خاطرة – اللغة العربية وغيبوبة المسؤولين

اللغة العربية قضية الجميع، قضية وجود الأمّة والحفاظ على وعيها المعرفي الواصل بين تاريخ مضيء ومستقبل منشود

61

 

لا يمكن تعويض القصور الكبير في طريق نهوض المنطقة العربية، المستحيل دون اللغة العربية، إلا عن طريق عمل منظم ومتواصل يتطور باستمرار، ويشمل كافة مناحي الحياة في المجتمع، وهذا ما يضع الأنظمة وجها لوجه أمام مسؤوليتاها، ولا يتحقق ذلك قطعا عن طريق أنشطة موسمية في يوم احتفالي سنوي أو حتى في عام كامل يخصص لأنشطة موسمية، وهذا ما يؤكد عليه عندما أعلن عام ٢٠٠٦م عام اللغة العربية، والشاهد على ذلك ما كان في مصر والأردن، آنذاك ثم في عام ٢٠٠٧م، وهو ما يدور الحديث عنه في هذا المقال من يوم ١٢/ ١٢/ ٢٠٠٧م، كمثال، علما بأن القصور ازداد خلال السنوات العشرة الماضية بدلا من تزداد الأعمال الهادفة لوقف التدهور المستمر منذ عقود.

. . .

مع نهاية عام ٢٠٠٧م ينقضي ما سمّي في الأردن عام اللغة العربية، كما ينقضي في مصر أيضا ما سمّي عام اللغة العربية، وكان الهدف هنا وهناك هو مواجهة الحملة التي تواجهها اللغة العربية، والسعي لدعمها ودعم انتشارها على النحو الأمثل. وعند اتخاذ القرار حول ذلك أعلن د. عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني أنّ اللغة العربية “باتت في خطر من ناحيتين، الأولى دفع اللغات الأجنبية لها عن مواقع سيادتها في التعليم الجامعي والبحث العلمي والمؤسسات التجارية والاقتصادية، والثانية توجيه الاهتمام إلى اللهجات العامية وإحلالها في وسائل الإعلام لا سيما الإذاعة والتلفاز محل اللغة العربية الفصحى”.

وفي مصر أعلن محمد عبد المنعم الصاوي، مؤسس “ساقية الصاوي” للدفاع عن اللغة العربية، أنّ عام ٢٠٠٦م الذي سبق إعلانه “عام اللغة العربية” لم يحقق في مصر النتائج المطلوبة، فتقرّر إعلان عام ٢٠٠٧م عاما للغة العربية أيضا.

وقد شهد البلدان فعاليات عديدة خلال ذلك العام لخدمة الهدف المعلن فيه، ورغم ذلك نلاحظ عددا من الأمور:

١- مؤسسات الدولة الرسمية، المسؤولة هي عن “اللغة الوطنية” فيها والمسؤولة مع أمثالها في الأقطار العربية الأخرى عن “اللغة القومية” لأكثر من ٣٠٠ مليون إنسان يسكنون فيها (وارتفع هذا العدد في هذه الأثناء)، ناهيك عن المسؤولية عن “لغة القرآن الكريم” لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم.. المؤسسات الرسمية لم تكن تتجاوب مع الفعاليات المعنية، ولا تتحرّك من جانبها لأداء واجبها. ففي الأردن أشار د. خليفة إلى وجود “قانون اللغة العربية الصادر عام ١٩٩١م، ولكنه بقي في أدراج الحكومة بعيدا عن الاهتمام. وفي مصر قال الصاوي إن طريقة تعامل الدولة مع هذا الموضوع “لم تكن ضعيفة وإنما غائبة كليا”.

٢- غالبية وسائل الإعلام أصبحت أدوات هدم للغة العربية الفصحى، وأحيانا لوجود اللغة العربية من حيث الأساس، فهي على سبيل المثال -لا سيما قنوات الترفيه والأغاني- تشيع كلمات أجنبية لتصبح جزءا من الخطاب اللغوي للشبيبة، على حدّ تعبير د. سامي سليمان، الأستاذ المساعد في النقد العربي في جامعة القاهرة.  

٣- المجامع اللغوية العربية التي تقوم بجهود كبيرة لتواكب اللغة العربية متطلبات العصر، لا سيما من حيث طرح التسميات السليمة لغويا، المبسطة تيسيرا لاستخدامها، لا تجد تجاوب السلطات بتحرّك فعال لنشرها واعتمادها رسميا، ولا تملك هي أدوات مناسبة للقيام بذلك.

٤- كثير من دور الفكر والأدب والنشر والفنون المستقلة عن الدولة، باتت -كوزارات الثقافة في كثير من الأقطار- تدعم نشر العامية بدلا من الفصحى، وتروّج لها على أنّها “أدب شعبي” فتساهم في ترسيخ التجزئة العربية من جهة، وفي هدم ركن الفصحى من جهة أخرى.

٥- الجامعات والمعاهد العليا، الخاضعة أيضا للسياسات الرسمية، أصبحت موئلا لنشر اللغة الأجنبية بدلا من العربية، وجعلها هي لغة العلم والتعليم، وهو ما بدأ يمتدّ إلى قطاعات التدريس في المراحل الأولى أيضا، حتى على مستوى الأطفال، كما هو الحال في بعض البلدان العربية.

 

عند التأمّل في هذه الملاحظات يظهر المحور الرئيسي والأهم من وراء إخفاق الفعاليات والجهود المخلصة من وراء مساعي الدفاع عن اللغة العربية، الكامنة من وراء خطوة من قبيل تخصيص عام للغة.

لقد تحولت الدولة بمؤسساتها، وسلطاتها، وأجهزتها، وبرامجها، إلى مصدر من مصادر تقويض أركان اللغة العربية واعتمادها في مختلف الميادين التي تحمل هي المسؤولية عن السياسات الموضوعة لها، والجاري تنفيذها، بدءا بقطاعات العلم والإعلام، انتهاء بميادين الترفيه والفنون.

 

ما سبق يعني على الأقل:

من أراد أن يخدم اللغة العربية، وبالتالي أن يخدم أساسا حاسما يقوم عليه وجود الأمة، وتقدّمها في الميادين العلمية والتقنية والفكرية والأدبية والفنية جميعا، لا بد أن تقوم أهدافه النظرية وفعالياته التطبيقية على محورين متوازيين متكاملين:

٢- القيام بحملات فكرية وشعبية يتداعى لها المخلصون لممارسة الضغوط المتواصلة على المسؤولين السياسيين لتحمل تبعات مسؤولياتهم على هذا الصعيد.

2- تركيز القدر الأكبر من الفعاليات على الميادين الشعبية، لا سيما جيل الأطفال والناشئة، بدءا بالمسابقات والجوائز التشجيعية، مرورا بالفعاليات التي تعتمد أسلوب المشاركة الجماهيرية، انتهاء بتولّي قسط من المسؤوليات التي تقصّر الحكومات في أدائها، على مستويات التعليم والتثقيف، ومكافحة نشر العامية عبر وسائل الإعلام وسواها، ورفض اعتماد اللغات الأجنبية بديلا عن العربية في القطاعات العلمية وغيرها.

 

إنّ قضية اللغة العربية هي قضية الجميع، وهي جزء من قضية التقدم والرقي، وقضية وجود الأمّة والحفاظ على ثقافتها الأصيلة، والوعي المعرفي الواصل بين تاريخ مضيء، ومستقبل لا يمكن العثور على نور يضيئه في حالة التخلّي عن مصباح اللغة على الطريق إليه.

نبيل شبيب