رؤية – المعرفة الواعية بقضايانا وأوضاعنا

عدم مكافحة الجهل لرفع مستوى المعرفة والوعي "تقصير" ينبغي التخلص منه، وجهود ترسيخ الجهل "جريمة".. فكيف نتعامل معها؟

48

 

ظاهرة أخطر من التجزئة – المعرفة الواعية المطلوبة – ليس التميز الذاتي "وصمة"! – تزييف فكري! – انتحار فكري – جديد الإعلام وتطويره كمثال

 

عندما تنفجر الأحداث حول قضية من قضايانا، ومع التأمل في التفاعل معها، يتجدّد السؤال عن مستوى المعرفة السائدة بتلك القضايا وتاريخها والأطراف المؤثرة فيها، أو ما انتشر من جهل بها نتيجة تغييبها عن الوعي العام، ثم السؤال عمّا يعنيه ذلك في غياب التأثير على ما يُصنع بتلك المناطق وأهلها، وما يترتّب على ذلك، ليس في إطار كل قضية على حدة فحسب، بل وعلى صعيد مستقبلنا جميعا، فليس في عالمنا المعاصر قضية منعزلة عن سواها، ولا ميدان يمكن التحرّك فيه دون أن تتأثر الميادين الأخرى، ولا يمكن توظيف أحداث قضية في صالح قضية أخرى، ما دام النظر في كل منها على حدة، مقتصرا على رؤيتها بمنظور القوى الدولية إليها، وتأثيرها على علاقاتها ببعضها بعضا، سلبا وإيجابا.

 

ظاهرة أخطر من التجزئة

كثيرا ما نرصد التأثر العميق المشحون بالغضب لدى عامّة العرب والمسلمين، تجاه ما يصيب إخوانهم وأخواتهم في أحداث مأساوية، يصنعها سواهم في أرضهم، دون أن يكون لهم نصيب يذكر في صناعة القرار، رغم تحمّلهم لأوخم عواقبه. نرصد التأثّر.. ولكن قليلا ما يتجاوز حدود التعبير الوجداني عنه، ولا يستهان بقيمة الوجدان الحيّ وما يصدر عنه، إنّما نحتاج معه إلى استيعاب أعمق وأوسع نطاقا على المستوى الجماهيري، لقضايانا المعاصرة، بخلفياتها التاريخية والسياسية والقانونية الدولية دون تزييف، وبحقيقة القوى الفاعلة فيها والصانعة لأحداثها وتطوّراتها، وبميادين التأثر المتبادل فيما بينها، وفي الإطار العالمي الأشمل.

ونرصد أيضا غياب الدراسات المنهجية التي تسمح باستخراج نتائج مطمئنة عن حقيقة مستوى المعرفة الجماهيرية الواعية بقضايانا المعاصرة، السياسية وغيرها، ويوجد بعض الشواهد على ذلك المستوى من حياتنا اليومية، ومن الأمثلة الموجعة عليها مسابقة ميدانية أجرتها أثناء الانتفاضة بفلسطين إحدى الفضائيات الخليجية، طرحت فيها عبر البث المباشر سؤالا يقول: متى استعملت الدول العربية النفط الخام سلاحا سياسيا، هل كان ذلك في حرب ١٩٦٧م، أم حرب ١٩٧٣م، أم أثناء غزو لبنان؟

لم يستطع حوالي عشرة من المشاهدين، من الشبيبة في الدرجة الأولى، إعطاء الإجابة الصحيحة، حتى جاءت على لسان مشاهد عربي من لندن، تبيّن أنّه أحد الدارسين المتخصصين في العلوم السياسية!

في هذا المثال مؤشرات عديدة بصدد مستوى المعرفة الواعية بقضايانا، وهو ما لا يقتصر على معرفة أهل بلد بأوضاع أهل بلد آخر، أو منطقة أخرى، فالمثال المذكور يكشف عن ظاهرة جهل خطير في منطقة الخليج تجاه واقعة تاريخية قريبة نسبيا، وبالغة الأهمية من حيث ما ساهمت بصياغته من الواقع الخليجي الراهن نفسه، ومن مجرى قضية مركزية عربيا وإسلاميا وعالميا كقضية فلسطين، فما هو إذن مستوى المعرفة بأحداث كبرى أبعد زمنيا عن جيل الشباب، من مثل وعد بلفور الباطل، أو النكبة الأولى بفلسطين، أو انفصال بنجلادش عن باكستان، وما هو مستوى المعرفة بقضايا أخرى مثل ما يجري في جنوب الفيليبين، أو مع الإيجوريين في تركستان الشرقية، أو في منطقة القوقاز.. أو سوى ذلك ممّا شهدته وتشهده أرضنا الممتدة ما بين المحيطات الثلاث.. ناهيك عن انتهاك حقوق الإنسان عموما في كل مكان من عالمنا؟

 

المعرفة الواعية المطلوبة

إنّ ما نتطلّع إليه من معرفة واعية بقضايانا لا ينشأ تلقائيا. وبالمقابل: ما نرصده ونشكو منه من جهل وغفلة، لم ينشأ وينتشر تلقائيا كذلك. من ألوان سبل نشر ذلك الجهل:

١- نشر معلومات كاذبة وخاطئة، لدوافع سياسية مؤقتة..

٢- التزييف.. كما كان أحيانا لترسيخ الفكر القومي عبر انفصام العلاقة بالمسلمين (وسواهم) من غير العرب!

٣- الترويج لتصوّرات مضلّلة، كالوهم بانعدام التأثير المتبادل بين مناطق متباعدة جغرافيا، أو الوهم باستحالة التأثير إلا من خلال الارتباط التبعي بقوة دولية.

٤- اعتماد ما سبق وما يشابهه في المناهج التعليمية والممارسات الإعلامية، ووسائل التعليم والتوعية الأخرى.

هذه أمثلة للتساؤل: إذا كان ضعف العمل لمكافحة الجهل ولرفع مستوى المعرفة والوعي "تقصيرا" ينبغي التخلص منه، فكيف نتعامل مع "جريمة" العمل المقصود لترسيخ الجهل والغفلة؟

ما سبق يرتبط بجانب واحد من جوانب المعرفة الواعية التي نفتقدها ونتطلّع إليها، يرتبط بالقضايا والأحداث، إنما تشمل "المعرفة الواعية" جوانب أخرى عديدة، وهذا مثال آخر على أحدها:

إنّ التقنيات والمهارات المعنية بالمعرفة العلمية هي الجديرة في الأصل بوصف "العالمية المشتركة"، الذي كثيرا ما يُطلق زورا على بعض قيم متدهورة بغرض توسيع نطاق ترويجها.

إن محاور العلوم المادية والتقنية وما ترتب عليها من منتجات، نشأ من الأصل وتطور تراكميا على سلّم تعاقب الحضارات البشرية ومن خلال تناقل علومها، فكان أساس التقدم التدريجي في الماضي، وأوصل إلى ما وصل التقدم إليه في العصر الحاضر.

إنّما ينبغي تجاوز حدود تحصيل هذه العلوم والمهارات بحد ذاتها إلى حقيقة أنّ كلّ إنتاج حديث نستهلكه يشمل:

١- القسم العلمي والتقني المشترك بشريا، ومثاله صناعة "آلة موسيقية" من أخشاب وأوتار، أو صناعة سيارة من محرك وهيكل، أو إقامة مبنى من مواد الأبنية المختلفة..

٢- القسم الصادر عن تميّز كلّ أمّة بشخصيتها، فهذا ما يتعدّد ويختلف باختلاف الأذواق والاحتياجات، فيسري على "الألحان" المعزوفة وتوظيفها، وعلى مظهر السيارة واستخدامها، وعلى هندسة المبنى وتجهيزاته، وهكذا!

هل نبذل ما يكفي من الجهود لنشر المعرفة الواعية على المستوى الفردي والجماعي، للتعامل الهادف مع أصل بناء الحضارة المادية والتقنية ومع منتجاتها اليومية ثم مع استخدامها وتوظيفها؟

 

ليس التميز الذاتي "وصمة"!

العبث بحقيقة قضايانا وخلفياتها وحقيقة مواقف الآخرين منها وبطرح الطرق القويمة لتعاملنا معها، عبث أخطر بكثير مما فقد توازنه على صعيد الاستيراد الاستهلاكي، فهو جوهر المعارف والمؤثرات التاريخية والعلوم الإنسانية الحضارية، وهو ما يميز كلّ أمّة بذاتها، وتلتزم به وتطبقه على نفسها الأمم الفرنسية والبريطانية والألمانية واليابانية وسواها، رغم وجود ثقافات مشتركة كبيرة بينها.

لا يدّعي أحد أنّ هذا التميّز يجعل تلك الأمم تفقد صفتها كعضو في الأسرة البشرية، كما يرشح باستمرار من الردود المحلية على دعوات التميّز الذاتي لأمّتنا، تميّزا ينبني عليه الوعي بالذات، والثقة بالنفس، ليولّد الدوافع للعمل، والعزيمة على ممارسته، والطاقة على تحمّل النتائج، حتى تتحقق الأهداف.

جميع ما يرتبط بهذا التميز الذاتي يستحيل "استيراده" مثلما نستورد -للأسف- معظم احتياجاتنا من البضائع الاستهلاكية بمختلف أنواعها ومن مختلف أنحاء العالم.

رغم ذلك يوجد بين ظهرانينا، من يسيطر على ثرواتنا، ويستخدمها فيما يستورده "لنا" من الغثّ دوما والسمين أحيانا نادرة، في ميدان المعرفة أيضا، فينشر المستورد من "الفكر والذوق الفني والقيمة الخلقية والبضاعة الثقافية" بأسلوب الترويج لمساحيق الغسيل والتجميل.

هذا أوّل ما يساهم إسهاما مباشرا في تقويض دعائم شخصية الأمة، وما دامت شخصية الأمة هي التي تحكم نوعية تفاعلها مع الأحداث، فكيف نتساءل بعد ذلك مستغربين: أين التفاعل القويم مع ما يجري بالعرب والمسلمين وقضاياهم وبالإنسان، جنس الإنسان، في مشارق الأرض ومغاربها؟

التميّز الذاتي في ميدان المعرفة الواعية لا يعني الانعزالية ولا العداء للآخر ولا التعصب، وما شابه ذلك من عناوين باتت أسلوبا رائجا لتجنّب مجرّد طرح الموضوع للنقاش. مثل هذه الاتهامات أسلوب ممجوج من أساليب "الإرهاب الفكري" تجاه دعوات مخلصة للعودة إلى شخصيتنا الذاتية الثقافية والفكرية. ومن المفارقات أنّنا لا نجد في الأعم الأغلب، أنّ تلك الأمم التي يراد أن "نقلّدها" أو نتبعها، لا تمارس شيئا من التقليد والاتباع لبعضها بعضا أو لسواها، بل إن ما هو مشترك فيما بينها -وهو كثير تاريخيا وفكريا- لا يطغى على ما هو متباين متميّز فيما بينها.

ومن الأهمية بمكان إدراك أن الاستفادة مما تعطيه دراسات "الآخر" مطلوبة، وشرطها هو القدرة على رؤيتها المتميزة بمنظور المعرفة الذاتية الواعية. إن ما يسري من العمومية أو العالمية على ما يصل إليه منهج البحث العلمي في قضايا الكيمياء والفيزياء وما نحا نحوها، لا يمكن الأخذ به في دراسات وبحوث حول قضايا ذات أبعاد فكرية وحضارية إنسانية، وأبعاد تاريخية ومستقبلية.

إنّ ما نستطيع صنعه، وما ينبغي أن نصنعه دون تسييب ولا إرهاب فكري، هو شبيه بما يصنع سوانا من الأمم، أن نطلّع على ما يقول الآخرون، ونعود إلى مصادرنا الذاتية في تقويمه، وإلى مصانع المعرفة الواعية لدينا نحن، وأن نضيف المزيد على أسس ثابتة. وهذه خطوات لا تعتمد على "تمويل وتقنيات" قدر ما تعتمد على عنصر "الإنسان".. ويستحيل اعتمادها دون تركيز جهود كبيرة على ترسيخ المعرفة الواعية ونشرها أولا.

 

تزييف فكري!

كان انتشار الجهل والغفلة نتيجة جهود بذلت، وممارسات انحرفت، فأصبح الانحراف مفروضا عبر القوة المادية المهيمنة، حتى أصبحت الحملات على الثوابت الراسخة في مجتمعاتنا ومن منطلق إنساني مزعوم ضربات موجّهة إلى صميم وجودنا وصميم "الأمل المستقبلي" في ترسيخ أسس التقارب والتفاهم، أي ترسيخ التعددية البشرية التي يزعم الجميع الحرص عليها!

هذه الحملات لا تأتي من خارج الحدود فقط، ولا يصح حصرها في بند "غزو فكري خارجي" فلم يعد يصلح معها إلقاء المسؤولية على "إرث استعماري".

التزييف يجري عن طريق أقلام تكتب في الأصل بلغتنا، وإن أدخلت عليها ما أدخلت من اعوجاج وانحراف، وعن طريق ألسنة تتقن سائر لهجاتنا، وإن سعت لتجعل منها سبلا لتعزيز التشتّت بدلا من تعزيز التعارف والتعاون والتكتل بيننا.

ومن ميادين تلك الحملات كتبنا وصحفنا وفضائياتنا، وفيها ما يعتبر مترجما ومقتبسا دون تمحيص، وإن زعم إبداعَه أحدُ المبدعين المحدَثين، وربما لم يكن مبدعا منضبطا حتى في النقل والترجمة.

ومن ميادين التزييف بعض مدارسنا وجامعاتنا الرسمية والأهلية، وبعض مراكزنا الفكرية والعلمية والتربيوية، ومن لا يذوب في نطاق سياساتها في الغالب يغدو محاصرا ومعزولا بل قد يغدو ملاحقا مطاردا أحيانا!

إن الغزو الأخطر هو غزو داخلي، ومن هنا لم يعد السؤال الأهم في صناعة المعرفة الواعية، سؤالا يمكن حصره في مواجهة ما يكيده عدوّ يهودي أو صربي، وأمريكي أو هندوسي، بل من السذاجة بمكان أن نتوقّع قعودهم عن ممارسة ما يمارسون خدمة لمصالحهم على حساب مصالحنا.

إنّ أزمة افتقاد "المعرفة الواعية" وبالتالي افتقاد التفاعل الجماهيري مع القضايا الكبرى وأحداثها انطلاقا من معرفة واعية بها، هي الأزمة الناشئة عمّا يصنعه فريق منّا، يملك -لأسباب عديدة- زمام التوجيه التعليمي والإعلامي والثقافي والفني، إلى درجة أقرب إلى الاحتكار، فهو بما يمارسه من تزييف، يؤثّر تأثير مباشرا على تنشئة جيل المستقبل.

وأول درجات الوعي المفروض فرضا هو إدراك أنّ ما يصنعه "بعضنا" على هذا النحو يصيب بنتائجه مستقبل أبنائنا وأحفادنا "جميعا"، وهي نتائج مستقبلية بالغة الخطورة بعد أن بلغت حملة التيئيس من قدرة جيلنا هذا على تحقيق الأهداف المشروعة مبلغها ففقدت قطاعات كبيرة منه أسباب الثقة بالنفس، إلاّ بصيصا من أمل إن انطفأ أيضا.. انطفأ كلّ شيء!

لا بدّ من حلّ هذه الإشكالية مع أنفسنا أوّلا لنتعامل تعاملا قويما كما ينبغي، وبقدر أكبر من ضمان أمننا الفكري والثقافي، مع ما يطرحه "الآخر" من خارج حدودنا، وكذلك، مع ظواهر واسعة التأثير في ميادين صناعة الإنسان لا صناعة المنتجات فقط، مثل ظاهرة "العولمة"!

 

انتحار فكري

لم تعد تكفي معالجة الأعراض فقد تزيل بعض الزيف ويحلّ مكانه زيف آخر نتيجة استمرار العلّة الأساسية، فتتكرّر الدورة دون نتيجة، وندور في موقعنا كمن يدور في الطاحون!

إنّ للإصابة التي صنعت هذا الزيف وأمثاله موقعا آخر يبدأ فيه العلاج، وهو تضييع الثوابت والمنطلقات الكبرى، وبالتالي افتقاد المقاييس والمعايير الذاتية المشتركة، فقد كان ذلك -وما يزال- هو السبب الأوّل فيما نرصده من هبوط مستوى المعرفة الواعية بقضايانا السياسية وغير السياسية، وهو ما انحرف بعملية نشر المعرفة والوعي في بلادنا انحرافات خطيرة، ومحور خطورتها هو افتقاد "آلية" تتوافر عند الفرد نفسه من عامة أهل بلادنا، عبر ما يكتسبه ويحققه بنفسه وتتهيأ له الأجواء من علم ومعرفة، وتربية وسلوك، ووعي وإخلاص، وبالتالي القدرة على الرؤية والتقويم، ليكشف بنفسه مواضع الانحراف فلا ينساق مع نتائجها، ولا يسوقه العابثون بها.

سبق أن عايشنا أمثلة خطيرة على ذلك الانسياق، منذ زمن لا بأس به، وأخطر مراحله ما كان في العقود القليلة الماضية على صعيد قضية فلسطين عبر مسيرة كامب ديفيد ومدريد وأوسلو، فكان ممّا كان فيها، حملات تضليل مبرمجة باسم مزاعم السلام والتطبيع، وتحت عناوين الفكر الواقعي.. وكانت الحصيلة مزيدا من مسخ الثوابت عبر متاهات لا نهاية لها.

لم يعد تزييف الوعي المعرفي مقتصرا مثلا:

١- على صيغة تعبّر عن "الهزيمة"، لتقول مثلا: "إنّنا على حق في قضية عادلة، ولكن لا بدّ من التنازلات والتسليم.. بسبب هزيمتنا".. بل بلغت درجة إنكار حقنا لتبرير زعامات من يصنعون الهزائم.

٢- ولا على صيغة إنكار ما نملك من إمكانات ذاتية كبرى للتغيير، وبالتالي الترويج لذرائع كاذبة وراء عملية تسليم توصف بالاضطرارية وما هي اضطرارية.

٣- والأبعد من ذلك هو ما تستهدفه حملات "الغزو الداخلي" من تبديل مضامين الثوابت والمنطلقات الكبرى، حتى تلك القائمة على وقائع وحقائق تاريخية محضة، كإلغاء "نسب الأرض التاريخي والحضاري"، وهو ممّا لا يقبل في الأصل التبديل أو الإلغاء منطقيا، إذ قام على ما حصل فعلا، وبالتالي لا يسقط من سجلّ التاريخ بمجرد القول إنّه لم يحصل، أو بمجرّد استخدام أسلوب في عرض التاريخ يعتمد حذف ما لا يناسب "المرحلة الآنية" أو مسخه، وإبراز ما يناسبها وتضخيمه!

إنّ لتزييف الثوابت التاريخية نتائج أخطر وأعمق تأثيرا بكثير من نتائج ما عايشناه ونعايشه أيضا من حملات لتبديل مضامين ثوابت أخرى، من نوعية ما تصنعه الاقتناعات الذاتية، مع عدم الاستهانة بذلك أيضا.

 

جديد الإعلام وتطويره كمثال

التركيز على الإعلام معروف، ويكاد يلفت النظر عن وسائل أشدّ خطرا وأبعد مفعولا، وليست موضع الحديث هنا، كمناهج مشوّهة في حضانة الأطفال وما يُطرح من لعب أطفال في الأسواق.. فنتساءل على صعيد جديد وسائل الإعلام كمثال فحسب:

١- ما الذي ستكون عليه مواصفات جيل المستقبل، في عالم الشبكات الإلكترونية والأقمار الصناعية، وتحت تأثير العولمة المالية والاقتصادية والفكرية؟

٢- كيف ستكون الحصيلة إذا كان جلّ وسائل الإعلام في بلادنا هزيلا حتى في نوعية مضامين "الترفيه" ولا يخصص شيئا يذكر لرفع مستوى المعرفة والوعي، وإن وجد بقي حدود الأبعاد القطرية والتجزئة فقط؟

٣- أين موقع صناعة المعرفة الواعية عندما تقول دراسة قامت بها المنظمة العربية للعلوم والثقافة، إنّ الجرعة الثقافية في محطات التلفاز العربية، الفضائية وغير الفضائية، تتراوح ما بين المعدومة وبين خمسة عشر في المائة؟

٤- لا نغفل بالمقابل عن بعض ما جرى في اتجاه "ثورة إعلامية".. ولكنها تتطلب الانتشار الواسع مع تحرير الرسالة الإعلامية من القيود القديمة والمستحدثة.

٥- ولا نغفل أن "القليل الإيجابي الحديث" تقابله قفزة رهيبة من نشر وسائل إعلام لترفيه فاقد البراءة، ولهو غارق في المجون، فضلا عن وصول حملة التغريب الفكرية والثقافية إلى مستوى الشراسة الهمجية.

٦- هذا مع ملاحظة أنّ القليل من المتطوّر الإيجابي في إعلامنا يركّز على "التوعية السياسية" أكثر من التوعية الفكرية والثقافية والخلقية.

نحتاج إلى التطوير في الميدان الإعلامي، ولا يكفي وحده، بل ينبغي بذل جهد مضاعف متميز، لتطوير مختلف الوسائل الفكرية والتعليمية والتربيوية والفنية والاجتماعية لرفع مستوى المعرفة المنهجية، ومستوى الوعي الجماهيري في بلادنا العربية والإسلامية، بما يقوم على عناصر الشمول والتوازن والتكامل، ويرسّخ الثوابت، ويعطي الأولوية للتلاقي على أرضية جامعة مشتركة.

نبيل شبيب