تسييس ثقافة السلام عبر جوائز نوبل

ندما ينال المقاتل جائزة سلام على كلامه، أوباما نموذجا

تحليل – جائزة نوبل تعرضت للتسييس والتغريب، وهذا ما يلحق الضرر بمكانتها وبقضايا السلام العالمي

92
باراك أوباما جائزة نوبل

تحليل

كلما حان موعد تسليم جوائز نوبل السنوية مع موعد اليوم العالمي لحقوق الإنسان يتكرر انتشار الإحساس بالتناقض الكبير بين الاحتفالات وواقع الإنسان في كل مكان، والأمثلة على ذلك كثيرة من الأعوام الماضية ولعل أقربها للعيان تخصيص جائزة سلام نوبل لأوباما عام ٢٠٠٩م، ليس من أجل سلام صنعه، بل من أجل سلام يُحتمل أن يصنعه، ويخالف هذا التعليل لمنح جائزة نوبل للسلام وصية ألفريد نوبل، الذي أرادها أن تكون مكافأة على إنجازات تحققت، وليس أداة تشجيعية لتحقيق إنجاز محتمل.

انحراف بعد انحراف

ليست هذه المخالفة الأولى ولا الوحيدة منذ بدأ الانحراف في منح جوائز نوبل وتفاقم أثناء الحرب الباردة، ومن أسوأ وجوهه:

مفهوم السلام المقصود عند اللجنة النرويجية يتطابق مع التصورات الغربية والمصالح الغربية، سيان كم تناقض مع سقوط الضحايا من البشر غير الغربيين، بينما يؤكد نوبل في وصيته أيضا على توظيف الجائزة في خدمة ترسيخ النظرة الإنسانية الشمولية، ورفض مختلف أشكال التمييز بين البشر.

مع الانحراف في الفهم والتطبيق أصبح مسلسل ارتكاب الأخطاء الجسيمة أطول بكثير من مسلسل اتخاذ القرارات الصائبة. ولعل أشهر القرارات الخاطئة كان عام ١٩٧٣م، عندما منحت جائزة نوبل للسلام لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسينجر، وعُلل ذلك بما صنعه لعقد معاهدة سلام أنهت الحرب في فييتنام؛ فالواقع هو أن الحرب انتهت غصبا عن الحكومة الأمريكية وعلى غير ما أحبت ورغم كل ما صنعت، وأن الدور الأمريكي عبر كيسينجر وسواه من المسؤولين آنذاك، اقتصر واقعيا على كيفية تأمين انسحاب القوات الأمريكية بعد الهزيمة، بأقل خسارة إضافية ممكنة.

لقد غلب العامل السياسي في اتخاذ القرار على ما سواه، وحصل كيسينجر على مكافأة وفق معيار غربي فيه خلل كبير، ولا غرابة إذن أن هذه المكافأة لم تحفزه لالتزام سياسات السلام على المستوى العالمي فعلا، فلم يمتنع بعد عام واحد مثلا عن الإسهام المباشر في تقويض حكم ديمقراطي في تشيلي بزعامة آليندي المنتخب آنذاك، لأنه يعارض السياسات الأمريكية، ثم في دعم حكم استبدادي عسكري دموي، لأنه يؤيد السياسات الأمريكية!

ذهول أوباما!

قليل من الساسة المحترفين الذين حصلوا على جائزة نوبل أثناء مزاولة عملهم وكانوا يستحقونها فعلا، وأقل من ذلك من تأثروا إيجابيا بالحصول عليها، فحققوا لاحقا إنجازا يخدم السلام، حتى بمفهومه الغربي المصلحي الضيق. ومن العسير القول إن هذا لن ينطبق على باراك أوباما (هذا ما تبين لاحقا خلال ممارسته سلطته) بل إن منحه جائزة نوبل لعام ٢٠٠٩م يأتي:

١- على أساس ما قال في بداية عهده حول عزمه خدمة السلام، ومنذا الذي لا يقول ذلك مع بداية عهده؛ فهل أصبح كلام السياسيين إنجازا؟

٢- وعلى أساس أنه أشاع أجواء إيجابية للديبلوماسية الدولية في التعامل مع الآخرين، أي أعلن عن نهج مناقض للأسلوب العدواني المتعجرف المنحرف من جانب سلفه في منصبه، والسؤال: أليس الأصل في المعاملات الدولية هو الأسلوب الديبلوماسي والأجواء الإيجابية؛ فهل أصبح التزام الوضع الطبيعي يستحق جائزة استثنائية؟

٣- ولم يأخذ منح الجائزة بعين الاعتبار ما لم يصنعه أوباما، من بين ما قال إنه سيصنعه، كما في احتلال العراق المستمر وفق ما بقي من خطة سلفه وإنجازاته.

٤- كما لم يأخذ بعين الاعتبار ما صنعه أوباما نفسه، ولم يخدم به السلام قطعا، بأي مقياس، بل تابع الحرب وزاد أوارها، كما في أفغانستان!

لا غرابة إذن أن يصاب أوباما نفسه بالذهول من قرار اللجنة النرويجية، فيحار في صياغة الكلمات المناسبة للتعليق عليه، من مثل أنه لا يستحق الجائزة، أو أنها جائزة تقدير للسياسات الأمريكية، وأصدق من ذلك قول مسؤولين من الكونجرس الأمريكي، إنهم يأملون ألا تؤثر عليه الجائزة سلبا، بمعنى الامتناع مثلا عن الإسراع في قرار إرسال مزيد من القوات والعتاد إلى أفغانستان!

لا غرابة أيضا أن يجد قرار اللجنة ٢٠٠٩م التأييد على ألسنة المؤيدين للسياسات الأمريكية والمنتفعين منها أو المتعاونين معها، كما هو الحال مع معظم الدول الغربية الأخرى، ومع بعض الرؤساء الذين يرتبط بقاؤهم بالإرادة السياسية الأمريكية، مقابل التنديد والانزعاج والنقد على ألسنة من يرصدون من خارج نطاق السلطات، الضحايا البشرية وغير البشرية للحرب التي يشغل أوباما فيها منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وصور الضحايا وواقع البلدان المتضررة من الحرب هي الأكثر دلالة على ما تعنيه كلمة الحرب من المآسي، وليس كلمة السلام، الذي لا يصنعه “الكلام” ولا تصنعه الجوائز!

هل يوجد أظهر من ذلك التأييد هنا والنقد هناك دليلا على ما وصلت إليه مسيرة تسييس جائزة نوبل؟

عندما يصبح الانحراف نهجا

فيما سبق كفاية، رغم أن أبرز الأمثلة الصارخة على ما يصنع الانحراف في منح الجائزة، هو ما تشهد عليه الدماء والأحجار في أرض فلسطين، فقد عايشنا بمنظور قضية فلسطين تحديدا، ما يعنيه تسييس الجائزة (أو معظم القرارات السنوية لمنحها) عبر محاولة الترويج بها لمسيرة كامب ديفيد أولا، ثم مع متابعة تسييسها ومزيد من الإساءة إليها عبر الترويج لمسيرة أوسلو ثانيا، وهنا يتزامن الإعلان المسيّس عن منحها لأوباما عام ٢٠٠٩م، متزامنا مع ما تشهده القضية على درب نتائج صنعتها مسيرة ما قبل كامب ديفيد إلى ما بعد أوسلو، رغم جوائز نوبل لسلام صناع المآسي ومتزامنةً أيضا مع اقتراب انتهاء العام الأول من رئاسة أوباما دون أن يحرّك حجرا واحدا من أحجار مستوطنات الاغتصاب والتهويد!

علاوة على ذلك، عجزت اللجنة النرويجية رغم التجارب الطويلة الماضية عن الخروج من قفص المفاهيم والتصورات الغربية إلى أبعاد عالمية شاملة، كما أراد ألفريد نوبل الذي تتحدث باسمه، وكما عبر عن ذلك في وصيته، ليس فيما يتعلق بالسلام فقط، بل فيما يتعلق بالميادين الأخرى التي تمنح جائزة نوبل على صعيدها، لا سيما في ميدان المنجزات الأدبية.

جائزة نوبل لم تتعرض للتسييس فقط، بل للتغريب أيضا، وهذا ما يلحق ضررا كبيرا بقضايا السلام العالمي، كما يلحق الضرر بالمكانة العالمية للجائزة نفسها، بل يجعل قرار منحها على هذه الشاكلة لا يختلف كثيرا عن قرار إرسال مزيد من الجنود لساحة الحرب ليؤيده الطرفُ المعتدي في تلك الحرب ومناصروه وأتباعهم، وليرفضه الطرف المعتدى عليه ومناصروه والمنصفون لحقه!

باسم نوبل في قبره

ربما لا تكون الصورة صارخة على هذا النحو عند منح جائزة نوبل للسلام تشجيعا لأفراد أو منظمات تعمل في مواقع المعارضة، فالمعارضون أحوج إلى الدعم التشجيعي بجائزة وسواها عادة، بل هم في مواقع يمثل وجودهم فيها وتشبثهم بها – رغم الأذى – إنجازا ما، يمكن أن يسوغ منح الجوائز لهم، كما أنهم أقرب إلى الظن بأن الدعم (قد) يصل بهم إلى تحقيق إنجاز آخر يسوغ أيضا حصولهم على جائزة تشجيعية مسبقة. ولكن تتزعزع الثقة بهذه الجائزة العالمية وبلجنة منحها حتى في هذا الإطار، فقد استشرى الخلل في عملية الاختيار هنا أيضا، نتيجة التركيز المتكرر على جهات معارضة ذات منظور سياسي غربي.

هذا.. بغض النظر عن سمعة وطنية جيدة لمعارضين وفق ظن عامة شعوبهم بهم وبأن معارضتهم تقوم على الاستقلالية والنقاء، فهؤلاء بالذات يعانون وطنيا ويخشون على سمعتهم بقدر ما يتخذ وقوف الغرب من ورائهم صورة استعراضية، إذ لا ينقطع تأكيد الساسة وغيرهم من الغربيين، أنهم ينطلقون من المصالح والمصالح فقط في سياساتهم، بما في ذلك سياسة تأييد من يؤيدون!

ويزيد من زعزعة الثقة بجائزة نوبل للسلام أنه لا يكاد يوجد مثال واحد يستحق الذكر على منحها من أجل دعم جهة وطنية معارضة لحكم استبدادي محلي يمارس سياسة الارتباط بالغرب، وهنا بيت القصيد لو كان لكلمات عالمية، وسلام عالمي معنى حقيقي، وما أكثر هذه الحالات في عالمنا المعاصر نتيجة ما يعانيه من هيمنة غربية قائمة على تغليب موازين القوة على قيم الحق والعدالة والشرعية!

(ولئن استثنينا لاحقا منح جائزة نوبل لتوكل كرمان أثناء الثورة الشعبية، فقد بدا على أرض الواقع أنها كانت أشبه بالتغطية على إسهام الغرب في التحرك المضاد للثورة)

لم تقدم جائزة نوبل شيئا للسلام ولم تؤخر من خلال حصول أوباما عليها عام ٢٠٠٩م، فلم تحمل قراراته شيئا يخدم إنسانية الإنسان في حاضره ومستقبله، ويدفع ما يعبث بقضايا الإنسان وحقوق الإنسان وحرية الإنسان في أرضه.. وجميع ذلك لا يتحول عند “اللجنة النرويجية” إلى عنصر حاسم في اختيار من يستحق الجائزة، لأن القرار قائم على التسييس والتغريب.

إنما سيتحول قرار ٢٠٠٩م ككثير من قرارات سابقة، إلى إساءة إضافية للجائزة ووصية صاحبها، الذي لو خرج من مثواه وعايش ما يُصنع بها، فربما آثر العودة إلى مثواه على المشاركة في الاحتفاء بتسليمها!

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب