تحليل – دروس من الانتخابات الأمريكية للعمل الأهلي/ المدني

لا يكفي مجرد وجود عمل مدني مكثف، لتأهيل الإنسان لصناعة مواطن يعي ما يحقق مصالحه وكيف يوظف صوته الانتخابي

48

بغض النظر عما يكتب ويقال بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الميادين السياسية والاقتصادية والأمنية، عالميا وعلى مسار التعامل مع قضية سورية تخصيصا، يثير العنوان أعلاه التساؤل: ما علاقة تلك الانتخابات ونتائجها بالعمل الأهلي/ المدني في حاضر بلادنا ومستقبلها؟

 

ملاحظات مبدئية

لا بد قبل محاولة الجواب على السؤال المطروح من تعداد ملاحظات مبدئية بإيجاز:

أولا: من الضروري تجنب تصورات خاطئة تسود بين بعض من يتابعون الانتخابات الأمريكية دوريا ويتنبؤون بنتائجها على خلفية أوضاع وتطورات سياسية واقتصادية وأمنية دولية، إذ لا تلعب القضايا الخارجية مهما بلغ شأنها دورا أساسيا في تصويت الناخب الأمريكي لصالح أحد المرشحين في انتخابات الرئاسة أو سواها، إنما العنصر الحاسم دوما هو القضايا الداخلية، لا سيما المعيشية، وأبرز ما يواجهه الناخب الأمريكي هنا هو ازدياد تفاقم انتشار الفقر المدقع إلى جانب الثراء الفاحش، ثم أزمة "هوية" المهاجرين الأوروبيين القدماء مع ارتفاع نسبة سواهم في البلاد.

ثانيا: لا ينفي ذلك أن النتائج تترك آثارا واسعة النطاق على السياسات الخارجية الأمريكية، بحسب توجهات الطرف الفائز وإن لم يتحقق فوزه بسبب تلك السياسات، فهذه الآثار لا ترتبط بالطبقة الموجودة في السلطة بقدر ما ترتبط بموقع الولايات المتحدة الأمريكية عالميا في الوقت الحاضر، بغض النظر عن مفعوله في أي معركة انتخابية داخليا.

ثالثا: يترتب على ما سبق أن تعديل السياسات الذاتية في بلد ما على ضوء علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية وانتخاباتها، لا يقدم كثيرا ولا يؤخر في انتخابات تالية، ولا يكاد يمثل في بلادنا العربية والإسلامية تخصيصا سوى التعبير المؤسف عن مفعول "عقدة الخواجة الأمريكي" وقد أصبحت عواقبها بالغة الخطورة على أرض الواقع.

رابعا: المهم في هذا الموضوع هو أن الانتخابات الأمريكية الأخيرة تكشف في الدرجة الأولى عن المستوى الحالي للتفكير والوعي السياسي على صعيد الناخبين عموما، بما يتجاوز مفعول الغشاوة التقليدية المصطنعة بسبب البريق الدعائي عن "الدولة العظمى" وأوضاعها، وعن واقع الإنسان الأمريكي.

خامسا: هذا ما تنطلق الفقرات التالية منه دون "تحليل مفصل" للانتخابات نفسها ونتائجها، فالغرض هو استخلاص بعض الدروس ذات العلاقة بمسارات العمل الأهلي/ المدني الحالية لصناعة الإنسان السوري من أجل حاضر سورية ومستقبلها.

 

واقع الإنسان الناخب الأمريكي

المحور الأهم للعمل الأهلي/ المدني، هو الإسهام في "صناعة الإنسان الفاعل" في مختلف الميادين، ويسري هذا على التخصيص في مثل وضع سورية الراهن، وشعبها ومعاناته، فهو في قلب مسارات ثورة تفتح أبواب سلوك طريق التغيير، ولا يتحقق التغيير على الوجه الأمثل دون "إنسان التغيير" وهذا ما يؤكد أهمية العمل الأهلي/ المدني وتنظيماته.

في الولايات المتحدة الأمريكية بضعة ملايين تنظيم من تنظيمات العمل المدني، وكثير منها عريق في نشأته وعمله، ويفترض -تبعا لذلك- أن يتمتع المواطن الأمريكي عموما بمستوى رفيع للتعامل مع أوضاع حقوقية، معنوية ومادية، وبدرجة عالية من المعرفة والوعي.. ولكن وجدنا غالبية الناخبين الأمريكيين يعطون أصواتهم تحت تأثير مخاوف (الفقر.. والهوية) لمرشح لم يمارس السياسة من قبل، ولا طرح برنامجا سياسيا، ويكاد يجمع المراقبون على المستويات السياسية والإعلامية والبحثية العلمية، من أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أنه ارتكب سلسلة طويلة من "الحماقات والمحرمات السياسية" في معركته الانتخابية، ووجّه سهامه ذات اليمين وذات اليسار دون تمييز، ولم يتجاوز في وعوده المغرية حدود "الكلام الغوغائي" المتناقض حتى مع القليل المعروف من ممارساته السابقة كرجل أعمال يملك المليارات.

والسؤال:

أين مفعول العمل المدني إذن في صناعة الإنسان الأمريكي؟ ما الذي يجعل غالبية الناخبين يميلون إلى انتخاب مرشح من المنتظر أن يسبب أضرارا كبيرة لفئات كبيرة من المجتمع، لا سيما الفقراء والعاطلون عن العمل وضحايا التمييز المتوارث في ميدان العلاج الصحي وغيرهم؟

ثم ما الذي جعل نسبة عالية من الناخبين من الطبقات "المهمّشة"، الرافضين له رئيسا، لا يتحركون للحيلولة دون وصوله إلى المنصب، إذ امتنعوا عن التصويت أصلا، على حساب منافسته، وهو ما ساهم إسهاما حاسما في إخفاقها وفوزه؟

ليست المشكلة في "نوعية المرشح" وغياب سياساته وتشوّه أطروحاته ذات العلاقة بالقيم، بل هي مشكلة الناخب الأمريكي، أو غالبية الناخبين.. من عامة السكان.

هذه المشكلة "صارخة" في الوقت الحاضر، ولكنها ليست جديدة كلّ الجدة، فبذورها ظهرت من قبل عند انتخاب "أوباما" مرتين وفق شعار "التغيير".. وهو عاجز عن التغيير، وكذلك عند انتخاب أسلافه ولا داعي للتفصيل.

الناخب الأمريكي -على وجه التعميم- لا يملك الوعي السياسي لاختيار الأصلح، ولا يملك الوسائل الكافية للتأثير على معركة انتخابية جارية عبر طرح البرامج وليس في ساحة تبادل الشتائم والاتهامات وتنظيم المهرجانات المبهرجة، هذا ناهيك عن غياب معرفة الفرد الناخب أصلا بسياسات بلاده الخارجية ونتائجها، وبأحوال العالم وأوضاع البشرية فيه، فلا غرابة أن يحصل على صوته مثلا رجل يتحدث عن بلجيكا باعتبارها "مدينة" جاهلا أنها "دولة" صديقة فيها مقر حلف شمال الأطلسي!

الحصيلة:

لا يكفي مجرد وجود عمل مدني مكثف، لتأهيل الإنسان في دولة ذات إمكانات مادية كبيرة لصناعة مواطن يعي ما يحقق مصالحه وكيف يوظف صوته الانتخابي على هذا الصعيد.

 

بعض الدروس للعمل الأهلي / المدني

في الساحة السورية كمثال متميز يجري العمل الأهلي/ المدني في أصعب الظروف ويحمل العاملون فيه واجبا جوهريا هو تأهيل الإنسان السوري للعطاء وهو يتعرض للويلات بسبب معاناته، وتأهيله بمواصفات متميزة للإسهام في أداء واجب سلوك طريق تغيير حضاري جذري كبير في حقبة ما بعد الثورة في بلده، وبحيث تكون حصيلة عمله مستدامة فلا تنحرف بها لاحقا أوضاع شاذة، نتيجة انحرافات فكرية أو إعلامية أو حتى تحت تأثير أسباب القوة المادية تخصيصا.

وهنا يمكن اعتبار الانتخابات الأمريكية الأخيرة مصدرا من مصادر دروس نرصدها في سائر الدول الغربية الأخرى أيضا، وقد بدأت تفقد زمام توجيه التقدم العلمي والتقني والمادي في الحضارة البشرية المعاصرة لخدمة جنس الإنسان.

من هذه الدروس:

١- سلاح المعرفة والوعي من أهم أسلحة العمل الأهلي/ المدني لتكون الغالبية الأكبر من السكان قادرة على اختيار ما يحقق المصالح المشتركة في بلادها، وقادرة على الدفاع عن ذلك تجاه الانحرافات والتضليل والتزييف.

٢- صناعة الإنسان على مستوى رفيع بقيمه وعلمه ومعرفته لا تقل أهمية عن صناعة ظروف ضرورية له ومهارات لازمة لحصوله على حقوقه المادية، فالجانبان متكاملان، ومن واجب العمل الأهلي/ المدني الوليد لحاضر سورية ومستقبلها أن يجمع بين هذا وذاك في رؤاه ومخططاته وممارساته التنفيذية.

٣- صحيح أن الدول الغربية ذات خبرة طويلة في "العمل المدني"، ويمكن الاستفادة من تلك الخبرة، ولكن مع الحذر الشديد من التسليم لها بسائر ما تطرح من نظريات ومخططات وتوجيهات وقيم، بل ينبغي التمييز بين الغث والسمين، واستدراك النواقص وسد الثغرات في ميادين عديدة، لا سيما في نطاق منظومة القيم، ومحورية "موقع الإنسان" في أي عمل جادّ هادف.

٤- إن الفصل بين العوامل الذاتية كالاحتياجات المعيشية المحلية، عن العوامل الإنسانية المشتركة على صعيد الأسرة البشرية واحتياجاتها -كما هو الحال في بلد "ثري متقدم" كالولايات المتحدة الأمريكية- لا يحمي السكان من الانحراف في التفكير والسلوك على حساب مصالحهم الذاتية نفسها، وهذا ما يستدعي أن يشمل التأهيل في بلادنا رؤية متكاملة ومتوازنة تجمع بين هذا وذاك.

نبيل شبيب