رؤية – اغتيال الأرقام وموات الوجدان
لقد قتلتنا الأرقام وقتلناها.. قتلت فينا الإحساس والوجدان وقتلنا فيها تعبير كل رقم منها عن "الإنسان"
انتشرت شكاوانا من أن الأرقام لم تعد تترك أثرا فاعلا في واقعنا، وكل رقم عبارة عن شهيد أو جريح أو معتقل أو معذب أو مشرد أو مضطهد أو محروم أو ضحية اغتيال قضاء زائف وإعلام مزيف وسياسات همجية.
هم شهداء الثورات على الاستبداد أو المقاومة الحقة ضد الاحتلال، وهم أعداد لا تحصى من ضحايا اليورانيوم المخضب الذي استخدمه الأمريكيون ومن ضحايا البراميل المتفجرة التي يستخدمها الأسديون ومن ضحايا حصار غزة وفلسطين الذي يمارسه الصهيونيون بمشاركة الانقلابيين.. ومن الأبرياء ضحايا العدوان والاستبداد، في المعتقلات والسجون، الإسرائيلية.. والعربية، ناهيك عن شعوب بأكملها تعيش في معتقلات كبرى في "الهواء الطلق المسموم"!
لا يكاد يمر يوم دون مزيد من الأرقام.. حتى قتلتنا وقتلناها.. قتلت فينا يقظة الوجدان وقتلنا فيها مغزى تعبير كل منها عن "إنسان" كي نعمل "موضوعيا" من أجله!
قتلتنا وقتلناها حتى في حالة حوادث ناجمة عن إهمال وتقصير، كغرق عبّارة، أو حريق مسرح، أو سقوط حافلة تحمل التلاميذ في ترعة موت مائية، أو غرق الهاربين على زوارق الموت من جحيم "أنظمتهم".. فلا حساب ولا عقاب ولا حتى استقالة أو غرامة!
أفراد معدودون من القتلى في حادث طائرة، يؤثر مقتلهم على صناعة القرار بشكل أو بآخر، في البلدان التي تحترم السلطات فيها الشعوب وتستشعر مسؤوليتها تجاه الناخبين -وليس الحديث هنا عن مظالم أخرى ترتكبها- وعشرات أو مئات من الأفراد يسقطون في حروبها العدوانية، فيبدل سقوطهم المزاج الجماهيري والإعلامي ويؤثر على صناعة القرار السياسي والعسكري، فيطغى الحديث عن الانسحاب مع "حفظ ماء الوجه" على سواه، وإن لم يتوقف البحث عن أساليب أخرى لتحقيق مطامع الهيمنة!
أما "أرقامنا المذهلة" عن الشهداء والمشوهين والمشردين والمعذبين والميتمين، فجميع هؤلاء على امتداد العالم العربي والإسلامي لا يدفعون الأمة إلى انتفاضة ولا حكومة إلى استقالة ولا قمة إلى نهج سياسي قويم.. كما تصنع أحيانا موجات رفع الأسعار على حساب الفئات الضعيفة والفقيرة!
أصبحنا نتابع "أخبارا".. ولا نرى في ثناياها دماء وأرواحا ولا أنينا وعذابا ولا خسارة بشرية ومادية فيما يصدّع رؤوسنا يوميا من أرقام قتلتنا وقتلناها.. ولهذا لا يتحول الحديث إلى قوة تحيي الوجدان، ولا إلى إبداع يحرك الأقلام، ولا إلى حياء يحجب بحمرة دم الضحايا حمرة المجون في شاشات التلفزة، ويحجب بما تعنيه هذه الأرقام في واقع الأمة، بعضَ ما يعنيه التدجيل والغثاء في حاضرها ومستقبلها.
إن الأرقام تعني عند معظم شعوب الأرض وعند نخب الثقافات المختلفة، وفي الجامعات ووسائل الإعلام، ومراكز البحوث ومواقع صناعة القرار.. تعني أهم ركائز النظرة الموضوعية والتحليلات المنهجية والفكر والتخطيط، ولكن ساهمنا في اغتيال مفعولها هذا من خلال نشر عبارات تسويقية:
"انتهى عصر الإيديولوجيات!".. وكأن الكلام عن "المصالح المادية النفعية" ليس "إيديولوجية براجماتية" ابتكرها فيلسوف أمريكي قبل قرن ونيف من الزمن..
"دعوا الحماسة والعواطف!".. وكأننا لا نرصد إبداعات أهل الأدب والفكر والفنون في بلدان أخرى للقصص والمسرحيات والأفلام والصور والمسابقات حرصا على يقظة الوجدان تجاه "محرقة" قديمة في بلادهم أولإثارة جماهيرية تخدم تبرير العدوان على بلدان أخرى..
"هذا خطاب تحريضي".. و"هذا كلام مثالي".. والأمثلة كثيرة، وكأن من يطلقونها ويروّجون لها -ومن يصدقونها أيضا- يلتزمون المنهجية والموضوعية في قولهم وفعلهم حقا!
لقد ساهمت تلك العبارات وأمثالها في موات الوجدان، ونحن في أمس الحاجة إليه لنتأثر بالحدث فيدفعنا دفعا على طريق التزام الموضوعية والمنهجية في معالجة مشكلاتنا وتغيير أوضاعنا.. ولهذا أصبحنا لا نتأثر بعدد القتلى والجرحى قدر تأثر كثير منا بعدد الراقصين والراقصات، وتعايش كثير منا مع حمرة الخمرة والإشاحة بوجوههم عن حمرة الدماء!
لن نميز دون وجدان حي أصوات الأنين والشكوى لانشغالنا بصخب التهليل لرقم قياسي يحمل اسما عربيا فيما يسمى "موسوعة جينتس" الأمريكية.. التي لا تنشر أرقامنا القياسية عن ضحايا الحروب من قتلى ومشردين.. وعن ضحايا التخلف والعجز المصنوعَيْن صنعا، من جوعى ومرضى وأميين ومتسكعين وعاطلين وبائسين!
لن نميز دون حياة الوجدان واستقامة الضمير ورجحان العقل ما بين أرقام التزوير والتزييف في تقارير لا تنقطع حول "تقدمنا" بين الأمم.. وأرقام قتلتنا وقتلناها عن واقع تخلفنا في كل ميدان.. ونحن نتوهم التقدم ببناء ناطحات سحاب بخبرات "الأجنبي" وقيادة سيارات واستيراد أسلحة من صناعة "الأجنبي" في بلاد تساهم أنظمتها في تمريغ دماء أهلنا ودموعهم تحت التراب!
حياة الوجدان شرط من شروط التمييز بين أرقام عن قلة تتسلط وكثرة تتلقى السياط، ومن شروط ظهور "قيادات" وليس مجرد "نخب" تعزف على أوتار نشر اليأس والقنوط والعجز والإحباط..
لكل حالة استثناء.. نعم، ولكن يجب أن نتحول من حالات "استثنائية" إلى حالات "طبيعية" تكون هي القاعدة.. فآنذاك نعطي مضمونا للعبارة التجميلية التي نستخدمها حول واقعنا البائس: نحن على طريق النهوض، بدلا من اغتيال معنى العبارات مع الأرقام ومفعولها، على مذبح موات الوجدان.
نبيل شبيب