ذاكرة شخصية – مخابرات (٤) أين أجهزة التسجيل

المخبرون.. سيماهم في وجوههم، وتظهر حقيقتهم في فلتات ألسنتهم، وهم غافلون..

57

كان التعامل علنيا مع أحد المخبرين الليبيين المترددين على مصلانا الصغير في بون في مطلع الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، ولكن لم يكن ذلك كافيا ليرتدع سواه من تلقاء نفسه.

وبقيت أراهم أثناء خطبة الجمعة جالسين متجاورين، ويبدو أنهم يعرفون بعضهم بعضا رغم أنهم من عدة بلدان، وكانوا يأخذون مواقعهم في مؤخرة الصفوف ويراقبون من يدخل ومن يخرج، ثم يعملون على استخلاص المزيد من المعلومات بعد الصلاة، عندما يتلاقى المصلون لفترة وجيزة في أحاديث جانبية ودردشات.

المخبرون.. سيماهم في وجوههم، وتظهر حقيقتهم في فلتات ألسنتهم، وهم غافلون.. إذ يحسبون أنفسهم "متنكرين" بحرصهم على مظهرهم الخارجي، كاللباس المناسب الذي لا يلفت الأنظار إليهم في المكان الذي يمارسون تجسسهم فيه.

. . .

في خطبة تالية، ذكرت من البداية – وعيني عليهم – أنني سأتحدث اليوم عن المخابرات.. وكان هذا كافيا لتشرئب أعناقهم وتجحظ أبصارهم.

بدأت بقصة الهدهد مع سليمان عليه السلام، فقد كان في مقام المخبر عن وضع بلد قريب..

وانتقلت إلى عمل بعض من كان يبعث بهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتفرقة الأحزاب في غزوة الخندق أو لاستكشاف الطريق قبل فتح مكة..

وتحدثت عن الفارق بين التجسس والتحسس الذي مارسه الفاروق رضي الله عنه ليطمئن على احتياجات رعيته ويلبيها..

وانتقلت إلى العصر الحاضر وكيف تعمل المخابرات، بما فيها ذات الممارسات القذرة، كالموساد والمخابرات المركزية الأمريكية، فترتكب ما ترتكب مع الاعتقاد أو الوهم أنه في مصلحة "شعب بلادها"، ولا تأبه بما تلحق من ضرر بشعوب وأوطان أخرى.. 

أما المخابرات في بلادنا حديثا، فقد أنشئت لتكون قطعة عضوية من الطغيان وممارساته لقهر الشعوب في الداخل والتعاون مع مخابرات أجنبية في الخارج.

ووصلت إلى حيث أردت: 

هذه المخابرات التابعة لأنظمة الطغاة لا تكتفي بأفاعيلها الإجرامية داخل الحدود، فهي ترسل عناصرها إلى مكان كهذا المصلى الصغير، لتتجسس على أبناء الوطن في مغترباتهم، وتصل بعدوانيتها إليهم حيث هم، وكأن السفارات التي ترسل بهم لا تعرف شيئا عن أن مهمتها الأصلية هي خدمة المغتربين وليس ترويعهم وإلحاق الضرر بهم!

ثم توجهت نحو الجالسين في مؤخرة الصفوف بالكلام المباشر:

هنا يجلس مخبرون من سورية وليبيا والمغرب، أعرفهم فردا فردا، وبلغني أنهم ينقلون ما يقال مغلوطا أو ناقصا، وأطالبهم ألا يأتوا في جمعة قادمة إلا ومعهم آلات تسجيل يضعونها أمامهم، لينقلوا ما يريدون نقله بشكل صحيح، وإلا فسوف أفضحهم على الملأ!

بعد ذلك اليوم لم أر أحدا منهم في مصلانا الصغير في بون.

. . .

ما أجبن المخبرين، صغارهم وكبارهم، لا يرتكبون موبقاتهم إلا سرا، ولا يمارسون جرائمهم إلا وراء قضبان المعتقلات، ويغفلون عن عين الله ترقبهم وتعلم سرهم وعلانيتهم.

لا يتناقض مع هذه القاعدة ما نشهده هذه الأيام في سورية تخصيصا من الأفاعيل الإجرامية لمخابرات الطغيان في الشوارع والساحات على رؤوس الأشهاد، وقد كسر القواعد التقليدية وتجاوز كافة الحدود، لإدراك الطغاة في النظام أن أمرهم انتهى منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة الشعبية، ولهذا انتقلت ممارسات أجهزة الطغيان الإجرامية جميعا بما فيها أجهزة المخابرات إلى العلن، إلى جانب ما تصنعه في جنح الظلام في أقبية المعتقلات.

نبيل شبيب