تحليل – يوم اللاجئ العالمي في ٢٠ حزيران / يونيو
المشردون والنازحون واللاجئون بلغوا أضعافا مضاعفة مما كانوا عليه عند تأسيس المفوضية العليا لرعاية اللاجئين
ــــــــــ
تم تحديث هذا المقال مع تعديلات طفيفة وكان قد نشر في شبكة الجزيرة يوم ١٢ / ٩ / ٢٠١٦م: https://bit.ly/3cXht8x
* * *
منذ تأسيسها عام ١٩٥١م تعلن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في مثل هذا اليوم (٢٠ / ٦) من كل عام عن أرقام جديدة حول أعداد اللاجئين، وغالبهم مشردون قسريا عن بلدانهم، وحول أعداد النازحين، وغالبهم مشردون قسريا عن مساكنهم ومدنهم وقراهم داخل حدود بلادهم، وحول تطور تلك الأعداد بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل عام وقبل فترات دورية أخرى، وغالب ما يتضمن ذلك زيادة أعداد المشردين باطّراد، وقد أصبحوا إلا القليل النادر من البلدان العربية والإسلامية والنامية، الإفريقية والآسيوية والأمريكية الجنوبية، كذلك أصبحت الدول المضيفة للعدد الأعظم من المشردين ليست الدول الغربية الثرية التي تشكو باستمرار من مشكلات “اللجوء”، بل هي الدول الأقرب جغرافيا، أي البلدان العربية والإسلامية والنامية أيضا.
إن مأساة موجات التشريد واللجوء المتفاقمة هي في الدرجة الأولى وليدة القرن العشرين الميلادي وسياساته، بما في ذلك ما سببه النظام العالمي المنحرف المولود في رحم الحرب العالمية الثانية، وبلغت المأساة درجات تجعلها الأخطر من سواها في القرن الميلادي الحادي والعشرين. وكان منطلق العمل للتعامل معها تأسيس المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، وفق اتفاقية عالمية أبرمتها الأمم المتحدة يوم ٢٨ تموز/ يوليو ١٩٥١م، وسرى مفعولها رسميا بعد حوالي ثلاثة أعوام، واستهدفت في البداية التعامل مع مشكلة اللجوء في أوروبا نتيجة الحرب العالمية الثانية، وتزامنت آنذاك مع عوامل سياسية عديدة في مقدمتها مواجهة تمدد المعسكر الشيوعي السوفييتي في شرق أوروبا، فهو ما دفع الدولة الأمريكية، الأثرى عالميا نتيجة الحرب، للتحرك لدعم غرب أوروبا ماليا واقتصاديا، كما هو معروف تحت عنوان برنامج “مارشال” الذي ساهم في رفع المستوى الاقتصادي والمعيشي في البلدان المنكوبة بالحرب، وبعد عقود أصبحت أوروبا نفسها تتحدث عن “أزمة لجوء” تواجهها، وتعتبرها مصدر أخطار أمنية وثقافية واجتماعية ومالية، بينما أضيفت جرائم التشريد بحق شعوب سورية واليمن والعراق خاصة إلى جرائم التشريد بحق شعوب فلسطين وأفغانستان والجزائر وغيرها من قبل.
طمأنة المستبدين والفاسدين؟
انعقدت مؤتمرات دولية عديدة في هذه الأثناء كما كان مع قمة ٢٠١٦م العالمية، ولكنها كسواها من قبل ومن بعد أسفرت عن حزمة أخرى من “الوعود” المالية و”النوايا” الحسنة، ومجموعة أخرى من الوعود السياسية الكلامية كصياغة ميثاق عالمي حول اللاجئين، ثم أصبح تسويفها أو الامتناع عن العمل من أجلها أصلا، أقرب إلى طمأنة الذين يسببون التشريد من المستبدين والفاسدين، ليستمر ارتكاب الجرائم الإنسانية.
وإذا كانت اتفاقية ١٩٥١م دون مستوى تخفيف النسبة التصاعدية المتتابعة لحركة التشريد خلال العقود الماضية، فما الذي يمكن انتظاره من أية وعود جديدة بعد أن أصبح تعداد المشردين أضعافا مضاعفة عما كان عليه؟ علما بأن زهاء ثلث الضحايا المشردين أطفال، ويضاف إليهم عشرات الملايين من الضحايا الأطفال الذين تحصيهم منظمات دولية أخرى – مثل اليونيسيف – تحت عنوان ضحايا العنف والجريمة المنظمة. وهذا ناهيك عن ضحايا القتل أثناء عملية التشريد نفسها كما هو معروف عن مآسي ما يسمى “قوارب الموت” أو ما جرى أثناء جرائم التحرك الدولي والإقليمي المضاد لثورات تحرير الإرادة الشعبية في سورية واليمن وأخواتهما في العقد الثاني من القرن الميلاي الحادي والعشرين.
جميع المؤشرات ذات العلاقة بمشكلة اللجوء وصناعتها عبر الحروب والنزاعات والاستبداد والاضطهاد والفساد، تؤكد أنها مشكلة إنسانية كبرى باقية وستتفاقم، وأن أساليب التعامل الدولي معها تشعل أوارها ولن تزيلها أو تحدّ من عواقبها. وأصبح من العسير رؤية نهاية النفق المظلم رغم ما يوصف بالجهود الأممية لعلاج “أعراض” الجائحة الإنسانية الأوسع نطاقا والأخطر حصيلةً من جائحة كورونا.
أزمة أوروبية مع قضية إنسانية
في العالم الغربي الأثرى اقتصاديا ساهم الموقع الجغرافي لأوروبا الغربية في أن تكون الهدف الأول للمشردين من ضحايا الحروب والاستبداد طلبا للأمن والاستقرار، وللاجئين المهاجرين من ضحايا الفساد والسياسات الاقتصادية والمالية فرارا من الفقر والحرمان، إنما لا يمكن إغفال دافع آخر صنعته الإشادة الدائمة بأن بلدان “العالم الحر” تلتزم بمعايير حقوق الإنسان وسيادة القانون واستقلال القضاء، وما تقرره المواثيق الدولية بهذا الصدد، وقليلا ما يدرك اللاجئ مدى التأثير المضاد للمصالح المادية الكبرى على تطبيق الغرب لهذه المعايير، لا سيما في التعامل مع “الآخر”.
ولا ينفي ما سبق تفاوت مستويات “نوعية التعامل” مع المشردين واللاجئين، وهي منخفضة عموما في دول الجوار الأفقر ماليا والأدنى استقرارا، ومرتفعة في غالبية الدول الأوروبية المعنية لتأمين حد أدنى من الضرورات والاحتياجات المعيشية إلى جانب الإجراءات الضرورية قانونيا وأمنيا و”بيروقراطيا”، وهذا ما يسبب تكاليف مادية كبيرة، هي “الوجه المالي” للأزمة، ويتجلّى في صراع السياسات البينية لدول الاتحاد الأوروبي، بينما لا يزال استغلال الأزمة سياسيا من جانب اليمين المتطرف وورثة التمييز العنصري، هو المحور الأهم بالمنظور الأوروبي، ويتجلى في الخلافات السياسية داخل كل دولة على حدة.
لا شك هنا في خطورة أطروحات اليمين المتطرف، وضرورة أن تواجهه الأحزاب والتيارات الرصينة في الدول الأوروبية، ولكن تزداد في هذه الأثناء الأصوات الناقدة لأساليب خطيرة من حيث تعزيز مخاوف العامة، كتبنّي تلك الأطراف “الرصينة” لأطروحات متطرفة أيضا بدعوى “سحب البساط” من تحت أقدام اليمين المتطرف واستعادة أصوات الناخبين. إذ يطرح مسؤولون رسميون في الأحزاب التي تشكل ما يسمى حكومات اليمين واليمين الوسط مطالب جديدة أو “حلولا مقترحة” يربطونها بالسياسات الأمنية، وتستهدف النقاب أو الحجاب أو تشديد قوانين الترحيل أو الرقابة على المساجد وخطب الجمعة، وهذا رغم عدم ثبوت وجود ارتباط ما، بأي نسبة تستحق الذكر بين هذه القضايا وما يقع من اعتداءات “إرهابية”، تثير مخاوف العامة بحق.
يسري شبيه ذلك على تصريحات رسمية بشأن نفاذ الطاقة الأوروبية على استيعاب اللجوء، مع أن تعليل الرفض من جانب دول أوروبية شرقية ارتكز علنا على رفض تأثير الإسلام المحتمل على “القيم” ذات الأصول المسيحية واليهودية. إن دول أوروبا المتقدمة والثرية معا – سكانها أكثر من ٥٠٠ مليون نسمة – لم تستقبل من اللاجئين برا وبحرا، ما يعادل عُشْر من استقبلتهم دول جوار البلدان المنكوبة بالتشريد، فحسب مصادر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين يعيش نصف مجموع اللاجئين والمشردين في ٨ دول من الدول الفقيرة والنامية والناهضة في إفريقيا وآسيا، وذلك في ظروف أقرب للموت منها للحياة. ولئن مارست ألمانيا عام ٢٠١٥م ما يسمى سياسة الباب المفتوح والتي ركزت على استقبال ما يزيد على ٧٠٠ ألف مشرد من السوريين فقد ربطت حكومة برلين بين “الدوافع الإنسانية” و”استثمار” المليارات مقابل جني فوائد اقتصادية ومالية على المدى المتوسط والبعيد، لا سيما بسدّ ثغرات في سوق العمل لتناقص نسبة الكفاءات المهنية وارتفاع معدلات التقاعد وهبوط عدد الولادات، وهو ما لا تنقطع التقارير الرسمية عن ذكره، مع التحذير من تراجع الموقع الاقتصادي الألماني عالميا خلال سنوات معدودة.
ولكن لا يستبعد أن يتراجع الدور الألماني مجددا عن سياسة الباب المفتوح، وأن يساهم ذلك في ازدياد عنفوان الوجه المأساوي لأوضاع المشردين إلى أوروبا، بينما لا ينتظر سياسيا أن تتحرك القوى الدولية والإقليمية إلى معالجة جوهر مشكلة الاستبداد الداخلي والعدوان الخارجي، وهما في مقدمة أسباب التشريد لجوءا ونزوحا.
نبيل شبيب