تحليل – خطايانا ومستقبل قضايانا

المخلصون معقد الآمال، وكلما خاب بعضها عايشنا نكسة أخرى، وكلما تحقق بعضها خَطَونا مع قضايانا المصيرية خطوة في الاتجاه الصحيح

37

 

من أراد صادقا وجادا الحديث عن مستقبل قضايانا، فليتحدث عن المخلصين وليدع الخوض في جدال لا نهاية له عن الساسة وأفاعيلهم واليائسين ونواحهم.

دعونا من السياسيين.. فنحن لا نكاد نجد منذ عشرات السنين سياسيا محنكا واحدا يخدم قضايانا المصيرية وفق ما تقتضيه السياسة وتوجبه القضايا المصيرية، ومهما قيل اليوم عن ترامب بشأن القدس لا يوازي معشار ما ينبغي قوله عن بعض ساستنا أو أكثرهم..

مثل أنور السادات عندما زار القدس فجعل زيارته بوابة كامب ديفيد..

أو مثل حافظ الأسد الذي بدأ بناء وكر الحماية الدولية لسلطته في جحر مشروع الخراب الإيراني وعلى أشلاء أهلنا في تل الزعتر من فلسطين..

أو مثل محمود عباس منذ صمّم اتفاقية نفق أوسلو ووقعها..

ناهيك عمن تلاقى مع ساسة السعودية على مبادرة "مشروع فاس" مطلع السبعينات وعلى مبادرة بيروت في التسعينات من القرن العشرين الميلادي.. قرن الانحطاط السياسي العربي الحديث، ابتداء بمنحدر سايكس بيكو ومعركة العقبة الأولى مع الإنجليز لإنهاء الوجود العثماني في المنطقة العربية.

إن الحديث عن السياسيين لا مغزى له ولا نتيجة، سوى التنفيس عن الغضب المتصاعد.. وبالتالي قعود القادرين على أن يعملوا رغم السياسات المنحرفة.

 

ودعونا من الجدال مع "اليائسين القانطين المحبطين" فهذا ديدنهم مع كل كارثة صغيرة أو كبيرة، إذ لا يستوعبون أن كل أمة وصلت حضارتها إلى ما بين المشرقين والمغربين كانت قبل ذلك في أدنى درجات الحضيض، وفيه من الوحول أضعاف ما نشكو منه هذه الأيام.. بما في ذلك أمة الحضارة الإسلامية بعد أيام وأد البنات وداحس والغبراء والغساسنة والمناذرة.. أو أمة الحضارة الغربية بعد أيام حرق النساء والعلماء وتعذيب البشر في الأقبية وحرب المائة عام وغيرها.

إن الحديث عن اليأس والجدال مع اليائسين لا مغزى له ولا نتيجة سوى التلهي عن العمل الجاد لوأد اليأس في طريقنا.

 

الحديث هنا يدور حول "المخلصين" من صنّاع المقاومة والصمود من أهلنا في فلسطين، ومن صناع الثورات الشعبية أو مؤيديها ومناصريها من أهلنا في بلدان الربيع العربي، وحول المخلصين ممّن يتصدرون منابر الفكر والخطابة والكتابة، وممّن يدعمون على المستوى الخاص -بلا منّ ولا أذى.. ودون شراء الولاءات لصالح رؤاهم واجتهاداتهم وتنظيماتهم الذاتية – من يحتاج إلى الدعم من العاملين في الميدان وإلى الإغاثة من المحرومين والمنكوبين.

عندما يصنع المنحرفون أمرا لا يخيب فيهم الأمل ولا في الأعداء عندما يمارسون عدوانهم فالأمل غير معقود أصلا على هؤلاء ولا هؤلاء.. ولكن المخلصين هم من تنعقد عليهم الآمال، وكلما خاب بعضها عايشنا نكسة نفسانية وواقعية أخرى، وكلما تحقق بعضها خَطَونا مع قضايانا المصيرية خطوة في الاتجاه الصحيح.

 

الحديث عن هؤلاء المخلصين يستهدف تجنب مزيد من خيبات الأمل، وصناعة مزيد من الخطوات في الاتجاه الصحيح، ولا يعني تعداد خطايا المخلصين "علاج" ما مضى فقد مضى، بل يعني رؤية "مفتاح" ما ينبغي أن يكون، فهو الهمّ الحقيقي لمن يريد العمل حقا.

فيما يلي ثلاثة أمثلة فقط.. من قائمة خطايانا العديدة وموقعها مما نرجوه من مستقبل لقضايانا:

١- جميعنا يعلم بقاعدة "فرق تسد" الاستعمارية والاستبدادية ويعلم بعواقبها على أرض الواقع ويندّد بها بمناسبة ودون مناسبة.. ولكن جميعنا "متفرقون"، ليس في أروقة السياسة بالضرورة، بل عندما ينشر بعضنا "الوعي" أو يقول إنه يفعل ذلك، أي عندما يفكر أو يكتب أو يعمل وهو يفصل بين قضية وأخرى، من فلسطين إلى أفغانستان، ومن مصر إلى سورية، ومن اليمن إلى تركيا.. مثلما نفصل بين قضية التخلف وتحرير الأوطان، وبين قضية الفقر ومواجهة العدوان، وبين قضية تأهيل شبيبة المستقبل ووباء الطائفية.. وكم ذا نشكو من تلاقي أعدائنا وهو متشاكسون فيما بينهم، على تحركهم المضاد لقضايانا وثوراتنا والمعادي لجنس الإنسان نفسه، ثم ندع كل فريق منهم يواجه "أعداءنا المتعاونين" بمفرده.. بدعوى أن له قضيته ولنا قضيتنا! 

إننا جميعا مع جميع قضايانا قضية واحدة، فلا يتحقق التخصص التأهيلي الواجب قطعا دون التكامل المدروس والعملي الأشد ضرورة ووجوبا.

 

٢- جميعنا يعلم من البداية أو علمته الأحداث الجارية أن تحقيق الأهداف الكبرى قضية طويلة الأمد، قضية أجيال، قضية مستقبلية، وهي في الوقت نفسه قضية اللحظة الحاضرة، ولا يمكن أن ننتقل من وهدة تخلفنا الحالية على كل صعيد إلا من خلال رؤية ما وراء الآفاق، ونحن نربط ربطا وثيقا بين حاضرنا وما فيه من إمكانات محدودة ومتطلبات حيوية، وبين مستقبلنا ورؤيتنا للأهداف الجليلة الكبيرة فيه من وراء آفاق الحاضر المتردّي.. ولكننا لا نزال نقيس النصر والهزيمة، ونقيس النجاح والإخفاق، ونقيس التقدم والتخلف، عبر ما نراه لأنفسنا في حدود قضبان زمنية لأعمارنا نصبناها حول أنفسنا أفرادا أو تنظيمات أو حتى شعوبا متفرقة.

جميعنا أفراد، والفرد يعيش سنين معدودات ويمضي، ولا يمكن أن ينجز إلا بقدر ما يكون عطاؤه مبرمجا تخطيطا وتنفيذا ليكون جزءا من مسيرة الأجيال وتراكم الإنجازات.

 

٣- جميع من أصبح منا من أصحاب العلم والفكر والقلم والعطاء والإنتاج، والمقصود المخلصون في هذه الميادين وما يشابهها، يشكو من غزو فكري، واجتماعي، وفني، وأدبي، وتربيوي، ولغوي.. (ناهيك عن السياسي والعسكري والاقتصادي) ولكننا عندما نكتب أو نخطط أو نصنع لعبة أطفال أو نؤسس مركز دراسات، لا نكتفي باستخدام أحدث ما وصل إليه سوانا من مبتكرات جيدة، تقنية ومعرفية، وهذا ضروري، بل نغفل غالبا عن تطهير مضمون ما نستخدم من مفعول الإرث المعرفي والقيمي لسوانا، وسوانا يشكو من عواقبه المعاصرة، كما نغفل عن إبداع ما يجب أن نبدع مع ربطه بمنظومة الإرث المعرفي والقيمي للإنسان كما سبق أن صنعنا في أوج حضارتنا الإنسانية، فخدمنا قضايانا وقضايا الإنسان من حولنا.

هذا مما أصاب كثيرا من المخلصين في مراكز البحوث والدراسات والفكر والتأهيل والتدريب والإدارة والعطاء الفني والأدبي والثقافي.. فبقينا "عالة" على سوانا، أو مقلدين، أو تابعين، من حيث ندري بدليل شكاوانا أو لا ندري بدليل أساليب عملنا.

 

صحيح أننا نحتاج إلى مظاهرات.. وأيام غضب.. ومؤتمرات.. وندوات حوار.. وتواصل وتشبيك عبر التقنيات الحديثة.. ردا على حادث يؤذينا بعد حادث، من قبيل تنفيذ ترامب لما مهّد له أسلافه في بلاده وأتباعه في بلادنا بشأن القدس، فمثل هذه الحملات تساعد على نشر الوعي المشترك بقضايانا..

ولكننا نحتاج حاجة أكبر إلى العمل الهادف على المدى القريب والبعيد:

– بدءا بالكتابة المتوازنة التي لا تختزل قضايانا في سطور ولا تتيه في تفاصيلها دون حساب، وبالقراءة التي لا تتركز على فورات مؤقتة وتقتصر على فتات الوقت بين ما يشغلنا من أمور خاصة وعامة، خارج نطاق العمل لقضايانا..

– مرورا بإزالة الحواجز فيما بيننا، الانتمائية والتخصصية والاجتماعية والجغرافية، لنكمل بعضنا بعضا في النظر إلى "قضيتنا" الواحدة الكبرى الجامعة لقضايانا العديدة..

– انتهاء بإعطاء الأولوية للعمل المنتج دون صخب، والتعاون المتواصل دون مزايدات، والرؤية المستقبلية دون انهزامية، والرؤية الواقعية دون شطط.

 

لقد مضى ما يقارب مائة سنة على المشروع الصهيوني الاستيطاني الغربي الحديث، وقد تحرر بيت المقدس والأرض المباركة من حوله بعد مائتي سنة من مشروع الاحتلال الاستيطاني الصليبي الغربي القديم.. كم ذا نذكّر أنفسنا بذلك لإحياء الأمل، ولكن:

هل نضع أنفسنا بما يناسب عصرنا وعالمنا من فكر ووسائل لمواجهة المشاريع العدوانية الصهيونية والإيرانية والغربية عموما، على الطريق التي وضع أسلافنا أنفسهم عليها آنذاك بما يناسب عصرهم وعالمهم عندما واجهوا المشاريع الصليبية والمغولية؟

إن فعلنا ذلك.. فسيذكره أبناؤنا وأحفادنا عندما يعايشون -في مسار "القضية الكبرى الواحدة"- تحرير النفوس والأوطان مع النهوض والبناء، وصناعة الانتصارات على الأعداء وعلى فرقة الانتماءات معا، وردّ مختلف أشكال العدوان الخارجي الأجنبي وإسقاط الاستبداد المحلي في أقطارنا وحتى عقر بيوتنا.. مع ترسيخ أسباب العدالة والكرامة والحرية وحفظ الحقوق الإنسانية جميعا.

وإن لم نفعل، سيأتي سوانا ويفعل ذلك ويطوينا سجل التاريخ كما يطوي من نذكرهم بما يستحقون من المنحرفين ومن اليائسين على السواء.

نبيل شبيب