءا بشرايين حياته عبر شبكة المعاملات المالية، مرورا بجوهر وجوده، كما يظهر مثلا من مطالبة الأوروبيين بقواعد جديدة غير المتفق عليها عام 1944م، انتهاء بما يطرأ على تحالف القوى المشاركة فيه، كما يدلّ الإلحاح الأوروبي على مشاركة قوى أخرى فيما يُتفق عليه، لا سيما الصين والهند، وهو أقرب إلى العمل على تكوين جبهة عالمية أوسع نطاقا في مواجهة ما بقي من هيمنة أمريكية.
مرة أخرى: لا يصدر السؤال عن نهاية الهيمنة المالية الأمريكية إذن عن تمنيات ساذجة بشأن سقوطها. ولكن لا ينفي ذلك أن بعض هذه التمنيات يغفل عن تقدير حجم المخاطر، فالتشابك في العلاقات العالمية يعني استحالة حصر أضرار مثل ذلك السقوط بالدولة الأمريكية وحدها. وبالمقابل لا ينبغي أن تكون الخشية من هذه المخاطر أكبر من الخشية من استمرار ما هو أشد منها مفعولا وضررا، وهو استمرار الهيمنة الأمريكية التي أوصلت إلى الأزمة العالمية نفسها، مثلما أوصلت من قبل إلى أسوأ أشكال التفاوت بين البشر ثراء وفقرا، وتقدما وتخلفا، وصحة ومرضا.
إن التمني الساذج غير مطلوب، ولكن المطلوب والمفروض أن نطرح السؤال الجاد عما ينبغي أو ما يمكن صنعه في متابعة الأزمة العالمية الجارية، ومتابعة ما يعنيه انهيار الهيمنة الأمريكية، وترنح النهج الرأسمالي.

هذا مع ضرورة التقدير الموضوعي للفترة الزمنية التي تحتاج إليها تطورات كبيرة بهذا الحجم، فليس الأمر أمر شهور أو سنوات، بل قد يمتد جيلا كاملا، أو ربما بضعة عشر عاما، وقد يعجّل به أو يؤخره بعض التطورات غير المنتظرة.

الأطروحات الإسلامية مظلومة أم قاصرة؟
هنا يبرز للعيان سؤال آخر يُطرح في المنطقة العربية والإسلامية وكثيرا ما يجد تشكيكا مشابها في مدى جديته، من جانب من يقول إنه سؤال التمنيات فحسب. وهو السؤال عن مدى قابلية أن يكون الحل أو جانب من الحل للأزمة المالية العالمية قابلا للتحقيق عن طريق الأخذ بالقواعد الثابتة في “الإطار العام” الذي يقرره الإسلام أو بعض تلك القواعد، لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي.
ولا نتحدث هنا عن نهج اقتصادي ومالي إسلامي تفصيلي، فهذا ما يتناوله الاجتهاد الفقهي والتخصصي ويتطلبه وجود دولة إسلامية تسعى إليه عبر أجهزة التشريع والتخطيط فيها.
إنما نستهجن في البداية وجود بعض الأصوات العربية والإسلامية التي تستنكر مثل هذا السؤال، أو تسخر من الحديث بصدده، كما يظهر في مساجلات إعلامية حوله، بينما لا نفتقد في الغرب الرأسمالي، الأمريكي والأوروبي، وجود أصوات عديدة، تتحدث في كبريات وسائل الإعلام، عن قابلية الاستنجاد بما يقول به النظام المالي الإسلامي وينطوي على حظر عدد من أشكال التعامل المالي التي بات يعتبرها الغربيون الآن هي السبب الحاسم في تغوّل أساليب “هيمنة التوريق” (عبر مضاربات خيالية) دون الاستناد إلى ثروة عينية حقيقية، ثم في الانهيار الذي بدأ بقروض العقارات وانتشر كالنار في الهشيم في مختلف القطاعات وبدأ يسري في عروق جسد النظام الاقتصادي “العيني” (تصنيعا وإنتاجا وخدمات) أيضا.
لا يصح طرح هذا الموضوع بأسلوب حماسي لصالح ما جاء به الإسلام، وإن كان لا يعيب المسلم أن يدافع وجدانيا وبحماسة عما يعتقد به، إنما يمكن أن يعيبه الاكتفاء بالطرح الوجداني. وإذ يدور الحديث هنا عن “إطار عام” وليس عن التفاصيل، يمكن تسجيل ملاحظات مبدئية للتعامل مع هذا السؤال الجاد:
1- الأخذ بجانب من الإسلام (مثل فريضة الصيام) في مجتمع يطبق نهجا غير نهج الإسلام، يمكن أن يحقق فائدة ما، ولتكن فائدة صحية، ولكن لا يمكن أن تجد فريضة الصيام مداها، أي جميع ما تنطوي عليه من جوانب، فهذا يتطلب وجودها تطبيقيا في صيغة جزء من كل، في مجتمع ينطلق من الإسلام المتكامل بمختلف جوانبه انطلاقا ثابتا وشاملا.
٢- كذلك أخذ النظام الرأسمالي بجزء من القواعد الإسلامية في القطاعات المالية والاقتصادية، يمكن أن يتحوّل إلى عملية ترقيع، ولكن يبقى مجرد ترقيع، وإن كانت الرقعة من حرير في لباس خشن مهترئ.
3- أزمة النهج الرأسمالي صادرة أولا عن افتقاد جانب القيم الأخلاقية والوازع الفردي وافتقاد اعتبار الحقوق الفردية قابلة للتحقيق من خلال واجبات جماعية وليس عبر نظرية الصراع “وانتزاع الحقوق انتزاعا”. والمقصود هو افتقاد ما يشمل الجوانب النظرية فكرا والتربيوية إعدادا والتطبيقية تقنينا وتنظيما. ولهذا قد يساعد تعاطي دواء “مالي إسلامي” في بعض العلاج لأزمة مالية على أرضية النهج الرأسمالي، ولكن لا يكتمل العلاج دون أن يشمل الجانب “المرضي” للأزمة، أي افتقاد القيم وسهرها – مع النظام القانوني – على فعالية عنصر الوازع الذاتي.
4- عالمنا المعاصر عالم واقعي، لا يفيد في صناعة التغيير فيه أن نطرح “الحل النظري” الإسلامي أو سواه، في مواجهة “أزمة تطبيقية عملية”. إنما يتحقق التغيير بسرعة كبيرة – بمقاييس الأزمان التاريخية – عندما تظهر على أرض الواقع نماذج تطبيقية عملية، وهذه بالنسبة إلى الحل الإسلامي المطروح، غير قابلة للظهور إلا عن طريق البلدان الإسلامية، ولا يوجد في الوقت الحاضر ما يشير إلى تطور في هذا الاتجاه.

أمنية مشروعة
إننا لنرصد مع تفاقم الأزمة المالية العالمية وظهور ما تعنيه بشأن نهاية دور الهيمنة المالية الأمريكية، كيف تسارع عقدُ المؤتمرات الاستثنائية الطارئة، وتضاعفت نسبة الزيارات المتبادلة، على أعلى المستويات، في المنطقة المحيطة بالعالم الإسلامي من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ولكن نرصد بأسف كبير كيف بقيت الحركة داخل المنطقة العربية والإسلامية راكدة أو محدودة، أو اقتصرت على جوانب نظرية وتصريحات مطمئنة وبرامج قطرية، باستثناء التعامل مع بعض المسؤولين في الغرب وهم يتوجهون طالبين “الإسعاف” من جانب من يتصرف بثروات المنطقة الإسلامية، لا سيما النفطية، لمضاعفة ضخ تلك الثروات أو قسم كبير منها (وتضييعه) في الجسد الرأسمالي المريض.
وإننا لنرصد في أوروبا كيف تحركت كل دولة بمفردها لتأمين مصالحها الذاتية قبل أن يجرفها سيل الانهيار المالي، ثم كيف تتحرك الدول الأوروبية معا على المستوى الجماعي ليساند بعضها بعضا، ثم كيف تتحرك أوروبا كقوة دولية لإيجاد أرضية “رأسمالية جديدة” مشتركة مع قوى دولية أخرى، ولا نرصد للأسف تحركا عربيا أو إسلاميا جماعيا، على مستوى صناعة القرار المشترك والفعال، رغم أن دائرتنا الحضارية مرشحة في هذه الحقبة التاريخية أكثر من أي وقت مضى، لتتابع المسيرة الحضارية البشرية، بريادة إسلامية جديدة، بما يحقق الخير للبشرية جمعاء، ليس في الميدان المالي والاقتصادي فقط، بل على كل صعيد يخدم الإنسان في الدنيا ويفتح لمن شاء أبواب الخير في الآخرة أيضا.
هنا فقط وجنبا إلى جنب مع طرح الدعوة الجادة للعمل على مستوى الخبراء والمفكرين والعلماء والمسؤولين، يحق لنا أن “نتمنى” على المسؤولين في بلادنا، أن قد آن الأوان أن تثبت الدول الإسلامية وجودها الحقيقي في المسار التاريخي للحضارة البشرية المشتركة.

نبيل شبيب