تحليل – هيروشيما والدولة المارقة

كلّ “مروق” على الدولة المارقة، هو خطوة في خدمة المصلحة الإنسانية والقومية والوطنية

70
القنبلة الذرية الأمريكية هيروشيما

ــــــــــ

يوم ٦/ ٨/ ١٩٤٥م ألقيت القنبلة الذرية الأمريكية على هيروشيما ثم بعد ثلاثة أيام ألقيت القنبلة الذرية الأمريكية الثانية على ناجازاكي. وقصة جريمة هيروشيما وناجازاكي جديرة بأن تكون ملفا يوضع على مائدة أي مفاوضات تتقمص الولايات المتحدة الامريكية فيها دور “الدفاع” عن الأسرة البشرية تجاه أخطار أسلحة الدمار الشامل الفتاكة.

يؤكّد الأسلوب العسكري المتبع في ارتكاب أول جريمة نووية في تاريخ البشرية، أنّ الساسة الحربيين الأمريكيين أرادوا قتل أكبر عدد ممكن من السكان المدنيين في هيروشيما (٢٥٥ ألف نسمة آنذاك)، فقد استبقوا موعد ارتكاب الجريمة بإرسال طائرات استطلاعية على ارتفاعات شاهقة يوميا، ثم في اليوم المقرر انطلقت ثلاث طائرات تحمل إحداها القنبلة الذرية الأولى، وبقيت على ارتفاع شاهق (٩٤٥٠ مترا) في الأجواء اليابانية، فتوهم المسؤولون اليابانيون أنها استطلاعية ايضا وألغوا الإنذار المعتاد عند الغارات الجوية، فخرج السكان من الملاجئ ليستقبلهم الموت الأمريكي الهابط من الجو.
كانت نسبة التقتيل بمعدل ٩٠ في المائة من جميع من وجد في دائرة قطرها ٥٠٠ متر، و٥٩ في المائة في الخمسمائة متر التالية، أما القتل نتيجة الإشعاعات فلم ينقطع حتى يومنا هذا، فبلغ عدد القتلى زهاء ١٤٠ ألفا قبل نهاية ١٩٤٥م، وتجاوز ٢٦٠ ألفا الآن (يوم تحرير هذا الموضوع في ٦/ ٨/ ٢٠١٥م).

لم يكن الهدف إرغام اليابان على الاستسلام، ويوم ألقيت قنبلة ناجازاكي كانت الحكومة اليابانية في طوكيو تناقش “الطلب الأميركي” للاستسلام العسكري.، وسبق للسفير الياباني لدى موسكو آنذاك، ساتو ناو تاكي، أن أبلغ وزارة الخارجية السوفييتية يوم ٩ / ٧ / ١٩٤٥م باستعداد بلاده لمفاوضات “استسلام عسكري” واقعيا، وأحيط الأمريكيون علما بذلك يوم ١٣ / ٧ / ١٩٤٥م، أي قبل ارتكاب جريمة هيروشيما بأربعة وعشرين يوما، بل قبل اتخاذ القرار بارتكابها يوم ١٦ / ٧ / ١٩٤٥م كما يذكر “الجنرال” آيزنهاور في مذكراته، ويضيف أنّه نصح للرئيس الأمريكي ترومان آنذاك، بعدم تنفيذ القرار لأن اليابان على وشك الاستسلام، ولأنه لا ينبغي أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية أول من يستخدم هذا السلاح الرهيب، فأبى ترومان الاستماع إليه. وكان من أهدافه ألا يكون للغريم السوفييتي موطئ قدم عسكرية في اليابان، وكان من أهدافه أيضا تدمير “أرض” اليابان، كما يشير نص الإنذار الأميركي من يوم ٢٦ / ٧ / ١٩٤٥م “إن الاستخدام الكامل لقوتنا مع استمرار تصميمنا، سيعني التدمير الكامل المحتم للقوات اليابانية، وكذلك التدمير المحتم للأرض اليابانية).

والجدير بالذكر أن قوة قنبلة هيروشيما كانت تعادل ١٣ ألف طن من مادة “تي إن تي”، وتبلغ طاقة بعض القنابل النووية الأمريكية وغير الأمريكية حاليا أكثر من ١٠ ملايين طن، ويمكن أن تبلغ درجة الحرارة في مركز الانفجار ما بين ١٠ و١٥ مليون درجة مئوية.

والفتك الوحشي لا يقتصر على السلاح النووي، فالولايات المتحدة الأمريكية هي السباقة لصناعة المزيد من أنواع الأسلحة الإجرامية، والسباقة إلى استخدامها، والسباقة إلى رفض عقد مواثيق دولية لحظر استخدامها.
إن حجم الطاقة القاتلة والتدميرية للقذائف الأمريكية وقذائف أعوانها، على أرض العراق خلال حرب الاحتلال، تجاوزت في ثلاثة أسابيع مجموع حجم الطاقة القاتلة والتدميرية للأسلحة الفتاكة المستخدمة في الحرب العالمية الثانية خلال ست سنوات.
وإنّ ما أسماه الساسة العسكريون الأمريكيون “أم القنابل” واستخدموه في أفغانستان والعراق، تبلغ طاقة تفجير القنبلة الواحدة منها ١١ ألف طن “تي إن تي”، أي ما يناهز قنبلة هيروشيما، ولكن مفعول القتل الفوري والتدمير الذي تحدثه أكبر وأشدّ، فهذه القنبلة تتميز بانفجارها قبيل الوصول إلى الهدف الأرضي، وهذا ما يسبب نشأة قوة ضغط هائلة، قاتلة ومدمرة، تجعل نتيجتها الفورية أكبر من النتيجة الفورية من القتل والتدمير التي سببتها قنبلة هيروشيما.

لم تكن جريمة هيروشيما وجريمة ناجازاكي وجريمة درسدن وغيرها، ولا كانت الجرائم الحربية والجرائم ضد الإنسانية من بعد “عملا عسكريا” بأمر حاكم مستبد في دولة “مارقة”.. بل هو ما يجسد الإجرام هكذا عمدا وفق تخطيط محكم وإصرار عنيد، فهو ما يقال عنه بلغة القضاء والقانون “القتل العمد عن سابق إصرار”. وهذا ما لم يتغير التصميم عليه في مسيرة التسلح الأمريكي الفتاك، من سباق التسلح، إلى احتكاره، فإلى تفريغ دعوات للحد منه من مضمونها، فلم تدخل واشنطون في اتفاق ثلاثي مع موسكو ولندن عام ١٩٦٣م لحظر التجارب النووية فوق الأرض، إلا بعد أن أصبحت قادرة من الناحية التقنية على متابعة مسيرتها عن طريق التجارب تحت الأرضية، ثم لم تتراجع عن هذه التجارب باتفاق دولي عام ١٩٩٦م إلا بعد أن وصلت إلى مستوى يمكنها من متابعة تطوير أسلحتها النووية عن طريق البرامج الحديثة للعقول الإلكترونية.

واستخدمت واشنطون الأسلحة الفتاكة حيثما غاب “عنصر الردع المضاد” كما كان في فييتنام وباناما وجرانادا وأفغانستان والعراق وكذلك في حملات “طائرات دون طيار” في كل مكان.. أما الحالة الوحيدة التي منعتها من ارتكاب جرائم حربية فكانت – رغم شدة الصراع – نتيجة توافر عنصر الردع عند غريمها السوفييتي الشيوعي سابقا طوال حقبة الحرب الباردة.

إن أخطر ما يجري هو الإجهاز عالميا على إمكانات تأمين عنصر الردع على مستوى البلدان العربية والإسلامية وسواها، تجاه الدولة التي سبقت إلى صناعة السلاح الفتاك، وكانت الوحيدة التي استخدمته فعلا، وما تزال تصنعه، وتطوره، وتهدد باستخدامه، وتحتفظ لنفسها بما تسميه “حق توجيه الضربة الأولى” وتدرب جنودها منذ عام ١٩٩٦م على استخدامه ضد “مجموعات إرهابية”، وتسعى مع شركائها لاحتكاره، ومنع دول أخرى من امتلاكه، ولم تقبل بالتخلي عنه يوما ما، ولا إتلاف مخزونها الضخم منه.

أليس من المفجع أن تكون هذه الدولة بالذات هي التي تزعم ليل نهار العمل على حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل دفاعا عن حياة البشرية وسلامتها وأمنها؟
صحيح أن ارتكاب الجرائم الحربية والجرائم ضد الإنسانية لم يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية وإن سبقت إلى ذلك من قبل بداية القرن الميلادي العشرين، وبقيت دون حساب أو عقاب حتى اليوم، ولكن الأشد من ذلك أنها ما زالت ترتكب المزيد من تلك الجرائم دون حساب أو عقاب. ثم مضت إلى تنصيب نفسها لتوزيع “صكوك الإدانة” في قوائم الإرهاب، والمروق، وانتهاك حقوق الإنسان، وما شابه ذلك من قوائم “سخيفة سياسيا” لولا من يهتم بها.

صحيح أنها لم تستخدم السلاح النووي من بعد، ولكنها ترتكب ما لا يقل عن جريمتي هيروشيما وناجازاكي بشاعةً وحجماً بصورة متواصلة، مستخدمة في ذلك آلة الحرب الأمريكية ذاتها وما تفتقت عنه صناعاتها العسكرية، من قنابل حارقة وعنقودية وانشطارية وعملاقة وصواريخ قريبة المدى وبعيدة المدى وذخائر منضدة باليورانيوم المشعّ وحتى الطائرات دون طيار (وقد تضاعف استخدامها في عهد “حامل جائزة نوبل للسلام.. أوباما” ثم من خلفه).. ناهيك عن “جرائم استخباراتية” لا تعد ولا تحصى.
هذا ما جعل عدد الضحايا في بلد واحد كالعراق أو بلد واحد كأفغانستان، يصل إلى أضعاف مضاعفة مما سببه القتل الجماعي في هيروشيما وناجازاكي خلال الأيام الأولى من شهر آب / أغسطس عام 1945م.
إنها دولة مارقة على القانون الدولي والقانون السياسي والقانون الأخلاقي.. ولا يمكن أن يتبدل نهجها من خلال تبدل حاكم في منصب رئيس، أو عدد من النواب في مهرجانات انتخابية تتحكم فيها القوى التي تصنع الحروب عالميا ولا تريد أن تمتنع عن ذلك أو أن يحد من سلطانها المحلي والعالمي قانون محلي ولا دولي.. ناهيك عن قيم وأخلاق ومواثيق إنسانية.

هي دولة مارقة لا يصفد أذرعها إلا انتشار رفض سياساتها والتعامل مع سلطاتها على مختلف المستويات، وذاك ما يمكن أن تصنعه إرادة الشعوب في غياب إرادات الأنظمة. ولا يبدو أن الأنظمة على استعداد لتبديل سياسات التبعية للدولة المارقة ما لم تصل الضغوط الشعبية داخل بلدانها إلى مستوى كافٍ من قوة التعبير والتأثير بحيث يعلمون أن “مروقهم” على إرادة شعوبهم أخطر عليهم من تخليهم عن التبعية للدولة المارقة الكبرى.

لم يخضع قرار التعامل مع الدولة الأمريكية يوما لضرورات حقيقية في ميادين تقدم علمي وتقني أو علاقات اقتصادية أو شرعية قانونية دولية.. بل كان ولا يزال، قضية إرادة سياسية غيّب أصحابها مع تغييبها ما تمليه القيم والأخلاق والمصلحة المشروعة للشعوب بل حتى المصالح الذاتية، خوفا ورعبا، أو طمعا وتسلّطا.
إن كل “مروق” على الدولة المارقة، فرديا أو جماعيا، وفي أي ميدان من الميادين، هو خطوة في خدمة المصلحة الإنسانية المشتركة، والمصلحة القومية والوطنية، في كل بلد من البلدان ومنطقة من المناطق، وإن كل تمييع لذلك بحجج واهية من قبيل “ماذا أصنع فردا؟..” أو “ماذا تملك دولة صغيرة تجاه الدولة الكبرى” تمييع يؤدي إلى مزيد من الدمار والتقتيل عبر هيمنة امتهان الإنسان وحقوقه والشرعية الدولية ومواثيقها والمصالح المادية والمعنوية للأسرة البشرية على المدى القريب والبعيد.
ولنذكر أن التحولات الكبرى في تاريخ البشرية الذي يبلغ ما لا يقل عن أربعمائة قرن كانت دوما من صنع تحركات فردية محدودة تتحول إلى تحركات جماعية كبرى، ويمكن مثل ذلك أن يضع حدا لأخطر مروق على الأسرة البشرية وحاضرها ومستقبلها، ولد مع ولادة الولايات المتحدة الامريكية قبل قرنين ونيف فحسب.

نبيل شبيب