رؤية – التغيير الشامل قطار يمضي بنا ومن دوننا

الحصار أن نتوهم خيارنا في غدنا محصورا ما بين موت أهلينا دون كفن وقبر أو موت أهلينا في كفن الفساد وقبر الاستبداد وموتنا في مذلّة علنية مكشوفة

40

 

الثورة السلمية وسيلة.. الثورة المسلحة وسيلة.. حرب العصابات وسيلة.. العمل السياسي وسيلة.. العصيان المدني وسيلة.. ولا ينبغي في مسار أي تغيير تاريخي أن نخلط بين الوسائل المتعددة والهدف.

صناعة الإنسان الكريم الرافض لعبودية الاستبداد هدف.. صناعة المؤهلات والكفاءات هدف.. صناعة شبكة العلاقات البينية والخارجية هدف.. إغاثة الملهوف وتخفيف المعاناة هدف.. ترشيد الإمكانات الذاتية وتنميتها هدف.. ولكن جميع هذه الأهداف وأمثالها، أهداف فرعية تصب في هدف جامع واحد هو هدف التغيير الجذري الشامل، فمن دون تحقيقه يستحيل تحقيق هدف فرعي.. ولا ينبغي في مسار أي تغيير تاريخي أن تختلط علينا الأولويات بين الأهداف الفرعية المتكاملة، فنسيء في توظيف الوسائل المحدودة والإمكانات الشحيحة.

ثم إن الأخطاء جزء لا ينفصل عن مسار أي عمل، وإن الانحرافات طفيليات من المستحيل تجنب وقوعها تجنبا كاملا، وإن الاختراقات المعادية جزء مما "يجب" توقعه في أي مواجهة بين جبهتين.. وكلما كان هدف التغيير كبيرا وكان الوصول إليه عسيرا، كان نصيب الأخطاء والغفلة كبيرا وكان مفعول الانحرافات والاختراقات مدمّرا، إنما من يحسب حسابها لا "يفجعه" وقوعها بقدر ما يحفزه لمتابعة الطريق "رغما" عنها.

 

التاريخ يشهد على حتمية التغيير، مهما بدأ مع ضعف شديد في جبهة الحق ومع تجبر استعراضي على جبهة الباطل، وفي كل مرحلة من المراحل نجد مزيدا من الشواهد على حتمية تبدل المعادلة وحدوث التغيير، كالمرحلة الحالية التي نعايشها مع مسلسل الآلام والمعاناة والتضحيات في مسار الثورة الشعبية بسورية، فمن يتابع بعمق ما يقول أهل الغوطة وما يجري على أرض الغوطة، بوابة دمشق وبوابة التاريخ، يدرك كما لم يدرك من قبل معنى المقولة "الثورة لا تموت.. الثورة تستشهد أو تنتصر".. وستنتصر بإذن الله.

 

لقد بلغت المعاناة عنان السماء.. ولكن لا يرتدّ عن طريق الثورة وهو حيّ.. إلا غافل عن المعاناة ومن يعانون، فالردة عن طريق الثورة تعني استمرار المعاناة وزيادتها، ولهذا تبقى الثورة ماضية حتى تضع حدا نهائيا للمعاناة..

والقتل يزفّ الشهداء لجنة الخلد.. ولكن لا يغتال ثورة شعبية تغييرية..

والنصر يصنعه الثوار، ثوار التغيير وليس ثوار التسليم في مرحلة من المراحل.

والهدف مهما كانت طبيعة المرحلة.. يبقى هو هدف التغيير الذي صنع الثورة ويبقى إلى ما بعد انحسار مدّها السلمي، أو مدها المسلّح، أو مدها "المصلحي" على مستوى علاقات خارجية.

إن فريضة الإعداد الآن في مراحل انحسار "وسيلة الثورة"، هي الفريضة المرتبطة بقادم الأيام، ولا تقل أهميتها إطلاقا عن أهمية فريضة الصمود هذه الأيام.

 

من أدمن التثبيط أيام المدّ الثوري السلمي والمسلح.. وما يزال يدمن التثبيط أيام انحسار زخم الثورة السلمي والمسلح، هو من يستهزئ هذه الأيام بكل من يتشبث عبر صمود "الأهل" من المحاصرين.. والمعانين.. ومن القلة الثورية المتشبثة بالسلاح.. ويتجدد ذلك الاستهزاء كلما سمع الانهزاميون والمستهزئون ما نردده عن هدف التغيير نحو العدالة.. والحرية.. والكرامة.

هؤلاء أصغر من الأهداف الكبيرة الجليلة بكثير، وأصغر من القدرة على رؤيتها وفهمها، ناهيك عن حمل تبعاتها الجسيمة، ولكن يعلمون -رغم الثرثرة- أنها لا تتحقق إلا بمتابعة طريق الثورة التغييرية الطويل.

يقول المثبطون والمستهزئون: أنتم تحلمون.. فيا أيها الملأ ابقوا أسرى في أبراج كوابيسكم، ولنسترشد بأنوار أحلامنا الكبيرة، فالتخلي عن "العمل" من أجلها هو الكابوس الأكبر والأخطر والأفحش في حق الشهداء والضحايا وجميع من يعانون حتى يتحقق النصر.

 

لا ورب العزة.. لن نبلغ النصر بالأحلام بل بتحقيق شروطه الموضوعية الملموسة، ومن شروطه أن يبذل كل فرد ما يستطيع حقا، ولن يفعل.. إلا إذا أدرك أنه يستطيع العمل.. لا الكلام فقط، فكفّ لسانه وقلمه عن الثرثرة المستمرة عبر انتقاص ما يصنع سواه بقدر ما يستطيع.. وعبر تجاهله لواجب التلاقي، تلاقي الجميع على متابعة طريق الثورة التغييرية حتى النصر.

أيّ نصر؟

ليس النصر "كيلومترات مربعة من الأرض".. بل هو جملة مبادئ لا تتحقق إنسانية الإنسان دون تطبيقها في واقعنا المعاش على هذه الأرض.

ليس النصر "أعدادا أكثر" من قتلى المجرمين المعتدين وهم يألمون كما تألمون، بل هو القضاء التام على كل ثغرة من الثغرات التي يمكن أن يتسرب منها مجددا الاستبداد الفاسد الإجرامي، المحلي والدولي، كما تسرب منذ خمسة عقود فانتشرت جذوره كالأخطبوط ولهذا كان لا بدّ من التضحيات الغالية وغير المسبوقة على طريق العمل الثوري لاجتثاثه بجذوره وفروعه.. واجتثاث ما يسعون لزرعه بديلا عنه دون أن يكون مختلفا في جوهره عما كان عليه من فساد وإجرام.

 

لقد أصبحت المؤتمرات الدولية.. والعالم الافتراضي، وباتت الفضائيات "العتيقة والصديقة" والتصريحات السياسية وشبه السياسية.. وباتت التقارير الدولية عن الحالات الإنسانية بل حتى التعامل مع الشحنات المحدودة لتخفيف المعاناة الإنسانية.. بات جميع ذلك هو "الحصار الحقيقي الأخطر" من أجل سدّ آفاق رؤيتنا ليوم غد، وأن نتوهم خيارنا في غدنا محصورا ما بين موت أهلينا دون كفن وقبر أو موت أهلينا في كفن الفساد وقبر الاستبداد وموتنا في قعر منحدر المذلّة العلنية المكشوفة.

لا مخرج من واقع الغوطة.. إلا الغوطة.

ولا مخرج من واقع الثورة.. إلا الثورة.

ولا مخرج من مسار التغيير.. إلا مسار التغيير.

ولا مخرج مما نحن جميعا فيه إلا بمواصلة العمل من أجل رؤية مشتركة للتغيير، كان قصورنا عن العمل من أجلها كبيرا وبنتائج وخيمة قاتلة.. من قبل الثورة، ثم رغم مدّها الكبير، ثم أثناء انحسارها الخطير، فمن كان صادقا في ألمه عبر "نعيه" لشعبه وثورة شعبه، أو كان صادقا في "حلمه" من أجل شعبه وتحرير شعبه، فليستدرك الآن ونحن على الطريق ما فاتنا من قبل، وليعمل الآن من أجل الالتقاء على رؤية مشتركة.. فما فات الأوان عليها، إنما كاد أن يفوت علينا نحن سواء في ذلك من يدعو لها، أو من يتجاهل الدعوة أو من يحسب نفسه عاجزا عن الإسهام في الاستجابة لها.

نبيل شبيب