ثنائية أنقرة طهران

لعبة المحاور وإنقاذ ما يمكن إنقاذه

تحليل – لا يجدي التنديد بسياسات الآخرين عند الافتقار إلى سياسة ذاتية فاعلة تخدم القضية

88
إردوجان وروحاني

تحليل

واضح للعيان أنه قد جدّ تطور جديد في مسارات التقارب التركي-الإيراني، حتى بلغ مستوى مصلحيا نوعيا على خلفية تداعيات الاستفتاء في مسار قضية الأكراد، وهي إحدى قضايانا المشتركة أيضا، وربما على خلفية السياسة الروسية تجاه تركيا وإيران أيضا.

الجديد في المسار التركي-الإيراني هو التطور النوعي في الاستخدام المشترك للأدوات والوسائل، وهذا ما يتبدل باستمرار بين مرحلة وأخرى من مراحل التطورات والأحداث الإقليمية والدولية.

لا يتطلب هذا التطور أسلوب الدفاع أو التنديد تجاه السياسة التركية من منظور الثورة في سورية وما آلت إليه، وليس الدفاع ولا التنديد شكلا من أشكال ممارسة السياسة، بل هو إعلام محض أو رد فعل دون تأثير، إنما المطلوب هو استيعاب ما يجري على المسرح السياسي حولنا من جهة، واستيعاب المصالح والأهداف والإمكانات الذاتية من جهة أخرى، ليمكن تحديد موقف وقرار.

إن جوهر الأهداف البعيدة المدى، التركية والإيرانية، لم يتبدل، سواء على صعيد مشروع الهيمنة الإقليمي الإيراني ودمويته، أو على صعيد الانتقال بتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية من دولة متخلفة تابعة للتحالف الغربي، طوال عقود عديدة مضت على استبداد عسكري علماني، إلى دولة ناهضة تبحث عن استقلالها دوليا وإقليميا في ظل تحرك تدريجي يحفظ لها مصالحها الذاتية من استهداف خطير يتصاعد حجما ونوعية بقدر ما تصطدم تلك المصالح مع مشاريع الهيمنة الدولية والإقليمية، وكذلك بقدر ما يكون من تأثير لأحداث تقع ولا تملك الدولة التركية أهم مفاتيحها، كما هو الحال في التعامل الدولي والإقليمي مع ثورة شعب سورية، أو ثورة شعب مصر، أو مع قضية الأكراد، وهي -أي تركيا- تتعرض لأضرار ذلك التعامل من جانب الآخرين، فتسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال لعبة المحاور تقاربا وتباعدا، وستستمر على ذلك في المستقبل المنظور على الأرجح.

هذا ما كان حتى الآن في التعامل التركي مع موسكو وتحركاتها الإجرامية في سورية المجاورة تخصيصا، مقابل ازدياد استهداف تركيا من جانب الحلفاء الغربيين، مباشرة وعبر التعاطي الأمريكي مع قضايا سورية والعراق والأكراد، ولا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن الدول العربية التي كانت تؤكد دعم الثورة الشعبية في سورية، ولا سيما السعودية، كانت أول من مدت تركيا إليها يد الاستعداد للتحالف والتعاون الإقليمي، وأخفقت هذه المحاولة بعد فترة وجيزة، فكانت الحصيلة أقرب إلى المشاركة في استهداف تركيا نفسها.

لم تتغير المنطلقات والأهداف البعيدة في السياسات الإيرانية، ولم تتغير في السياسات التركية، وما يجري الآن يكرر واقعيا ما كان قبل اندلاع الثورات الشعبية العربية، أي في التعامل التركي مع أزمة الملف النووي الإيراني تعاملا مختلفا عن تعامل الحلفاء الغربيين، وهذا ما عزز توثيق العلاقات التجارية والاقتصادية بما يخدم مصالح الجانبين في نطاق تقاطعها، والآن أيضا تتعامل السياسات التركية مع إيران، وبالتالي مع العراق، تعاملا مختلفا عن تعامل الحلفاء الغربيين مع تطور قضية الأكراد، التي فوجئت قوى إقليمية عديدة من إشعال أوارها مجددا عبر الاستفتاء الأخير في إقليم كردستان العراق.

لا شك أن المنظور الثوري في سورية يفرض انطلاقا من مصلحة مسار الثورة وشعب سورية رفض أن يكون التقارب الجديد أو التحالف الناشئ بين تركيا وإيران على حساب سورية وشعبها وثورته، ولكن ليكون للرفض المحض تأثير عملي نحتاج إلى استيعاب ما يجري، انطلاقا من أن لكل طرف مصالحه وأهدافه، وهذا شأن تركيا من بين الأطراف الإقليمية والدولية، الكبيرة والصغيرة، المؤثرة بذاتها والتابعة لغيرها، ومن بين تلك الأطراف أيضا البقية الباقية ممّا كان يسمّى نظاما أسديا في سورية.

هذا الإطار السياسي الحالي الواقعي هو ما يواجه كل طرف يشغل في الساحة السورية، الثورية تخصيصا، مساحة أو موقعا سياسيا أو ميدانيا أو منبرا فكريا أو وسيلة إعلامية أو حتى مجرد موقع المتابع الذي لا يملك التأثير على الأحداث إلا بكلمات في عالم افتراضي، وهنا ينبغي القول:

كل طرف باسم سورية ومستقبلها وثورتها ومصالحها يتساءل عما تفعله الأطراف الإقليمية والدولية، ومن بينها تركيا وإيران، تقاربا وتباعدا، توافقا واختلافا، تحالفا وعداء، يحمل مسؤولية التساؤل الذاتي أيضا:

ما هو موقعنا من مصالح القضية وطنا وشعبا، ما هي الأهداف البعيدة والقريبة، ما هي السياسات المتبعة لتحقيقها، ما هي الإمكانات التي نصنعها بأنفسنا للتأثير على سوانا باستخدامها، وما هي الخطوط الحمراء عند استهداف قضيتنا عبر استهدافنا؟

من دون الإجابة الوافية على ذلك لا يمكن التعامل الجادّ مع قرار “خارج نطاقنا” يصنع المواقف والأحداث داخل نطاق قضيتنا.

من أراد التأثير على السياسة التركية أو الإيرانية أو الروسية أو الغربية، وجب أن يمتلك هو القدرة على التأثير، رؤية وإمكانات، فإن لم يمتلك ذلك وجب أن يعمل لاستدراك قصوره، أو فليقبع مكانه بانتظار أن يصنع سواه ما يصنع دون أن يعبأ به.

ضعفاء؟

ليس الضعف عذرا في عالم السياسة، بل إن سلامة الموقف والطرح السياسي المشترك دون مزايدات ودون تدافع المسؤولية، وكذلك التنسيق وتوحيد الصفوف والمواقف، هي العناصر التي تساهم في تحويل الضعف إلى قوة مؤثرة، ومن دون ذلك لا يكون للضعفاء مجال للمشاركة في صناعة القرارات وتنفيذها، أما الامتناع عن ذلك كله، والاكتفاء بتأييد أطراف أخرى أو التنديد بها، فهذا ما يزيد الضعف ضعفا والعجز عجزا.

إن السياسيين في الأطراف الأخرى، كتركيا وسواها، مسؤولون عن تحقيق مصالح دولهم وشعوبهم كما يرونها، وعلاقاتهم الخارجية مربوطة بتقاطع المصالح فيما بينهم على الساحة الإقليمية والدولية.

هذا واقع، أما أن نرث أسلوب أنظمة استبدادية تريد الشعوب إسقاطها في بلادنا، فنشجب ونستنكر أو نؤيد ونهلل، وفي الحالتين نخضع ونتلاءم مع واقع يُصنع لنا ونحن حاضرون غائبون، فهذا ما ترفضه إرادة شعوب صنعت الثورات وقدمت التضحيات ليتحرر قرارها، وهي التي تقول لنا بحق:

إن أصحاب الشأن بحكم تنظيمات أنشئت وتحركت باسم الثورة..

وإن أصحاب الشأن من ذوي العلاقات المباشرة مع تركيا وسواها باسم الثورة. .

وإن أصحاب الرؤية والقدرة على صياغة أهداف الثورة التغييرية وطرق العمل لها..

هم المسؤولون أولا عن الخروج من نفق المتفرجين على ما راكمه الضعف الذاتي من عجز ذاتي، إلى آفاق عمل مؤثر يفتحونها بأنفسهم، ولن يفتحها لهم سواهم، كائنا من كان، ومسؤولون عن الخروج من روتينية ممارسة السياسة بمواقف إعلامية لا تغير ولا تبدل شيئا، إلى ممارسة السياسة الحرفية المعاصرة بصيغة فاعلة. أما إن اعتبروا الأبواب مسدودة إلا باب التبعية للآخرين، فهذا يجعل وجودهم في مواقعهم عبئا على القضية التي يتحدثون ويتحركون باسمها.

ليس الشعب الضحية ذريعة للاستمرار على ما نحن عليه مع استمرارية أسطوانة الضعف والعجز إلى ما لا نهاية، فالاستمرار في هذه الحالة هو في أقل درجاته مشاركة غير مباشرة في المسؤولية عن استمرار ما يعانيه الشعب الضحية وتفاقمه، كما أنه يحول من يتصدرون المجالس باسم شعبنا إلى عقبة في وجه ظهور قوى بديلة قد تكون أقدر على حمل أعباء تمثيل الثورة ومصالحها ومصالح الشعب الضحية، كي يكون لها وزن وتأثير، إقليميا ودوليا، في موازين تركيا وسواها.

لا يجدي التنديد بسياسات الآخرين عند الافتقار إلى سياسة ذاتية فاعلة تخدم القضية.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب