رأي – قضية سورية الأشمل من قضية التشريد الكبرى

لن ينتهي التشريد.. إلا بانتصار أنفسنا على تشردنا متشرذمين بين انتماء وانتماء، واتجاه واتجاه، وارتباط خارجي وارتباط

48

منذ اندلعت الثورة الشعبية سلميا في سورية، كان في مقدمة وسائل الاستبداد الهمجي ممارسة التشريد والاعتقال والتعذيب والإرهاب، إجراما محضا من جهة، واستنزافا للطاقات الشعبية السورية داخل الحدود وخارجها من جهة أخرى، وكذلك للتيئيس من جدوى الثورة.. عبر استعراض نكوص "التأييد" الكلامي الخارجي على عقبيه، وظهور الانفصام الخبيث بين تعليلات إنسانية لا تنقطع وبين مآرب سياسية لا تسقط، لا سيما فيما يرتبط بمعادلات الهيمنة والتبعية.

وبعد أعوام مضت على الثورة الشعبية نرصد في مسارها الآن من بين معالم عديدة:

١- صحيح أن تلك الأهداف، الهمجية بمعنى الكلمة، أصبحت واقعا تتفجر منه الآلام دون انقطاع..

٢- ولكن الاستبداد الفاسد اهترأ رغم داعميه والميليشيات المستوردة، وأخفق في الوقوف على قدميه مجددا.

 

في الثلاجة

قبل فترة وجيزة (هذه السطور من مطلع ٢٠١٥م) أعلنت المفوضية العالمية لشؤون اللاجئين أن عدد المشردين من سورية خارج الحدود، المسجلين رسميا، بلغ أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، فأمسى "النظام الأسدي" بهذا الرقم "القياسي" في مؤخرة الحضيض عام ٢٠١٥م، أي على رأس القائمة السنوية السوداء لأعداد المشردين في أنحاء العالم.

وما لبثت عاصفة الصقيع أن كشفت عن الصقيع الأشد في أعماق ‎من يعتبرون أنفسهم "سياسيين":

– في دول عربية، لا سيما الخليجية.. وهي تنفق المليارات على احتفالات رأس السنة الميلادية أو دعم منشآت من قبيل "حديقة الحيوان" في لندن، أي حيث لا يحتاج البشر ولا الحيوان فيها إلى دعم خارجي..

– وفي دول عربية مضيفة لنصف المشردين، لبنان والأردن ومصر.. عبر إجراءات تضاعف التضييق على المشردين، وعلى من لا تزال الهمجية الأسدية تشردهم..

– وفيما يسمى "المجتمع الدولي".. عبر وضع "الملف السوري" سياسيا في الثلاجة، بانتظار حصيلة "السنوات المعلنة" أمريكيا للفراغ -بزعمهم- من "ملف الإرهاب" ومن ملف "صناعة المعتدلين"، وقد نشروا هم الإرهاب بعدوانيتهم أو ضخّموا من شأنه وحقيقة حجمه وألصقوا بعض ممارساته بالثوار، في أكثر من بلد عربي، لا سيما البلدان الثائرة كليبيا واليمن والعراق، بعد الإرهاب الانقلابي في مصر.

 

الاستنزاف

لا أحد يجهل أن احتياجات الملايين من المشردين، تتطلب مالياً "إمكانات دول"، كالغربية التي تزعم وضع "حقوق الإنسان" على رأس ميزات أنظمتها الديمقراطية الحداثية، وتعتبر كل هجوم إرهابي هجوما يستحق الإدانة لأنه "هجوم" على تلك القيم الإنسانية.. وكذلك الدول العربية القادرة على بناء ناطحات سحاب فوق الرمال والمياه الساحلية، وأن تضرب الأرقام القياسية في حرق الأموال في ليلة واحدة من ليالي السنة، أو تستطيع اقتطاع المليارات بجرة قلم عندما ترى "مصلحة" في تمويل استيراد السلاح لنفسها ولسواها كما كان مع تسليح الجيش اللبناني مع اندلاع المواجهات في عرسال، أو ترى "مصلحة" في تمويل انقلاب عسكري وتمويل أفاعيله ضد الإرادة الشعبية في مصر، أو ما يشابه ذلك كما تشهد ليبيا.

في غياب ذلك.. وبسبب تأثيرها الإنساني العميق، وأهميتها البالغة، بدأت قضية التشريد تستنزف منذ العام الأول للثورة طاقات السوريين، وبعض من يدعمهم من العرب والمسلمين خارج القنوات الرسمية"، وهي -مهما بلغت- تبقى طاقات "أفراد وجماعات" يستحيل أن تكون بديلا عن "طاقات تلك الدول" التي توظفها لأغراض أخرى، وتنظر إلى قضية سورية كلها بمنظورها السياسي المعتقل في معادلة الهيمنة والتبعية.

 

استغاثات بلا صدى

انتشر في الأيام الماضية ما انتشر من استغاثات رسمية.. كما كان من جانب "الائتلاف الوطني وحكومته المؤقتة ووحدة الدعم فيه"، وانتشرت أيضا استغاثات فردية وشعبية.. ملأت فضاءات العالم الافتراضي بكل صيغة ووسيلة ممكنة، تواكبها صور صارخة باستغاثات أشد، تصم الآذان لولا أنها تصدر عن أجساد جمدها الجليد وعن وجوه ذوي أصحابها وقد قتلت معالمَ التعبير فيها تلك القدرةُ الهمجية الهائلة على تجاهل إنسانية الإنسان في مواجهة الموت والقتل، وقتلها أيضا لفت ‎أنظار العالم عن "قضية التشريد والصقيع" نفسها للتركيز على عملية في باريس، ومخاوف في لندن، وإجراءات في مدريد، وتعاطف مع ضحايا "حرية التعبير"، وتسابق عدد كبير من منظمات عقلاء المسلمين في الغرب للتنصل من جنون من يعتبرون إرهابهم إسلاما وجهادا، وكذلك التركيز على ما يصدر عن داعش والقاعدة ونتوءاتهما هنا وهناك، إلى جانب إحصاءات غارات "تحالف دولي صديق"، وتحركات "حليف روسي عدو"..

جميع ذلك لا يأتي بكساء ولا دواء ولا ماء ولا طعام.. وما يؤتى به من ذلك عبر منظمات دولية ومحلية وإقليمية يكاد يكون "مدروسا مقصودا" بحيث يبقى رمق الحياة الأخير، فيحفظ وجود آلام المشردين.. لتحويل قضية التشريد من قضية إنسانية صنعها استبداد إجرامي وسياسات إقليمية ودولية، ولا تنتهي إلا بإنهاء هذا وذاك، إلى "ورقة" ضغط على شعب ثائر، ليخضع ويخنع أمام مشهد صقيع الجليد وصقيع "السياسة"..

إن الهمجية السياسية الإقليمية والدولية تقول لشعب سورية مع الهمجية الإجرامية الاستبدادية:

لا خيار سوى الموت البطيء في منافي التشريد في كل مكان وداخل المعتقلات وتحت القصف داخل الوطن، أو الموت البطيء في حياة الاستعباد وتحت الحرمان..

وتضيف الهمجية السياسية الإقليمية والدولية:

لا خلاص إلا عن طريق "بديل معتدل" يمكن أن يواصل دور نظام اهترأ في معادلة الهيمنة والتبعية، وموازنات شرعة الغاب بين القوى الدولية والإقليمية.

فما هو الجواب؟

 

القضية الأم

إن قضية التشريد المعتقلة في ثلاجة السياسات الإقليمية والدولية في الوقت الحاضر، لا يمكن كسر أغلال اعتقالها.. لا يمكن أن تنتهي الآن، ولا غدا، إلا عبر مواصلة العمل لقضية سورية الثورة، وتصعيده وتكثيفه ومضاعفته وترشيده، وجمعه حول الهدف الثوري الجوهري، تحريرا للإرادة الشعبية واستقلالا وطنيا مشتركا جامعا، فمع عدم الغفلة عن العلاقة الوثيقة بين مختلف قضايا بلادنا المصيرية، قضية سورية هذه هي فيما يدور الحديث عنه هنا "القضية الأم"، القضية الأكبر والأشمل، ومنها تتفرع سائر الفروع الأخرى، ومن ذلك جميع أشكال المعاناة، تشريدا واعتقالا وتعذيبا وعدوانا على إنسانية الإنسان.

إن قضية التشريد بالذات توجب أول ما توجب على السوريين جميعا بدون استثناء، عدم التخلي لحظة واحدة عن مواصلة العمل لتحقيق النصر، بتحرير الإرادة الشعبية، وتحرير تراب الوطن، وتحرير عقول من ينسب نفسه إلى سورية أيا كان موقعه أو كانت قدراته، من كل ارتباط أجنبي تبعي، أو تعصب انتمائي، أو انحراف فكري وسلوكي.

 

جميعنا مشردون

١- لئن كان الجانب الإنساني في قضية سورية لا يؤدي إلى تبدل في الممارسات الإقليمية والدولية ضد إرادة الشعوب وتحريرها.. فلا ينبغي أن يبقى دون تأثير على واقع الثورة نفسها، وعلى وجه التحديد على واقع الفصائل المسلحة، لتخرج بنفسها من بقايا انحرافات وانقسامات ومواجهات وتركز جهودها الأعظم على إسقاط بقايا النظام، وعلى صناعة البديل المعبر عن إرادة الشعب الثائر.. والمنضبط بإرادة الشعب الثائر.. وهو وحده ما يمكن أن يحبط الجهود الخارجية لإيجاد "بديل معتدل" مزعوم على حساب الثورة وشعبها مع استغلال التشتت الثوري الحالي، بل العمل على تأجيجه وتأبيده.. لإبادة الثورة نفسها.   

٢- لئن كان الجانب الإنساني في قضية سورية لا يؤدي إلى تبدل في السياسات الإقليمية والدولية المتناقضة مع إرادة الشعوب وتحريرها.. فلا ينبغي أن يبقى دون تأثير على واقع السياسيين الذين يتصدون للتعبير عن الثورة دوليا، لا سيما الائتلاف الوطني. فلا تعفيه سائر المناورات الإقليمية والدولية من أن يتخذ من مناسبة تجديد قيادته نقطة انطلاق لتجديد وضعه تجديدا شاملا، وتوثيق ارتباطه بالثورة على أرض الوطن من منطلق تحرير الإرادة الشعبية توثيقا فعليا مشهودا وواقعيا، بغض النظر عن جميع التوجهات الذاتية المتعددة في صفوفه، والارتباطات الخارجية التي يجب أن يكون الائتلاف -عبراحتضانه لجميع من لم يحتضنهم بعد من القوى الشعبية الثائرة- وسيلة للضغط على القوى الخارجية، بدلا من أن يتلقى الضغوط لإعادة صناعة "شعب" يستحيل أن تعيد الضغوط الخارجية تشكيله، بعد أن استحال إخضاعه واستحال وأد ثورته، عبر مسلسلات التشريد والاعتقال والتعذيب والتواطؤ الخارجي على حسابه، مباشرة، أو بدعوى "صداقته".

٣- لئن كانت الاستغاثات الإنسانية لا تخرج عقول صناع السياسات الإقليمية والدولية من ثلاجة المنافع والمآرب الذاتية القاتلة، فلا ينبغي أن تبقى دون صدى في عقولنا على المستوى الشعبي، على مستوى كافة أهل سورية في الداخل تلاحما، وخارج الحدود تلاحما ودعما، فمن المستحيل بعد ما وصل إليه مسار الثورة حتى الآن، أن ينجو فريق بمفرده، أو ينتصر فريق بمفرده، أو أن يصنع المستقبل المرجو فريق بمفرده.. فيا أيها السوريون.. أغيثوا أنفسكم.. يا أيها السوريون جميعكم مشردون عن أرض الوطن، ولن يقبل الوطن بنا.. إلا قطعة واحدة، كالجسد الواحد، ولن ينتهي تشريدنا جميعا.. إلا بانتصار أنفسنا على تشردنا متشرذمين بين انتماء وانتماء، واتجاه واتجاه، وارتباط خارجي وارتباط، على حساب الوطن، وعلى حساب أنفسنا وأهلينا وأجيال قادمة من بعدنا ستذكر أننا انتصرنا فانتصر من يأتي بعدنا.. أو انكسرنا وآنذاك سينتصر بإذن الله من يأتي بعدنا.

نبيل شبيب