تحليل – هذا بعض واقعنا.. دون رتوش

لا يكفي التقدم الميداني دون تحرك سياسي وفكري يواكبه، وإن تبدلت الاقتناعات عما كانت عليه في العامين الأولين للثورة

39

لا تزال التحركات السياسية من داخل الميدان السياسي الثوري دون مستوى “التفاعل” مع التحركات الخارجية، ناهيك عن انتزاع زمام المبادرة. ولا يكفي التقدم الميداني دون تحرك سياسي وفكري يواكبه، وإن تبدلت الاقتناعات بهذا الصدد عما كانت عليه في العامين الأولين للثورة.

التحركات السياسية الخارجية ماضية (ساعة كتابة هذه السطور ١/٧ /٢٠١٥م) على محورين، أحدهما تركي قد يصل إلى درجة استخدام القوة العسكرية رغم المعارضة الأمريكية العلنية، لمنع قيام كيان كردي أقرب إلى “الانفصال” على طول الحدود السورية-التركية، وذلك بفرض منطقة مؤمنة عسكريا، على شريط يفصل شرق المنطقة الحدودية عن غربها، ويمكن أن تعطي العملية دفعة جديدة لمسار الثورة الميداني في اتجاه إيجابي، ولكن حتى لو بلغ ذلك إسقاط بقايا النظام، سيبقى من بعده فراغ سياسي بالمنظور الثوري.

والمحور الثاني أمريكي في الدرجة الأولى، وربما يستكمل مفعوله من خلال توافق يجري العمل له مع الطرفين الروسي والإيراني، وقد مضى أشواطا باتجاه إيجاد أربع “مناطق نفوذ جغرافية” (داعش / الأكراد/ بقايا النظام/ الثوار)، لا تكتسب صبغة “كيانات سياسية انفصالية” ولكنها مناطق قابلة لمحاولة التقسيم لاحقا، وعلى الأقل يمكن أن تسمح بنشأة “خطوط تماس” بين الأطراف المسلحة، قابلة لفرض رقابة على وقف إطلاق النار في اتجاه تسوية سياسية ما، فيما لو تم الاتفاق دوليا عليها، ويمكن القول إن أضعف تلك المناطق الأربعة ما هو تحت سيطرة الثوار.

بغض النظر عن هذين المحورين سيبقى من معالم الأوضاع الحالية ما يمكن استخدامه من جانب صناع القرار دوليا وإقليميا، كأوراق لمفاوضات ومساومات، سيان هل تجري تحت عنوان “جنيف” أو عنوان آخر. من ذلك أوضاع التشريد والمعاناة، ووقائع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقنوات التمويل والتسليح، والأطروحات المتعددة حول “تشكيلة سياسية”.

. . .

على الصعيد الثوري.. بقدر ما يمكن رصده من تبدل في المنطلقات السياسية للتجمعات الثورية الميدانية، ولبعض العاملين خارج ميادين المواجهة في ميادين الفكر والسياسة وما يتفرع عنهما، بقدر ما يمكن القول إن النقص لا يزال كبيرا وقائما على أكثر من صعيد.

١- رغم مرور أعوام على اندلاع الثورة.. نكاد نفقد جميعا الإحساس بأهمية عنصر الزمن، أي أننا نلهث وراء مسار الثورة نفسه، ومسار الأحداث المرتبطة بها، ومسار ما يتم إعداده وتنفيذه خارج نطاقها، ولا نرتفع إلى مستوى الجمع بين رؤية استراتيجية شاملة تتطلب استشراف المستقبل المتوسط والبعيد، وبين رؤية الواجبات المرحلية الفورية التي تتطلب التعامل مع معطيات اللحظة التاريخية الآنية.

٢- رغم مرور أعوام على اندلاع الثورة.. نكاد نعجز جميعا عن الانتقال من أسلوب العمل الفردي والفئوي الذي كنا نعزوه طوال سنوات الثورة، إلى مفعول “القحط في العمل السياسي وفي العمل الجماعي” لعقود عديدة، إلى أسلوب العمل الجماعي المؤسساتي المنظم الهادف، الذي يجمع بين قواسم مشتركة للتعاون ونقاط خلاف مؤجلة إلى ما بعد النصر والاستقرار، وينعكس هذا الوضع “التشرذمي” في أن كثيرا من التجمعات، القديمة والناشئة، تعمل من أجل رؤية مشتركة وعمل مشترك، ولكن كل منها يعمل على انفراد، أي أن كلا منها -إلا القليل- يريد أن يكون “المشترك” تحت عنوانها الذاتي، وهذا رغم التشابه الكبير في المحتوى، وغلبة الظن بشأن إخلاص من يعمل.

٣- رغم مرور أعوام على اندلاع الثورة.. لا يزال معظمنا يفتقر إلى نقلة حاسمة من مواصفات وممارسات سبق أن صنعت الإخفاق، إلى مواصفات وممارسات أخرى نعلم بضرورتها لتحقيق النجاح، ومن ذلك:

(١) ضرورة التخصص في ميادين العمل (ميداني / سياسي / فكري / إغاثي.. إلى آخره ) مع ضرورة التكامل بيننا، عبر التواصل والتنسيق والتعاون وتبادل الخبرات وتجنب تكرار العمل الواحد أو ممارسة بعضنا (أو معظمنا) لما لا يتقنه.

(٢) ضرورة العمل المؤسساتي القائم على تنظيم محكم، وتوظيف هادف للكفاءات، مع سريان مفعول مبادئ المسؤولية والشفافية وتوزيع الصلاحيات والمراقبة والمحاسبة والتقويم والتطوير.

(٣) ضرورة التطبيق أثناء الثورة، لكل ما يمكن تطبيقه مما نتطلع إلى ترسيخه بعد النصر، مثل الشورى، واستقلالية القضاء، والقيادات الجماعية، ومشاركة القاعدة في صناعة القرار، وغير ذلك.

(٤) ضرورة الانتقال من النظرة التجزيئية لقضايانا إلى النظرة الشاملة، ومن الارتجال في أعمالنا أو ردود أفعالنا إلى الدراسة والتخطيط مع مراعاة عنصر الزمن، ومن التفكير النمطي الفاسد (التعصب الأعمى.. تحنيط الاجتهاد.. مقولات من قبيل خارج وداخل.. ثوري وسياسي.. فكري وتنظيري.. إلى آخره) إلى التفكير الموضوعي الهادف.

ويوجد المزيد.. إنما يكاد الكلام فيه يكرر بعضه بعضا، وقد ينتظر من يحسن الكلام ذاك الذي يحسن التطبيق، لننتقل معا إلى واقع نصنعه.. معا.

نبيل شبيب