رؤية – اهتراء الدولة في المنطقة الإسلامية

بلغ تفتيت المنطقة العربية والإسلامية وإنهاك دولها وشعوبها درجة خطيرة عبر السياسات الرسمية الحالية

30

 

العودة إلى أنفسنا – دول بلا زعامات – دول بلا سيادة – لا سياسة ولا أمن – أمل على مستقبل تركيا؟

 

لا ينبغي الاستمرار على النظر في قضايانا وقضايا العالم المعاصر عبر النظارة الغربية التي وُضعت على أعيننا فتشبّثنا بها منذ مطالع القرن الميلادي السابق.

ليست أوروبا "قلب العالم" ولا الغرب هو العالم، ولا ينبغي أن نغفل في هذه المرحلة بالذات عن المتغيرات الدولية الكبرى الجارية، التي تنطوي على انحسار متسارع للموقع الغربي عالميا، وصعود قوى جديدة، ومن الغفلة أن نتعامل مع مختلف الأحداث والمتغيّرات من منطلق التسليم للمركزية التي يزعمها الغرب لنفسه، حضاريا وفكريا وأمنيا واجتماعيا وفنيا، وليس من زاوية موازين القوى الآنية فحسب، ولم يمض على ظهورها سوى أقلّ من قرن، ولا مضى على نشأة الحضارة الغربية الحديثة نفسها سوى ٣ قرون من أصل ٨٠ قرنا من عمر الحضارات البشرية، أي ما لا يساوي "المرحلة العثمانية" فقط، ولا نصف "المرحلة الأندلسية" من عمر المدّ الحضاري الإسلامي الأول، ويبدو أنّ هذا الحضارة الغربية مائلة إلى الأفول بأسرع ممّا صعد نجمها، وأسرع من أي دورة حضارة بشرية أخرى سبقتها.

 

العودة إلى أنفسنا

ليس القصد ألاّ ننظر في أحوالنا على ضوء مختلف الأحداث الهامة بمنظور دولي أو منظور غربي، ولكنّ أحوال العرب والمسلمين شعوبا ودولا ترتبط بعدد ضخم "آخر" من الأحداث الكبرى..

أما آن أوان العودة بأنفسنا إلى أنفسنا، لنستعيد توازن رؤانا لقضايانا في عالمنا وعصرنا، بنظارات من صنع تاريخنا وحاضرنا واستشراف مستقبلنا.. فنتأمّل من خلالها فيما يصنع الآخرون، وليس بنظاراتهم هم لِما يصنعون وما نصنع على السواء؟

يمكن الحديث طويلا عن عدد من العناصر البالغة الأهمية حول واقع الدول الإسلامية الرسمي المعاصر..

١- بدءا بأزمة "العقل العلمي والتقني" نتيجة سياساتٍ جعلت ميزانيات أجهزة المخابرات والقمع عشرات أضعاف ما تصل إليه مخصصات البحث العلمي.. أو حتى تطوير الجامعات والتعليم المدرسي فيها..

٢- مرورا بأزمة المياه والأمن نتيجة سياسات ترى في "ولادة فرد عربي أو مسلم" عبئا، ولا تعرف لذلك موقعا في مخطّطاتها ليكون نابغة يبتكر أو عاملا ينتج، وترى في تحكيم "المستشار الأجنبي" في المخططات الزراعية والغذائية الذاتية "سياسة حكيمة" وإن أوصلت إلى تدهور الزراعة وتحويل لقمة الطعام المستوردة إلى سلاح في يد "عدوّ" لا يخفي عداءه ولا يتردّد عن استخدام لقمة طعامنا سلاحا..

٣- انتهاء بأزمة التوجيه والإعلام، وقد تحوّل عبر السياسات الرسمية المفروضة إلى فتح الأبواب أمام كل وسيلة من وسائل التضليل وتحويل شخصية "الفرد المواطن" منذ نعومة أظفاره إما للانشغال بعبث لا نهاية له، أو الخضوع لكلّ ما يربض فوق أنفاسه، وما يطرأ من مزيد على ذلك، من خارج الحدود ومن داخلها، دون إرادة فاعلة، ولا جرأة على النقد، ولا قدرة على الإبداع والعطاء..

إنّما لا بدّ من الإيجاز في إطار مقال فيكفي التركيز على جانب أساسي ممّا شهدته البلدان العربية والإسلامية من حيث أصل وجودها كدول، فهو المنطلق لِما أوصل إلى مثل تلك الأزمات وسواها.

 

دول بلا زعامات

عندما حوصر ياسر عرفات فيما يسمّى "المقاطعة" صدرت أصوات تحذير تقول: إنّ تخلّي الرؤساء والملوك والأمراء العرب عن "أحدهم" سيشجّع من يحاصره على المزيد.. وجاء "الدور" على "صدام حسين" وبذريعته جرى تحطيم أحد مرتكزات القوّة في المنطقة العربية والإسلامية، وتكرّرت التحذيرات.. وتكرّرت المأساة المسرحية على الساحة السياسية العربية بخطورة أكبر وأعمق وأوسع مدى بكثير.

أصبحت دولنا بلا زعماء، ولا حكومات، ولا حتى مصالح "شخصية" للحكام أنفسهم، وليس للبلاد والشعوب التي يتسلطون عليها فحسب.

 

دول بلا سيادة

نذكر عندما انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كيف قرّرت المنظومة السياسية العربية -لأوّل مرة منذ عشرات السنين- أن تتحوّل لقاءات القمم في جامعتها العربية إلى لقاءات سنوية دورية.. وكانت تلك بدايةً اقترنت بطرح كثير من "الآمال" أن يرافقها إصلاح الجامعة نفسها، لتكتسب ولو قدرا ما من التكتّل الحقيقي، في نطاق عالم يقوم على مزيد من التكتّل في كل منطقة جغرافية، وفي كل ميدان من الميادين.

بدلا من ذلك شهدت لقاءات القمم الدورية، مهاترات علنية، وغيابا استعراضيا، وانتهاكات متكرّرة للقرارات (التوصيات) المشتركة..

لقد هبط مستوى المنظومة السياسية والأمنية والاقتصادية العربية إلى حضيض مساهمة الدول القائمة نفسها في مسلسل انتهاك سيادتها الذاتية.

الدولة لا تقوم على أرض وشعب وسلطة فقط، بل تمثل "سيادتها" مناط وجودها، فإن أصبحت عرضة للانتهاك في أيّ وقت، بأية ذريعة، فلا ينبغي اعتبار تلك الدولة دولة أصلا.

 

لا سياسة ولا أمن

أخطر ما انزلقت إليه السلطات القائمة في معظم بلادنا هو تحويل ساحات المعركة الخارجية المفروضة إلى ساحات "معارك" داخلية مرفوضة، منها:

١- معارك داخلية بين السلطات والشعوب، أي تحويل مفعول مزيد من "الاستبداد الدولي" على الحكومات، إلى مزيد من "الاستبداد الداخلي المحلي" على الشعوب وخوض "معارك انتحارية" متعددة الأشكال، محورها الإصرار على استمرار عهد مهترئ.

٢- العجز عن تكوين علاقات على أي مستوى فعال، مع أقرب الدول النامية إلى المجموعة العربية والإسلامية، بما فيها الإسلامية الناشئة وسط آسيا، والإسلامية وغير الإسلامية في القارة الإفريقية.

٣- انهيار البقية الباقية من معاقل "التعليم" المستقلة عن التغريب ولو جزئيا، بما شمل جميع ما يتعلّق بالإسلام والتاريخ، سواء بالمنظور الإسلامي العقدي الحضاري الشامل، أو بالمنظور القومي، حتى وصل "التغريب اللغوي" (ناهيك عن الإعلامي والفكري والفني والاجتماعي) إلى "أمركة" الحضانات والمدارس الابتدائية، وتسرّب الأخذ باللغة الإنجليزية واللهجة الدارجة، إلى بلدان كانت لفترة من الزمن حريصة على التعليم الجامعي باللغة العربية.

٤- أمّا التسلّح فما زالت تحكمه أخطر الاعتبارات:

(آ) إنفاق عشرات المليارات في تسلّح "مقيّد" على حساب الإنفاق العلمي والاقتصادي والمعيشي، دون تحقيق أمن قطري أو عربي أو إسلامي..

(ب) التفرقة العسكرية القطرية المطلقة بانهيار منظومة الأمن العربي والإسلامي..

(ت) الاستيراد والارتباطات الأجنبية ممّا يحوّل ضياع الأمن الذاتي إلى هيمنة أجنبية أمنية مطلقة..

(ث) النزاعات الأمنية والممارسات القمعية الداخلية بعيدا عن معايير المصلحة الذاتية..

(ج) تفتيت النظرة الشمولية "الاستراتيجية" بما يقوّض مسار مختلف الجبهات، بدءا بقضية مصيرية كفلسطين، مرورا بالصحراء على الحدود الجنوبية للشمال الإفريقي (ومؤخرا على مستوى الخليج العربي)

لئن كانت الفوضى الهدّامة التي أطلقتها واشنطون من عقالها تحت عنوان "الخلاّقة" تتجسّد في ميادين بعينها، فأوّل الشواهد على تلك الميادين هو هذا الميدان العسكري الأمني.. ويمكن أن يصل تفتيت المنطقة العربية والإسلامية وإنهاك دولها درجة أبعد بكثير ممّا وصل إليه إذا استمرّت متابعة السياسات الرسمية الحالية.

نبيل شبيب