تحليل – تزييف المشروعية الدولية

تمييع مصطلح "الشرعية الدولية" يمكّن من استخدامها أداة فاسدة أو ذريعة كاذبة في تعليل خطوات تتناقض مع الشرعية الدولية نصا وروحا

41

إنّ ابتكار الذرائع لخطوات تسوية سلمية موهومة في إطار مواقف سياسية أو عبر وسائل إعلامية، يشير إلى الإحساس بالحاجة إلى الذرائع، وهو إحساس يفرضه العلم بارتكاب الخطأ، كما يفرضه العلم بانكشاف ذلك لأصحاب القضية من عامة العرب والمسلمين. والأمر الأخطر من التفريط بالقضية في فترة شاذّة ستنتهي من مجرى التاريخ، هو اتخاذ ذلك التسويغ المنحرف الاضطراري صيغة تضليل أبعد مدى، عبر مقولة أخرى ابتُكرت في المنطقة العربية “وحدها” وهي القول عن قرارات سيطرة شرعة الغاب على مجلس الأمن الدولي: هذا ما تفرضه “الشرعية الدولية”، مع ملاحظة ما تضفيه كلمة “الشرعية” في الوعي المعرفي التاريخي للناطقين بالعربية، هذا إضافة إلى تساؤل التيئيس والتخويف: كيف لنا أن نواجه “المجتمع الدولي والأسرة الدولية”!

 

إنّ الشرعية الدولية التي لم نعد نرصد خطوة كبيرة أو صغيرة في اتجاه ترسيخ طريق كامب ديفيد ومدريد وأوسلو، إلاّ ونسمع ذكرها من وراء ما يُصنع بالقضية، ليست هكذا كأي كلمة يمكن تأويلها على حسب الظروف المتقلّبة، واستخدامُها على حسب الحاجات الطارئة، إنّما هي في الأصل مصطلح ثابت المضمون والمدلول عند أهل الاختصاص في علوم السياسة والقانون الدولي، وإن عبث به “السياسيون” المحدثون.

هذه المصطلحات لا تتحدّد مضامينها عبر ما تفرضه القوى الدولية، في ظلّ أوضاع سياسية متقلبة أو “نظام دولي” قابل للسقوط، أو عبر ما تصنعه “وقائع” تفرض بالقوّة، مثل تهجير شعوب أو تبديل معالم أرض، فجميع ذلك وأمثاله ليس من مصادر تحديد مضامين مصطلح “الشرعية الدولية” تحديدا منهجيا في القانون الدولي، وإلا لكان ما فرضه النازيون والفاشيون والشيوعيون وأمثالهم للمحة من الزمن تاريخيا “مشروعية دولية” وكانت حرب من حاربوهم “عدوانا على الشرعية الدولية”!

وفق ما يقول به العلماء المتخصصون حول “شرعية” ما يحمل عنوان القانون الدولي “التطبيقي”، أي نصوص القرارات والمعاهدات والمواثيق والاتفاقات ذات الصبغة الدولية، هي “وضع” يجري التعامل معه بحكم الواقع، أما مشروعيته فمرهونة بعدم تناقض محتويات تلك النصوص مع مقتضيات نصوص القانون الدولي الأساسي، الذي يتألف من مبادئ وقيم وقواعد أساسية، انبثقت من الخبرة البشرية واتخذت صياغاتها الرسمية في مواثيق دولية أساسية، كميثاق الأمم المتحدة، ومنها مثلا: المساواة بين الدول، وحق تقرير المصير، وعدم مشروعية اغتصاب الأراضي بالقوة، وبطلان المعاهدات التي لا تتضمن بندا يحدّد موعد انتهاء سريان مفعولها زمنيا أو شرطا موضوعيا لانتهائه.

 

ما توجده “القوّة” الآنية للجهة المسيطرة عالميا من اتفاقات تنعقد وتوقعها حكومات ما، أو وقائع ما تنشأ بمفعول السلاح، لو أنه يكتسب صفة “مشروعيةٍ دولية” هكذا تلقائيا، أي بالأسلوب الذي بات يجري الحديث عنه الآن لوصف قرارات مجلس الأمن الدولي أو الاتفاقات المعقودة على غرار كامب ديفيد وما تلاه.. لأصبحت “الشرعية الدولية” صفة مكتسبة مائعة متقلبة تصنعها القوّة الطارئة.

لا ينبغي تمييع مصطلح “الشرعية الدولية” فهذا ما يمكّن من استخدامها أداة فاسدة أو ذريعة كاذبة مضللة، في تعليل خطوات تتناقض مع الشرعية الدولية نصا وروحا.

 

أخطر من ذلك التمييع المنتشر على ألسنة سياسيين نعلم أنّهم قد يقولون غدا غيرَ ما يقولونه اليوم، مثلما يقولون اليوم غير ما كانوا يقولونه بالأمس.. أخطر من هذا النوع من التمييع السياسي الزائل، أن تشمل عملية غسيل الدماغ الجماعية الجارية تحت سلطان توجيه السياسة للفكر والعلم والإعلام والتربية، نوعا آخر من التمييع، يصل بتأثيره إلى مستوى تجنيد جهات يُنظر إليها في الأصل بمقياس المكانة العلمية المعتبرة، وبمقياس دور تاريخي وحضاري وعلمي وثقافي مناط بها لتكوين كادر المتخصصين وأجيال الغد.. من معاهد علمية وكليات جامعية ومراكز دراسات وبحوث وما شابه ذلك، فيساهم بعض من فيها في تمرير قلب المفاهيم رأسا على عقب، خدمة لظروف آنية، متقلّبة أو مندثرة، بينما نجد المتخصصين في الغرب -وهو الذي تُتبنى سياسته في بلادنا ووفق مصالحه الذاتية مثل ذلك التمييع في قضية فلسطين- نجد معظمهم حريصا على بقاء المدلولات الثابتة للمصطلحات الأساسية في مكانتها وبقاء المنهج العلمي في البحث على نقائه، وأقصى ما يمضي إليه بعضهم هو القول بوجود “اتجاهات حديثة” تتبنى إعطاء الأولوية للقانون الدولي التطبيقي تجاه القانون الدولي الأساسي.

إنّ ما تصنعه السياسة وتصنعه ضغوطها على أرض الواقع، بالحرب أو وسائل القوة المالية والاقتصادية وسواها، لا يصنع مشروعيةً ما، بل هو الذي تقاس مشروعيته على مبادئ الشرعية الدولية وقيمها، أي أنّ القرارات (كوعد بلفور) أو المعاهدات (مثل كامب ديفيد وأوسلو) أو الوقائع سياسية وعسكرية (كالاعتراف والتطبيع والاحتلال)، ما اتفق منها مع مضمون مبادئ الشرعية الدولية الثابتة ومدلولاتها الواضحة، أصبح يحمل صفة المشروعية، وأمّا ما ناقضها -وهذا ما يسري على الأمثلة السابقة جميعا- كان باطلا من حيث الأساس، وبقي باطلا لاغي المفعول، ولو طال به العهد بشكل عام، وسيّان في ذلك أن تباركه أو لا تباركه -إلى جانب رعاية القوّة المهيمنة- منظماتٌ دولية معتبرة، فليس مجهولا أنّ قيامها في الأصل كان مشروطا بتلك الشرعية الدولية دون تمييع، وما يزال وجودها مرتبطا بها، كمجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة وسواهما من الأجهزة الدولية.

 

لولا الانطلاق من ذلك كبدهيات مسلّم بها في منطق القانون الدولي لكانت الشرعية الدولية مساوية لشرعة الغاب، إذ تتبدّل موازين القوى، فيتبدّل الواقع على الأرض بالقوّة، فيكتسب الجديد عبر استخدام القوّة مشروعيّته تلقائيا، ونقول: حتّى لو صحّ ذلك -وليس صحيحا ولا يمكن أن يصحّ- فهو ما لا يستدعي من جانبنا منطقيا، ونحن أصحاب الحق الشرعي التاريخي الأصيل بفلسطين المباركة، أن نسلك درب “التسليم”، بل يستدعي بمقاييس الحق والكرامة والعدالة من جهة، وكذلك بمقاييس صُنع ما يصنع الآخرون المعاصرون لنا من جهة أخرى.. يستدعي ويوجب إعدادَ القوّة في عصر يأخذ بتغليب شرعة القوة، ويوجب استخدام القوة بهدف مستقبلي، محوره الأساسي هو العمل على تغيير واقع باطل مفروض، وإيجاد الواقع الذي نريد، فإذا أخذنا بما يصنع سوانا من تغليب القوة على المشروعية الدولية، يأخذ الواقع الذي نوجده آنذاك مكانه في عالمنا المعاصر.

هل ينبغي أن يسري تغليب القوة على المشروعية في عالمنا بأسره، ويسري لدينا تسمية ذلك “شرعية دولية”؟

لهذا نعجب أشدّ العجب إذ نشهد في الوقت الحاضر، أنّ تمييع مفهوم الشرعية الدولية على هذا النحو لم يُبتكر إلا للتعامل مع قضايانا بالذات، بل في تعاملنا مع بعضنا بعضا أيضا، في المنطقة العربية والإسلامية تحديدا، ومع قضية فلسطين قبل سواها.

لم يكن مقبولا مثلا أن تعطى الأولوية للقانون الدولي التطبيقي ونتائجه الراسخة عشرات السنين على الأرض، في قضية من قبيل قضية دول البلطيق، وكان قد وجد الاتحاد السوفييتي أثناء احتلال الروس لها اعتراف دول العالم بالواقع القائم، والتعامل معه، على غرار ما وجده -منذ مسيرة كامب ديفيد ومدريد ويجده اليوم- الكيانُ الباطل القائم في فلسطين، وقد كان احتلال دول البلطيق مرافقا زمنيا لاحتلال الصهيونية للجزء الأوّل من أرض فلسطين، ولكن استمرّ الاحتلال الروسي عشرات السنين، دون أن يكتسب مشروعية ما، وعندما تبدّلت موازين القوى، عاد لدول البلطيق استقلالها، ولم تكن حتى في حاجة إلى اعتراف جديد بمشروعيةٍ دولية جديدة!

بل حتّى في حالة الهزيمة العسكرية المطلقة، كالتي أصابت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، لم تُعطِ “معاهدات الاستسلام” القديمة الموقّعة مشروعيةً دولية ما لسيطرة بعض الدول الشرقية على أجزاء من الأرض الألمانية، إنّما منع  الواقعُ القائم في حقبة الحرب الباردة استعادةَ تلك الأجزاء، ومنع أيضا الوصول إلى حلّ نهائي بشأنها، ونعلم أنّ ألمانيا كانت هي البادئة بحرب عدوانية، ورغم ذلك لم يكتسب الوضع الجديد في تلك الأراضي مشروعية دولية ما، لا نتيجة لمرور الزمن، ولا نتيجة للعجز عن تغييره، وهذا ما جعل القضية الأولى المطروحة في الساحة الأوروبية فور سقوط الشيوعية هو التوصّل إلى معاهدات جديدة بين الدول المعنية وألمانيا الموحّدة، أي إلى معاهدات توقّع عليها حكومة ألمانية، قامت وفق القوانين الدولية، أي عبر انتخابات شاملة للسكان، عامّة حرّة نزيهة، ومشروطة بأنّها جرت دون ضغوط ولا إكراه ولا تزييف، ثم كان يتوجب أن تصادق المجالس النيابية المنتخبة حقيقة لا تزييفا هزليا، على تلك المعاهدات، كي يكون “التنازل” عن الأرض في النهاية متوافقا مع “الشرعية الدولية” دون تمييع، أي مع تلك الشرعية الدولية التي تشترط أن يكون “التنازل عن أرض ما” على النحو المذكور، من جانب صاحب الحق الأصلي فيها، أي الشعوب، وعبر التعبير السليم عن إرادتها، وبتطبيق الشروط المذكورة عليه.

ومن المؤكّد أنّ ألمانيا الموحّدة لم تكن لتتحرّك كما تحركّت في هذا الاتجاه، فترسّخ النتائج على حساب جزء من أرضها، لولا أنّ ألمانيا النازية كانت هي البادئة بالحرب والمسبّبة لنتائجها.

بتعبير آخر، قد تُضطر دولة من الدول إلى الاستسلام العسكري كما صنعت ألمانيا، أو إلى التعامل مع واقع جديد نشأ حولها، ولكن لا تملك سلطاتُها عبر الاستسلام ولا الحكومات المتعاقبة عبر التعامل مع ذلك الواقع القائم، أن تخطو خطوات متناقضة مع حقوق الأجيال المتعاقبة فيها، فإن صنعت ذلك كما جرى في شرق ألمانيا الشيوعي سابقا، لا يكتسب ما تصنعه مشروعية قانونية دولية.

أمّا نحن فيتحرّك فريق صغير في قضية فلسطين، دون حق طبيعي ولا مكتسب، ودون تكليف شرعي أو غير شرعي، فيصنع بالقضية، ويستخدم قوّته الآنية أو المدعومة خارجيا، ليمضي بها إلى أبعد بكثير ممّا تسمّيه “الشرعية الدولية” استسلاما مطلقا.

الفارق فوق ذلك هو أن الآخرين يحترمون أنفسهم فيسمّون الأشياء بمسميّاتها ويحفظون للأجيال التالية حقوقها، والمطلوب أن نحترم أنفسنا، ونمتنع عن تزوير ما يصنعه فريق منا، وعن إعطائه ما لا يستحق من أوصاف، كيلا نحمل وزر إيجاد مزيد من العقبات على طريق الحق والعدالة في المستقبل، في وجه أجيال تالية، نرجو ألاّ تكون في تعاملها مع قضية فلسطين وأخواتها من القضايا المصيرية، على مثل ما كان عليه جيلنا حتى الآن.

نبيل شبيب