تحليل – صناعة الكفاءات تصنع التغيير

مفعول قيادة تستغل الإمعات أخطر في كثير من الأحيان من أفاعيل العدوّ الهمجي

44

في مسار الثورات الشعبية في سورية وأخواتها انتشر التساؤل عمّا يمكن صنعه الآن، على خلفية الإحساس أننا في عنق زجاجة تصعيد العدوان الدولي ضد الإرادة الشعبية.

وبالمقابل ازداد الوعي الشبابي بمواطن القصور الذاتي النوعي، ووجود ثغرات في "كفاءاتنا" استغلتها القوى المعادية لتصعيد الإجرام بحق الشعوب والأوطان والثورات وأجيال المستقبل.

 

محوران لمواصلة العمل

الواقع يحدد الخط العام للعمل المطلوب إذا ثبت اليقين بأن ضخامة العداء الخارجي واستفحال القصور الذاتي، لا يغلقان بوابة تغيير شامل فتحت الثورات أبوابه، فأحداث التاريخ أمواج ترتفع وتنخفض، ولا تنكص على أعقابها، وليس لنا خيار سوى مواصلة سعي الأجيال المتعاقبة للصعود والنهوض.

من أهم معالم هذه المرحلة: استمرارية العدوان الفتاك، وضعف الجهود لتوظيف انتشار الوعي بمواطن القصور الذاتي، وعلى هذه الخلفية تأخذ "متابعة" التغيير الثوري طريقها حول محورين اثنين: 

محور "العمل العاجل" من جانب المخلصين: بذل أقصى المستطاع لدفع الأضرار، مع التصدي الهادف لمن يسببون المعاناة ويزيدونها تفاقما، وهم فريقان، قوى عدوانية غاشمة، وفريق من "القادرين" على التصدي أيضا ولكنهم "منشغلون" و"غارقون" في اختلافاتهم حتى حضيض الاقتتال وفي انحرافاتهم عن دروب العلم والمنطق والكفاءة، بلا هدى ولا كتاب منير.

ومحور "العمل المستدام" البعيد المدى، وهو ما ينوّه إليه هذا المقال الموجز حول نقص الكفاءات المتفوقة في مختلف الميادين الفكرية والسياسية والإدارية والاستراتيجية والعسكرية وغيرها، وكان نتيجة غياب جهود التغيير في عقود مضت، وأوهن مسار الثورات التي انطلقت أشبه بمعجزات تاريخية.

إن حجم النجاح في المستقبل المنظور، ونوعيته وسرعة تحقيقه، رهن بما يتأهل من كفاءات متفوقة لريادة مسار التغيير الثوري التاريخي الكبير.

الكلام عن ذلك هنا موجز يتطلب المتابعة بالتفاصيل والآليات، فالكفاءات مطلوبة في كل ميدان ولا بد أن تكون عالية متفوقة في كافة المستويات، فمسار التغيير في سباق زمني ونوعي مع هجمات مضادة صادرة عن "عدوّ دولي مضاد متقدم ماديا وتقنيا وإداريا.." ولا يحيط بالحديث عن "صناعة الكفاءات" إذن مقال موجز، إنما هو التنويه لصميم المطلوب، من خلال مثالين عن الفرد المقاتل والعالم المجتهد، فما يسري عليهما يسري عموما على سواهما.

 

مسؤولية المقاتل مسؤولية فردية

إذا كان الفرد المقاتل "إمعة"، ضعيف الشخصية، منخفض الوعي، كان عرضة للسلوك المنحرف عبر الطاعة العمياء، حتى وإن أوهمه قائد منحرف أنه على "الطريق إلى جنة الخلد".

مهما "تدرّب" الفرد على استخدام السلاح تقنيا، لا يحقق متطلبات النصر ولا تكتمل بعمله شروط الشهادة، إذا وقفت كفاءته القتالية عند حدود المضي دون تفكير حيث تمضي به القيادة، سواء استقامت أو انحرفت. وإذا تطلبت الكفاءة في القتال تدريبات ببرامج خاصة، فلن تستقيم دون صناعة الشخصية السلوكية للفرد، المطلوبة في كل ميدان آخر لبناء أركان مجتمع الثورة والتغيير، نحو وضع حضاري أفضل في الدنيا ونعيم مقيم في الآخرة.

جوهر المطلوب للفرد المقاتل هو الجمع بين ما يصنعه تدريب تقني وخلق سلوكي عملي، والجمع بين القدرة على الانضباط العسكري تنظيما والمسؤولية الفردية الذاتية وعيا وفهما وقرارا.

لا يتطلب ذلك علما "غزيرا" بل إلماما كافيا بأمهات القواعد التوجيهية، العقدية والسلوكية والأخلاقية، واعتيادا سلوكيا على حمل أعباء شخصية واعية وإرادة مستقلة، بما يكفي للتمييز بين النافع والضار وسط "أمواج متلاطمة يصنعها بعض من أنعم الله عليهم بالقدرة على كتابة وخطابة، بغض النظر عن "مستوياتهم العلمية والفكرية"، وقد أخذوا مواقعهم في صفوف الكتائب والفصائل المسلحة، وباتوا يوظفون الآيات والأحاديث والاجتهادات وكلام الأولين والمعاصرين لتبرير ما يقولون، وهم يهاجمون ويعممون وينذرون ويتوعدون ويجيّشون ويحرضون ويفتون ويستبيحون، فيصنعون عبر توجيه جيوش من "الإمعات" ثغرات الاقتتال وسواها.

هذه ظاهرة خطيرة.. لن نزيلها عبر شكاوى غاضبة و"هجمات مضادة"، بل عبر جهود حقيقية لزيادة نسبة الكفاءات الفردية الواعية بما تعنيه قاعدة كبرى من قبيل (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) أو من قبيل (كل نفس بما كسبت رهينة) و(إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل).

يجب أن يعمّ في وعينا المعرفي الجمعي وفي توجيه أعمالنا المتكاملة إدراك أن مفعول قيادة تستغل الإمعات أخطر في كثير من الأحيان من أفاعيل العدوّ الهمجي.

 

كفاءة العالم المبدع

العمل مطلوب أيضا من أجل كفاءات حقيقية متفوقة في القيادات العسكرية والسياسية والعلمية والتخطيطية والإدارية، وفي الأنشطة الإغاثية والحقوقية والتربيوية والتعليمية والإعلامية وغيرها.. ولا ينفسح المجال هنا لأكثر من وقفة قصيرة في الختام عند مرتبة العلماء المجتهدين الأجلاء.

لا يعالج القصور هنا من خلال أسلوب أهوج، عبر حملات قدح وذمّ وتشكيك، معظم ما يقال فيها لا ينطبق على الواقع، وبعضه يتيه بعيدا عن الهدف، بعد أن خالف معظمنا بتمنيّاته وبخيبات أمله، ما تقتضيه قاعدة "التخصص والتكامل" في تعامل جميعنا مع جميعنا.

جوهر المطلوب من العلماء أن يبلغ جيل المستقبل مرتبة التفوق تخصصا وعملا وإنجازا على جيل سبقه، ويستحيل ذلك دون تطبيق قاعدة نوّه إليها علي كرم الله وجهه عندما أوصى بتربية أولادنا لزمان غير زماننا.

إن قوام وجود العلماء في سدّة الريادة هو الكفاءة اللازمة لتوجيه جيل يصنع واقعا جديدا، عبر تفوقه على جيل العلماء أنفسهم.

مكانة العالم لا تقاس بمنصب والمنصب لا يصنع الكفاءة، ونحتاج إلى القول أيضا إن كفاءة العالم لا تقاس بعلمه الشرعي فقط ففوق كل ذي علم عليم، ولا بحفظه لما صنع أسلافه فقط، فمهما بلغ من ذلك لن يحيط بكافة ما خلّفوه، ولا تقاس بكثرة تكراره لما قدّم سواه، فشبيه ذلك ما عرف في التاريخ بحقبة التصنيف والشروح والفهرسة والتلخيص، وهو ما كان بداية عصر الجمود والتقليد، حتى نضبت ميادين الاجتهاد لمواكبة المتغيرات، ووصلنا إلى ما نحن فيه ونشكو منه في عصرنا هذا.

إن كفاءة العالم مرتبطة ارتباطا وثيقا بمدى ما يحيط به من علوم عصره وواقع العالم الذي يعيش فيه واحتياجات الإنسان في ظروف متقلبة وأحوال متغيرة، ثم بقدرته على "الاجتهاد" المبدع الجديد، مستنبطا من ثوابت النصوص الشرعية رؤية جديدة يحتاج إليها معاصروه، وأداته في ذلك فهمه القويم، مع استئناسه بأساليب اجتهادات من سبقه دون التقيد بمحتوياتها بالضرورة.

ومهما بلغ علوّ كعب العالم المجتهد لن يؤدي واجبه في قطاعات "الريادة والقيادة والتوجيه" بل قد "ينفصل عن الواقع" فيتكلم في واد وتمضي الأحداث في واد آخر، ما لم:

١- يعتمد في متابعة معطيات عصره ومستجدات عالمه على المتخصصين والمتابعين وذوي الرأي السديد في ميادين عديدة ومتنوعة تنوعا غير مسبوق.

٢- يتعايش أو يتواصل بالقدر الكافي مع من يريد أن يكون متأهلا لريادتهم وقيادتهم وتوجيههم..

هذا إلى جانب التواضع المتناسب طردا مع مقام العلم وكفاءة العلماء.

. . .

إن تكوين الكفاءات والتخصصات والمهارات في مختلف القطاعات والدرجات جزء جوهري من العمل الضروري والممكن ليكون واقع شعوبنا غدا أفضل من واقعنا اليوم، وليتخذ جيل المستقبل موقعه من طريق التغيير متقدما خطوة بعد خطوة، بدلا من انتكاساتنا المتناقضة مع ما أعطته الشعوب من نماذج بطولية مبهرة لصناعة ثورات تاريخية رغم ضعف الإمكانات الذاتية وغياب الخبرات العملية ورغم همجية العدوّ وقصور الصديق وتشرذم النخب.

ليتنا نتعلم من الشعوب نهج الإبداع كما صنعت عبر الثورات، بدلا من نصب أنفسنا أوصياء دون الإبداع في ميادين نعتبر أنفسنا متخصصين فيها.  

نبيل شبيب