رؤية – الثورات.. واستمرارية التغيير التاريخي
التغيير الجذري الشامل لا الترقيع، هو المطلوب.. وسيتحقق، الشعوب الثائرة تعلم ذلك، وكذلك من يحاربها
الأخطار من كل جانب محدقة بالثورات والشعوب والبلاد والإنسان في هذه الأيام، التي تشهد تذكير أصحاب الأقلام بانطلاق تلك الثورات الشعبية في سورية وأخواتها عام ٢٠١١م..
خطر استمرار الإجرام وتصعيد المعاناة ماثل للعيان..
خطر ترسيخ حقبة استبدادية همجية جديدة ماثل للعيان..
خطر صراعات مطوّلة برعاية هيمنة أجنبية ماثل للعيان..
خطر تنصيب أنظمة متخلّفة بديلة مكان أنظمة متخلفة مهترئة ماثل للعيان..
ولكن أين مفاتيح مواجهة هذه الأخطار مواجهة فاعلة تدعم مسار صناعة التغيير الجذري الحضاري الإنساني، الشامل والمستدام، بعد أن فتحت الثورات الشعبية بوابته على مصراعيها واستنفرت القوى المهيمنة عالميا لمواجهته وهو في طور الولادة الأولى؟
الخطر الأكبر على مسيرة التغيير
جميع ما سبق من أخطار هو من نوعيات ما تشهده في مسار التاريخ مرحلة احتضار حقب الانحطاط والموات وولادة حقبة حضارية إنسانية تالية، وهذا ما يؤكد أن التغيير قادم، ولكن ما زال في الإمكان إطالة مرحلة الاحتضار ومضاعفة آلام مخاض الولادة، وهنا نجد الخطر الأكبر كامنا في انتشار الوهم -أو نشره عمدا- بانقطاع الطريق الواصلة ما بين اندلاع ثورة شعبية، والإعداد لدولة منبثقة عن الثورة، ونشأة واقع اجتماعي جديد يتحقق فيه التغيير الحضاري الإنساني.
هذا هدف قررته الثورات الشعبية وشقّت طريقه..
وهذا هدف تسعى "الفوضى الهدامة" الحيلولة دونه، وصنّاعها هم من يريدون أن ينتشر الوهم الخطير بنهاية الثورات وربيعها العربي.. ويخدم تلك "الفوضى الهدّامة" من يروّج لذلك، قاصدا أو غير قاصد.
. . .
يتغافلون عن مظاهر "احتضار" مرئية لهيمنة استغلالية عدوانية قتلت "الحضارة الحداثية" من داخلها، وينتقون من بين مظاهر "آلام مخاض البديل" ما يركّزون عليه، ليقولوا بلسان الحال وعبر ممارسات الإجرام:
في تونس: مهما تمسكتم بطريق سياسي معتدل لن يقوم حكم الإرادة الشعبية المستقلة استقلالا ناجزا..
في ليبيا: لن ينقطع دعم القوة العسكرية المنحرفة المضادة على حساب القوى الثورية والشعبية المسلحة..
في مصر: سيتسمر دعم انقلاب محلي متخلّف، ويستمر الاستخفاف بدماء بريئة في رابعة وأخواتها وبمعاناة ضجّت بها زنازن سجون امتلأت بشبيبة الثورة الحضارية المتميزة..
في اليمن: دماء "ثورة الشباب" تنزف يوميا بعد إغراق ساحاتها بضحايا إجرام متمرد مدعوم إقليميا ودوليا..
في سورية: إبادة الشعب الثائر مستمرة علنا.. ما استمر متشبثا بثورته رغم المعاناة من همجية محلية ودولية..
في تركيا: كل من يملك دعم استقلال إرادة الشعوب ويفعل ذلك.. مستهدف كالشعوب الثائرة نفسها.
. . .
إن الجهود التي تريد نشر وهم "سقوط هدف التغيير" نهائيا جهود خبيثة متنوعة واسعة النطاق، وينبغي أن يكون واضحا للمخلصين في مسيرة الثورات التغييرية كل الوضوح، أن طريق الثورات لا ينقطع فعلا إلا في اللحظة التي يسيطر فيها على الأذهان وساحات العمل ذاك الوهم الخبيث.
ينبغي أن يكون واضحا لكل من يسأل: وما العمل؟ أن البداية هي الإرادة ليرى السائل بنفسه مواطن العمل وإمكاناته الذاتية للإسهام في النهوض به.
يمكن لقوة مادية مسيطرة أن تقهر قوة مادية ناشئة.. ولكن قهر الإرادة هو الخطر الأكبر، فهو ما يغتال القدرة على الاستمرار والإبداع والتطوير.
مفتاح التغيير.. هو الثبات على طريق صناعته
من يحرص على مواجهة وهم "انتهت الثورة" وجب عليه أن ينشر بنفسه، قولا وعملا، أن درب التغيير مرتبط بالوعي بجوهر المعركة ما بين إرادة الشعوب الثائرة وفجور قوى همجية مضادة.
ليست "الفصائل والأحزاب والجماعات والنخب والانتماءات المتعددة" هي المستهدفة سواء استقام بعضها أو انحرف وسواء تمرّد أو أمكن تطويعه..
ليس هذا النظام أو ذاك وهذه الفئة أو تلك وهذه الأكثرية أو تلك الأقلية هو ما يحسم في مآلات معركة تخوضها الشعوب منذ أطلقت ثوراتها بهدف التغيير..
الشعوب هي المستهدفة.. والشعوب هي القادرة على متابعة الطريق وصنع المآلات، فهي التي أطلقت ثوراتها بعد انتشار الوهم بمواتها، وبعد غسيل دماغ جماعي متواصل منذ عقود وعقود عبر ضغوط الفقر والبطر، والقهر والخنوع، والتخلف والانحلال.. ويتجدد غسيل الدماغ الجماعي الآن عبر ضغوط المعاناة والتضليل وفجور نوعي في استخدام أسلحة العدوان على جنس الإنسان، لنتوهم جميعا، أن مرحلة "دفن الثورات" قد بدأت..
هذا ما تستهدفه عملية استعراضية كبرى، "يتفرّج" فيها أصحاب الإمكانات كيف تراق الدماء جهارا نهارا، وكيف تستخدم الأسلحة الفتاكة في الإبادة الجماعية دون عقاب، وكيف يشرد الملايين دون مأوى أو نخوة إنسانية، بل وصلت أساليب التطويع الفاجرة إلى مستوى "رصد رسمي" لتقارير وتحقيقات دولية، تصدر واحدا تلو الآخر، وتوثق الجرائم الكبرى المرتكبة، ويُحتفى بها في اجتماعات عملاقة.. ثم يبقى "تسليط الأضواء الساطعة" على "عدم التصرف"، أي على أن كل ما يُصنع ويوثق مجرد حبر على ورق.. حبر بحمرة دماء الضحايا ممزوجة بحبر أسود لضمير عالمي متعفن.
إن الرسالة المقصودة من هذه العملية الاستعراضية موجهة إلى الشعوب الثائرة وليس إلى نخب عاجزة أو متخاذلة من قبل الثورة وأثناءها..
يا أيتها الشعوب الثائرة.. إن "الفوضى الهدامة الدموية" تطالبك بالتخلي عن الثورات نهائيا والعودة إلى الخنوع المطلق لاستبداد همجي محلي ودولي.
من يستجيب لهذا النداء ويدعو للاستجابة ويروّج لمن يتحدث بذلك، لا يمثل ثورات ولا شعوبا ولا أوطانا ولا انتماءات، ولا يمثل أجيالا مضت وأجيالا قادمة، وهيهات يشارك في صناعة تغيير تاريخي، إنما هو من "الأدوات".. يمثل معاول وخناجر في أيدي من ينهال بها على الضحايا والمعتقلين والمعذبين والمشردين والثوار والأجيال القادمة.
إن الإسهام في نشر هذا النداء بلسان مبين أو بلسان الحال، هو حاضنة الخطر الأكبر على مسار التغيير ببعده التاريخي الثوري الكبير.
تعدّدت النماذج.. والحصيلة واحدة
لا يعود التاريخ إلى الوراء.. فلن تتغيّر المكانة التاريخية الحضارية المرموقة لهذه الثورات الشعبية العربية، إنّما ينبغي تصحيح استيعاب المعاصرين لهذا الحدث الكبير، تصحيح استيعابنا نحن.. لثورات أعطت -وهي في بداية التحوّل التاريخي الكبير- أدلّة إضافية وقاطعة على ما كان معروفا نظريا من قبل، وأصبح بالثورات "نموذجا" تطبيقيا موثقا بالدماء والآهات، وبالبطولات أيضا:
إن أنظمة الاستبداد والهيمنة الأجنبية مجرّد عصابات فاسدة مسلّحة، تتفاوت في نوعية تنظيمها، وأساليب استبدادها، ودرجات فسادها، وعلنية عنفها.. ولا قيمة للخوض في تفاصيل تلفت الأنظار عن جوهر الهدف المطلوب: إزالتها من الجذور.. فأصل وجودها مرفوض بجميع ألوانه جملة وتفصيلا، وسيبقى مرفوضا، طال الأمد بحقبة التغيير الجارية أو قصر.
. . .
ما زالت توجد أنظمة محلية في المنطقة تخشى أن يصل إليها مدّ التغيير فتسقط الخشب المسندة، ولهذا بات معظمها يدعم علنا مختلف أشكال الفوضى الهدامة، بما فيها تلك التي حوّلت "العنصر الطائفي الاستبدادي" من خطر محلي إلى خطر إقليمي داهم، وحوّلت التدخل الخارجي عبر الدعم العسكري والسياسي، إلى تدخل عسكري فاحش مباشر، يهدّد الجميع.. بما في ذلك تلك الأنظمة نفسها، المشاركة في العدوان الخارجي، أو المترددة بعض التردد، وحتى تلك المتشبثة بالتسلّط وهي كالجثامين المحنطة على فراش غيبوبة الموت الأخيرة، كما في الجزائر.
هذه معادلة أزلية أبدية: استبداد وثورة.. واستيعابها يحقق استيعاب هذه المرحلة -وسواها- ويكشف أن الجهة المستهدفة بتغوّل الإجرام محليا ودوليا هي "إرادة التغيير الشعبية" فهي التي صنعت الثورات من تحت رماد الموات المصطنع منذ عقود وعقود، فأثبتت أنّ العنف الإجرامي الاستبدادي المتواصل لا يمنع انطلاق ثورة شعبية آن أوانها تاريخيا وقد صنع الاستبداد نفسه مشروعيتها وصنع جميع أسبابها، ولن يمنع تجددها وتواصلها وانتصاراتها.
اغتيال الإرادة الشعبية مستحيل ما دامت متجذرة في طاقات جيل من الشبيبة تنحني بين يديه القامات والهامات..
هو طريق التغيير التاريخي، انطلق منذ اللحظة الأولى للتحرك الشعبي جنوب تونس، وبدّل في هذه الأثناء خارطة السياسات والتحالفات والمعطيات إقليميا ودوليا.. وإذا كان صناع "الفوضى الهدّامة" والمتخاذلون أمامها يروّجون لأوهامهم بانقطاع مسيرة التغيير، فلا يوجد جواب شعبي معبر عن إرادة شعبية مستقلة من فوق كل انتماء وكل اجتهاد وفوق كل انحراف وكل خطأ، سوى جواب واحد: مسيرة التغيير مستمرة حتى يتحقق التغيير.
. . .
لم يبق الاستبداد والاستغلال والهيمنة العدوانية الأجنبية طوال الحقبة الماضية إلا في غياب إعلان كلمة "لا" عاليةً مدويةً من جانب الجماهير الشعبية، وقد انطلقت في ربيع ٢٠١١م:
أحرقت من اللحظة الأولى أساليب التسلط بممارسة التزوير والتضليل والترهيب بحالة طوارئ أو دونها، وبمحاكمات قمعية مزيّفة أو دونها، وصياغة نصوص شاذة توصف بالدساتير أو دون دستور، وتشريع الاستبداد بقوانين ما هي بالقوانين أو سنّ قوانين شكلية وانتهاكها..
أحرقت مظاهر تبجيلٍ كبير مضحك للحاكم "الملهم" الفرد أو تبجيلٍ محدود مضحك، والركون إلى تبجّح السلطة بالقمع والتنكيل أو إلى دهاء السلطة وهي تمارس القمع والتنكيل..
كشفت عورات تزييف المهرجانات وتسميتها انتخابات واستفتاءات، أو تزييف المهرجانات وتسميتها "غراما" بالسلطان وعائلته وحاشيته و"إجرامه"، واعتبارها مراسيم طاعة له مهما عصا شعبه وتمرّد على إرادته، كما كشفت تسلّط العصابة الواحدة على الحكم والثروات باسم حزب أو دون حزب..
لقد بدأت مسيرة التغيير..
بدأت ولم يعد ينخدع إنسان عاقل بصناعة التخلّف مع ادّعاء التقدّم، وصناعة الفقر مع نهب الثروات، والاحتفال بإنجازات خاوية، والتفاخر بجرائم محدودة بحق القضايا المصيرية بدعوى أنّها جرائم أقلّ شأنا ممّا يرتكب الآخرون..
بدأت مسيرة التغيير..
وفقدت أصنام التسلّط سلاحا مزوّرا للإفتاء بتحريم الثورات على الاستبداد، أو عبر انقلابات يسميها ثورات..
مضى جميع ذلك لأن الثورات الشعبية الجارية وضعت حدّا تاريخيا نهائيا له.. ولن ينقطع مفعول الجذوة الأولى، فقد اكتشفت الشعوب قوّة إرادتها وقرّرت فرضها، من أجل التغيير الجذري الشامل، سواء رضيت العصابات المتسلّطة بذلك واستجابت، أم أبت وأجرمت.
من سيسقط ويستسلم؟
يقولون: الطريق دامٍ وطويل.. فهل يخيفون بذلك من "عايش" بنفسه كيف كان طريق الخنوع للاستبداد -دون ثورة- داميا وطويلا؟
يقولون: لن تسمح قوى ما يسمى "المجتمع الدولي" زورا وبهتانا لشعوبنا بالتحرر والنهوض والتغيير.. فهل يقنعون بذلك من أطلق الثورات دون استئذان قوة دولية مهيمنة ولا قوة محلية تابعة؟
ومنذا يمكن تضليله -إلا من فقد عقله- بأولئك الذين كانوا يخمدون الانقلابات على انقلاباتهم بحجة أنّها انقلابات مسلّحة ليس لها "مشروعية".. يزعمون هم مثلها لانقلاباتهم!
ومنذا يمكن خداعه ـإلا من فقد بصيرته- بأنهم سادة الصمود والمقاومة والممانعة والتحدي وهم يمارسون ما يمارسون من إجرام بأسلحةٍ كدّسوها عبر نهب ثروات الشعوب المنكوبة بهم!
مسيرة التغيير بدأت..
بدأت مع اللحظة الأولى لانطلاق شعوب ثائرة طال التسلّط عليها.. وتريد الكرامة، والعزة، والحرية، والنهوض، والوحدة، والعدالة، والحقوق، والأمن.. فهل تغير شيء من معادلة الثورة ضد الاستبداد الهمجي المحلي والدولي؟
مسيرة التغيير بدأت..
فما أصغر من يتوهم قابلية قطعها من خلال أدوات قمع يستوردها "مستبد صغير" عاجز حتى عن صناعتها محليا، كعجزه عن صناعة منتج وطني، وزراعة غذاء محلي، وإقامة أمن إقليمي، أو قطري، أو عربي وإسلامي.. أو حتى أمن شخصي لنفسه؟
مسيرة التغيير بدأت..
وهو تغيير جذري حضاري إنساني شامل.. الشعوب الثائرة تعلم ذلك حق العلم.. والمستبدون جميعا يعلمون ذلك حق العلم، والعالم كلّه يعلم ذلك حق العلم..
ولن يتبدّل هدف التغيير ولن يوأد..
. . .
كلا يا أهلنا في سورية وأخواتها جميعا..
كلا يا إخوتنا من جنس الإنسان في كل مكان..
ليست المشكلة الأكبر في هذه المرحلة مشكلة ثورات شعبية عرفت أهدافها وسلكت طريقها، والشعوب قادرة على تفجير طاقاتها وتجديد وقودها.. إنما هي مشكلة عصابات التسلّط المسلّحة.. وستسقط
هي مشكلة استبداد محلي ودولي، من رؤوس الأخطبوط وفروعه، فهو عاجز عن التخلص من عقلية العصابات المسلّحة..
هي مشكلة قوى الاستبداد وهي عاجزة عن الاستمرار طويلا وإن تحالفت ليستمر بطشها الهمجي إلى حين، وستبقى الشعوب الصامدة المصابرة.. والمنتصرة بإذن الله.
نبيل شبيب