رأي – مغترب يتحدث بين يدي العلماء
الخطأ في الاجتهاد لا يستدعي الخطأ في أسلوب الانتقاد
ــــــــــ
تردد القلم كثيرا قبل أن يتناول موضوعا كثر اللغط حوله، إذ يتعرض لأقوال صدرت عن علماء كرام، وليس صاحب هذا القلم من العلماء، ولكن يتلاشى التردد سريعا عندما يذكر “المجادلة” وهي تطلب “العدل” في مسألة لا نتحدث بمثلها هذه الأيام إلا همسا، فخلّد القرآن الكريم موقفها وسلوكها، ويتلاشى التردد أيضا مع قصة الفتاة الصبية التي اعترضت بين يدي خاتم من نزل عليهم الوحي الرباني، وأمام جمهرة المسلمين، على “تزويج أبيها إياها ممن لا تريد”، فخلّد مشهدَها الحديث الصحيح.
قائمة الأمثلة من هذا القبيل طويلة، وهي التي تحدد إطار التعامل مع “ورثة الأنبياء” وليس ما يشيع من “غريب الكلام” من خارج نطاق الشرع الثابت ورودا ودلالة، مثل عبارة “لحوم العلماء مسمومة” المنسوبة لابن عساكر، والخطأ في “التخصيص”، فجميع “لحوم البشر” مسمومة عند ممارسة الغيبة والبهتان والإفك وما يلحق بها.
. . .
على جميع الأحوال يأبى هذا القلم على نفسه أن يخوض في هذا الموضوع -وفي سواه- بأسلوب مرفوض من حيث الأساس، بل يدعو إلى تجنبه، في الحديث عن العلماء وغير العلماء، حتى وإن كان الموضوع شائكا، وربما مؤلما لبعضنا، لا سيما عندما يكون بحد ذاته جانبيا بالقياس إلى ظروف مأساوية نعيشها ونحتاج فيها جميعا إلى تناول قضايا مصيرية والتلاقي على ما تقتضيه، وأن نرتفع إلى مستوى مسؤوليتنا فيها ، فوجود شعوبنا معرض لأفدح الأخطار من حيث الأساس، وإنسانية الإنسان تحت القهر الهمجي العلني، بينما انتشر بيننا تشنيع جميع ما نصنع ونقول، وانشغال بعضنا ببعضنا خلافا على المهم وغير المهم من الأمور، حتى أصبحنا محضنا من محاضن زيادة مفعول تلك الأخطار.
. . .
المقصود هو الحديث عما قاله مؤخرا العالم الفاضل محمد راتب النابلسي والعالم الفاضل أسامة الرفاعي بشأن الإقامة في “دار الكفر”، وهذا بحد ذاته مصطلح قديم يحتاج إلى اجتهاد متجدد، يراعي معطيات العصر الحاضر بالمقارنة مع العصر الذي اجتهد فيه علماء سابقون وفق ما ساد من معطيات في عصورهم.. وليس هذا هو الموضوع هنا.
إنه أيضا الحديث عما تناقلته أقلام “الفيسبوكيين” من كلامهما وأعطته عنوان “فتاوى” وما هو بفتاوى، بل هو أقوال أقرب إلى آراء عابرة، صدرت جوابا على أسئلة طارئة، ولا تتوافر في نصوصها مواصفات “الفتوى الشرعية”، المعروفة لعلمائنا الكرام، وهي لمن يريد معرفتها مذكورة مثلا في كتاب “صفة الفتوى والمفتي والمستفتي” للحراني، وفي ثنايا كثير من كتب “أصول الفقه” المرجعية كالموافقات للشاطبي والحديثة ككتب الخلاّف وأبي زهرة، رحمهم الله جميعا.
. . .
ليست المسألة إذن مجرد “رفض” ما قال به العالمان الفاضلان أو “القبول به”، فقبل هذا وذاك يجب أن نستوقف أنفسنا عند واقعنا أفرادا، عندما نكتب وننشر في شأن “إسلامي”، مع ما يطالبنا به إسلامنا جميعا، ونعرفه جميعا بغض النظر عن كون أحدنا من العلماء أو العامة، ومن المفتين أو المستفتين، فجميعنا مطالب بفقه الأولويات، لنضع في “واقعنا الخطير” الأهم قبل المهم، وجميعنا مطالب بالقول السديد، والكلام الطيب، والموعظة الحسنة، وتجنب النميمة والغيبة والبهتان والإفك والفحش والبذاءة.
إن وقوع عالم مسلم في خطأ يرتبط بعلمه واجتهاده وإن كان “قدوة”، لا يبيح لأي “فرد” مسلم أن يقع عبر متابعته في خطأ يرتبط بما يعلمه من دينه بالضرورة.
لا ينبغي أن نستهين بذلك فمنه ما نعتبره هينا {وهو عند الله عظيم} ونحن نتلقفه بألسنتنا وأقلامنا ونتداوله نقلا ونسخا ومشاركة بأحدث ما بات متوافرا تحت أيدينا من وسائل، فنحمل المسؤولية مضاعفة، لأنها وسائل تضاعف مفعول نشر خطئنا وما يتسبب به إلى حد كبير.
. . .
ليس المقصود هنا التهوين من شأن ما قاله العالمان الفاضلان وما أثار من ضجة، ولا مما يترتب عليه عند من “قد” يأخذ به، إذ يوجد من يصنع ذلك من الغلاة وقد يحوّله بعضهم إلى “فتوى تكفير”، وإلى “تسويغ استباحة” حقوق ودماء، بينما لا يُستبعد أن يكون القصد عند عالميْنا الكبيرين -مثلا- هو التحذير من أولئك الذين يتاجرون بأوضاع البشر المأساوية في بلاد المسلمين، فيحملونهم على قوارب الموت إلى الموت أو إلى حياة تشريد ومذلة في ديار أجنبية.
إن أحكام التحريم -والإباحةُ هي الأصل- تتطلب الدليل القاطع ورودا ودلالة، وتخضع دوما للمصالح والمفاسد، وللقواعد الأصولية الكبرى، مثل لا ضرر ولا ضرار، والحرج شرعا مرفوع، والضرورات تبيح المحظورات، وغيرها كثير، ثم نعلم بوجود “فتاوى عامة” تسري على الجميع وفي سائر الأحوال، ثم يكون منها استثناءات، وكذلك بوجود “فتاوى خاصة” تخضع مضامينها للاستقصاء عن واقع المستفتي وظروفه وواقع الحالة التي يستفتي فيها ومعطياتها.
هل يسري شيء من ذلك على ما قيل من جانب العالمين الكبيرين أو من جانب من انطلق في “إطلاق” الأحكام عليهما؟
. . .
لئن كانت “الفتوى” من جانب عالم “علامة” منفرد ممكنة نسبيا في الماضي، أي في حدود متطلبات عصره وحدود الحالة التي كان يفتي بشأنها، بعد أن يستعلم عنها بالأساليب المعروفة والمتعارف عليها و”ربما” الكافية والمفيدة آنذاك، فمعظم الفتاوى في أيامنا هذه لا يكفيه “قدح زناد الفكر واعتماد بعض ما اجتمع من العلم” لدى أي فرد، حول أي قضية، بل يحتاج معظم ما بين أيدينا من قضايا، إلى دراسات واسعة، وحتى إلى معاهد دراسات كبيرة مستقلة بمواصفات راقية، وإلى جمع معلومات تفصيلية، تخصصية في الدرجة الأولى، وهذا ما يستحيل أن يحيط به أو يستغني عنه أو يتجاهل ضرورته عالم “فرد” ولا حتى مجموعة علماء محدودة العدد والقدرات.
إن الكلام الذي أثار انزعاج من استخدم أسلوبا سفيها وانزعاج من يتجنب ذلك على كل حال، كلام يصيب بمقتضاه مسلمين تتفاوت أوضاعهم وظروفهم وأسباب إقامتهم خارج حدود “البلدان الإسلامية”، ونعلم أن أعدادهم تربو على عشرات الملايين، وليسوا “نموذجا واحدا” يمكن أن يسري عليه حكم فقهي واحد، فهم أصناف لا حصر لها:
منهم من يعيش إسلامه حيثما كان
ومنهم من لم يكن يعيش إسلامه قبل الاغتراب
ومنهم من ولد ونشأ في تلك البلدان
ومنهم من اعتنق الإسلام من أهل البلاد الأصليين
ومنهم من نشأت أسرته على الإسلام
ومنهم من عاد به بعض أولاده إلى العيش على الإسلام
ومنهم من يُعتبر هو “خطرا” أكبر من خطر المجتمع الغربي على حياة أولاده وفق الإسلام
ومنهم من يعيش للدعوة طوال عمره
ومنهم من يخشى على حياته أو على الأقل على حقوقه الأساسية وعلى “حرية دعوته للإسلام” لو أقام فيما يسمى “دار الإسلام”، وهذا أيضا من المصطلحات التي تتطلب من علمائنا اجتهادا متجددا.
إن الموضوع المطروح من خلال الكلام المشار إليه للعالمين الفاضلين، موضوع أوسع من أن تقال فيه كلمة عابرة، أو اجتهاد فقهي انفرادي، أو رأي من المفروض أن من يعلنه يعلم ما قد يترتب عليه وإن لم يكن إعلانه بمنزلة الفتوى، ويعلم أن كلامه -وإن لم يقصد- يعتبره بعض الناس فتوى.
تكفي إشارات عابرة بهذا الصدد، منها:
١- على افتراض الأخذ بما قيل، يوجد بين ظهرانينا -نحن المقيمين في بلدان غربية- أسر من المسلمين، تحافظ على إسلامها، وتدعو إليه، وقد لا تستطيع ذلك، بل قد لا تستطيع ضمان “حياتها” إذا “هاجرت” من بلدان إقامتها “الغربية” هذه، إلى أحد البلدان التي تقطنها غالبية من المسلمين، إلا في حالات نادرة، وقد تجد بلدا مناسبا ولا تجد إمكانية الإقامة والعمل وتأمين متطلبات الحياة على مستوى كريم كما يفرضها الإسلام بتكريمه لبني آدم.
٢- على افتراض اعتبار “خطر الإغواء” مسوغا للتحريم، فواقع البلدان ذات الغالبية السكانية من المسلمين هو أنها تحفل بالنسبة الأعظم من أسباب الإغواء المستوردة والناشئة محليا، مع فارق واقعي حاسم، يجب أن نذكره للمقارنة وليس من باب “انبهار” بما في الغرب -ففيه مساوئ كبيرة أيضا- أو نذكره على سبيل ما نعرفه من قصة الهجرة إلى الحبشة التي كان فيها “ملك لا يُظلم عنده أحد”:
الفارق المقصود هنا هو أن حالة “الإكراه في الدين” لا تكاد توجد في الغرب، وأن وجود الانحلال ونشره والتشجيع عليه، يقابله قدر لا بأس به من ضوابط ضمان الحقوق والحريات الفردية وسيادة القانون واستقلال القضاء، مما نستطيع الاعتماد عليه -ويعتمد عليه فعلا من يريد ذلك حقا- ليكون الإسلام مرجعيتنا في التربية والسلوك والأخلاق، ومن يشذ عن ذلك يشذ لأمر في تكوينه الشخصي، سيان أين يقيم، لا سيما وأن الأولاد والشباب لا يحتاجون إلى “أوصياء” عليهم، بل يحتاجون إلى أن تكون شخصية الواحد منهم “قوية مستقلة” فيها من المناعة مثل ما أراده حديث ” ياغلام.. إني معلمك كلمات..” ليعيش محصّنا في أي مجتمع كان فيه.
٣- إن ارتفاع نسبة الإقبال على الإسلام وتطبيقه، وارتفاع نسبة التعرف على الإسلام واعتناقه، أمر ثابت منذ عقود عديدة، في العدد الأعظم من بلدان الغرب، ويقابل ذلك ما نشهده منذ عقود من التغوّل على الإسلام عبر التغوّل على من يعمل لانتشار الدعوة إلى الإسلام كما أنزل، وتجريمه من جانب أنظمة تعادي الإسلام كما أنزل وعندما تزعمه لنفسها، فهي لا تقبل إلا ببعض قشوره -وليس حتى بقشوره كلها- ولكنها تركب مطية زعمها محارية “تسييس” الإسلام، لملاحقة من يريده مصدرا لصياغة تشريعات معاصرة، لا يمكن أن تكون دون “ممارسة سياسية”، وهي تشريعات “سياسية” تتعلق بشؤوننا الشخصية تربية وتعليما وطعاما وشرابا، وبعقولنا فكرا وإعلاما وثقافة وأدبا، وبأذواقنا فنونا وإبداعا وقيما وأخلاقا، وبعلاقاتنا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، أي تتعلق بجميع شؤون الحياة العامة والخاصة للأفراد والمجتمعات فليست المسألة مسألة “سلطة وممارستها” هكذا دون مضامين ونتائج.
جميع ما سبق نزر يسير من قضية متشعبة إلى أبعد الحدود، فلا يمكن اختزالها في رأي نعبر عنه خلال عشرة دقائق، مهما بلغ بعضنا من العلم وبعد النظر.
. . .
في الختام ملاحظة ليست غائبة على الأرجح عن المقصودين بها:
إن عامة المسلمين، بل عامة الناس من مسلمين وغير مسلمين، ينتظرون من “العلماء” تخصيصا، ومن كل قادر بحكم تخصصه أو موقعه وطاقاته عموما، أن يكونوا في مقدمة من يساهمون بعطاءات متميزة في ميدان مواجهة فتنة “الظلم” وهي أكبر الفتن وتتضمن “الإكراه في الدين”، والاعتداء على جميع المحرمات الكبرى، من حياة، وكرامة، وحقوق معنوية ومعيشية.
ينتظرون منهم دورا رائدا قياديا على مستوى “عصر الثورات الشعبية والتغيير” لا يغيب وراء “أعذار” لم تعد تمنع “العامة” من التحرك بأرواحهم قبل ألسنتهم، وبدمائهم قبل أقلامهم.
لهذا لم يعد أحد يقبل بأية أعذار عندما تمنع عالما، أو زعيما، أو سياسيا، أو مفكرا، أو إعلاميا، أو أديبا، أو عالما متخصصا، أي من مختلف الأصناف المرشحة لبيان الرؤية الشاملة، والطريق إلى بلوغها، أن يصنعوا ذلك ويبينوا، فهم ومن يفترض أن يكونوا مظنة “السباقين في الخيرات” لسلوك هذا الطريق.
ومن بين هؤلاء جميعا ينتظر “العامة” من “ورثة الأنبياء” أضعافا مضاعفة، كي يحملوا هذا الوصف الجليل عن جدارة.
لهذا تنتشر “خيبات الأمل” عند رؤية من هم في هذا المقام ينشغلون بما لا يحقق هذه التوقعات، ومن شأن خيبة الأمل أن تسبب “تجاوز” الأساليب المقبولة إلى سواها، ومن شأن المغرضين ومن في قلوبهم زيغ أن يستغلوا ذلك أبشع استغلال. ولا نملك إلا إن نسأل رب العزة، أن يجعلنا من الذين يرون الحق كما هو ويتبعونه، ويرون الباطل كما هو ويرفضونه ويحاربونه ويرشدون إلى أفضل الطرق لإزهاقه، وهم يرددون: والعاقبة للمتقين.
نبيل شبيب