تحليل – انتخابات أمريكية ورحيل غباء مدمر

بقاء النهج الأمريكي على حاله بعد بوش الابن وما صنع يعني ترجيح استمرار التدمير الممنهج بصيغ وقوالب جديدة

53
طقوس الانتخابات الأمريكية

ــــــــــ

(لا تختلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية سنة ٢٠٢٠م والرحيل المتوقع لدونالد ترامب، عن انتخابات ٢٠٠٨م ورحيل جورج بوش الابن، وحول ذلك يدور هذا الموضوع الذي يعاد نشره الآن في مداد القلم، وكان قد نشر آنذاك في شبكة الجزيرة، وتناول من حيث الأساس سياسات الحروب العدوانية وما كان على حساب الداخل الأمريكي أيضا، ومن ورائه ما عُرف باسم “المحافظين الجدد”.. ويبقى جوهر المضمون ساري المفعول بما في ذلك ما تعنيه الشواهد بالأرقام والتصريحات الرسمية، فقد بقي النهج السياسي الأمريكي على حاله، وتابع ترامب خطى بوش الابن بممارسة سياسات مدمرة بأساليب أخرى، خارجيا وداخليا)

*        *        *

شهادات رفاق الدرب في سياسة غبية – أرقام تشهد على التدمير – غائب عن وعيه – انتظار “ملقنين” جدد

كان “أسوأ رئيس أمريكي على الإطلاق”، على حد تعبير المؤرخ الأمريكي دوجلاس برينكلي، في جوابه على سؤال وجه إليه: “كلا، ليس صحيحا السؤال ما إذا كان بوش أحد الرؤساء العشرة الأسوأ في تاريخ أمريكا، بل هو الأسوأ إطلاقا، هو أسوأ حتى من جيمس بوخانان الذي أوصل عهده إلى انفصال الولايات الجنوبية، ولم يمنع نشوب الحرب الأهلية”. والمؤرخ برينكلي واحد من بين ١٠٩ مؤرخين شملهم استطلاع “تخصصي” عن عهد بوش الابن، فتلاقى ٦٨ منهم على القول إنه الأسوأ من سائر أسلافه، وتلاقى ١٠٦ على اعتبار كلمة “الإخفاق” عنوانا عريضا لفترة رئاسته.

شهادات رفاق الدرب في سياسة غبية
لا يقتصر الأمر فيما يقال عن بوش الابن على ما يذكره المؤرخون، بل وصل إلى بعض من رافقوه في مشوار حروب العجرفة عالميا فترة من الزمن، ثم نأوا بأنفسهم عنه، واشتهر من بينهم وزير الخارجية السابق كولن باول، فمضى في المعركة الانتخابية الجارية (٢٠٠٨م) إلى درجة إعلان تأييده لأوباما من الديمقراطيين ومعارضته لانتخاب ماكين من المحافظين الجدد من حزب الجمهوريين الذي ينتمي كولن باول إليه أيضا.
والمثال الأعمق مغزى ما مضى إليه جون بولتون، فهو من صقور المحافظين الجدد، وهو الذي أثار الحلفاء والخصوم على السواء بمواقفه المتطرفة بتعبيرها عن حلول عجرفة الهيمنة مكان اللباقة الديبلوماسية أثناء عمله كمندوب أمريكي في مجلس الأمن الدولي، وكان من أقواله عن نهاية عهد بوش الابن، إنه “يمثل انهيارا بغشاوة ثقافية”.

وعمد آخرون إلى المشاركة في تأليف كتب يجري الإعداد لنشرها في فترة “الوداع الأخير” لجورج بوش الابن، أي بين يوم الانتخابات في ٥ / ١١ / ٢٠٠٨م ويوم تسليم السلطة رسميا في ٢١ / ١ / ٢٠٠٩م، مثل كتاب بعنوان “سقوط بوش المريع”، وآخر بعنوان “انعدام الكفاءة إطلاقا”.

قد يكون في بعض تلك المواقف من أقران بوش الابن، درجة من النفاق السياسي، إنما هذا بالذات ما يبين أن حصيلة سنوات بوش الابن صارخة، وأنها مخيفة لأي سياسي يريد أن يحفظ لنفسه موطئ قدم في فترة تالية، ولن يكون هذا ممكنا لأحد من “آل بوش” تحديدا، فهؤلاء دمر بوش الابن سمعتهم تدميرا كاملا، كما يقول جاكوب فايسبيرج، كاتب سيرة حياة جورج بوش الابن، وكان أكثر المتابعين لسياساته وممارساته من كثب، وقد بدا فيها على غرار من نشرت عنهم “هوليوود” عالميا صفة “الشريف” (رئيس الشرطة المحلية) الذي يجول بمسدسه تحت أشعة الشمس الحارقة وقت الظهيرة في عهد رعاة البقر، ومثل هذا الوصف التهكمي اللاذع هو ما يعتبره ماتيو ديفيد مناسبا لبيان معالم شخصية الرئيس الذي كان (أي ماتيو ديفيد) أحد المخططين الاستراتيجيين لسياسته.

على أن العجرفة لا تواري درجة من الغباء لم يشتهر أحد بمثلها كما كان مع بوش الابن، بشهادة السفير الأمريكي جيمس دوبينس، وكان أحد مهندسي السياسات الأمريكية في البوسنة ثم الصومال ثم أفغانستان، أثناء عهد كلينتون ثم في الفترة الأولى لرئاسة بوش الابن، ويقول: “لقد عايشت في السنوات الأربع الأولى قدرا كبيرا من انعدام الكفاءة والغباء، وأعني بذلك الرئيس بالذات”.

أرقام تشهد على التدمير
لا غرابة أن يقضي الرئيس الأمريكي بوش الابن أيامه الأخيرة في مكتبه البيضاوي في عزلة سياسية واجتماعية وشعبية لم يُعرف لها مثيل مع أحد من أسلافه، حتى أصبح قادرا على الاستمتاع لمدة أكثر من ساعتين يوميا بإحدى هواياته الرياضية. وقد دعا مؤخرا إلى لقاء يطرح فيه “رؤيته” للتعامل مع الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، وصدرت دعوة “الرئاسة” إلى زهاء ٥٠٠ شخص من كبار المسؤولين في الدوائر المالية والاقتصادية، فامتلأت القاعة، ولكن ليس بالمدعوين، بل بمن بعثوا بهم لينوبوا عنهم من مستوى “السكرتيرات والمساعدين”، ومنذا يريد أن يسمع منه قوله في ظروف الأزمة الراهنة للشعب الأمريكي: “اذهبوا وتسوّقوا”، بمعنى أن الأمور في بلاده على ما يرام، وهو يواجه أعنف أزمة بنيوية هيكلية واجهت العالم الرأسمالي وعصفت بنهجه منذ نشأته الأولى، بل تبدو هذه الكلمات وكأنها تشهد على انفصام في الشخصية، عند مقارنتها بما صدر عنه هو نفسه وهو يحذر من انهيار اقتصادي واسع النطاق، عندما كان يسعى لكسب أصوات أعضاء مجلس الكونجرس لصالح “برنامج إنقاذ”، قد وضعت صياغته بهدف تمكين الحكومة من دعم المؤسسات المالية التي انطلقت منها الشرارة الأولى في حريق الانهيار المالي؟
يبدو أنه يصدّق نفسه عندما يقول ذلك، أو عندما يقول مثلا آخر: “الرأسمالية أفضل نظام عُرف إطلاقا”، وكأن مقياسه الوحيد هو ما يقول به معيار إحصائي وحيد لا يريد أن يرى سواه، أن الدخل القومي الأمريكي ارتفع خلال سنوات رئاسته الثمانية ارتفاعا ملحوظا، فأصبح “الوسطي” النظري للدخل الفردي يعادل ٢٦٣٥٢ دولار، وكان في حدود ٢١٥٧٨ دولارا يوم استلم بوش الابن من بيل كلينتون منصب الرئاسة.
وبغض النظر عن انخفاض القيمة الشرائية للدولار نفسه، يبقى أن التركيز على مثل هذا الرقم لا يختلف كثيرا عن تصديق ما تصوره أفلام رامبو وسوبرمان عن حقيقة “الأبطال الأسطوريين من الأمريكيين”، فخلف هذا الرقم معين لا ينضب من الشواهد على حقيقة ما يعنيه، ومن ذلك عبر السنوات الثماني الحافلة بعجرفة الغباء العسكري والسياسي والاقتصادي معا:
١- ارتفاع وسطي الدخل الفردي يتضمن ارتفاع عدد أصحاب المليارات الأمريكيين من ٦ ملايين إلى ٩ ملايين و٣٠٠ ألف شخص.. مقابل ارتفاع عدد الفقراء الأمريكيين من 31 مليونا و٦٠٠ ألف إلى ٣٧ مليونا و٣٠٠ ألف إنسان.
٢- ارتفاع عدد العاطلين عن العمل من ٦ ملايين إلى أكثر من ٩ ملايين ونصف المليون، مقابل ارتفاع ميزانية وزارة الدفاع من ٣٣٣ إلى ٦١٣ مليار دولار.
٣- ارتفاع تكاليف الحروب إلى ٢٠٠٠ مليار دولار، مقابل ارتفاع عدد نزلاء السجون الأمريكية (إشارة إلى ارتفاع نسبة ارتكاب الجرائم) من مليون و٩٠٠ ألف إلى مليونين و٣٠٠ ألف.
٤- ارتفاع حجم الديون على الدولة الأمريكية من ٥٧٠٠ مليار دولار إلى ١٠٣٠٠ مليار، إلى جانب ارتفاع العجز التجاري السنوي من ٤٣٦ مليار دولار إلى ٧٩٤.
٥- ارتفاع عدد المحرومين من تأمين صحي من ٣٨ مليون إنسان إلى ٤٧ مليونا من مواطني دولة يقول رئيسها الملهم: “العالم كله يحسدنا على نظامنا الصحي”.

ثم يزعم من يزعم أن بوش الابن يعي ما يقول ويفعل! وقد يكون لعلماء النفس رأي آخر، إنما من العسير على إنسان عادي أن يتصوّر ذلك الرئيس الأمريكي وهو يصنع ما يصنع ببلاده وعالميا، إنسانا واعيا سليم الحواس، لا سيما وهو يصرخ في وجه أحد مستشاريه: “تقول سياسة سيئة؟ عندما أقرر أمرا، فلتعلم أن ما أقرره هو تعريف السياسة الجيدة”!… أي تعريفها اصطلاحيا، وليضحك أساتذة العلوم السياسية ما سمح لهم بذلك تغييبُ مشاهد ضحايا هذه السياسة “الجيدة”!

غائب عن وعيه
ليس من الضروري أن يكون الإنسان الرافض لممارسات جنونية على أعلى مستوى سياسي من أولئك الذين خلفت تلك الممارسات الخراب والدمار والآلام في بلادهم، وذاك ما يشهد عليه استطلاع أجراه مركز “بيو” في واشنطون للبحوث حول الإعلام والسياسة والسكان، ونشر نتائجه عام ٢٠٠٨م قبل أن تتحول أزمة العقارات إلى أزمة مالية عابرة للحدود، وكشفت النتائج أن سياسات “أسوأ رئيس أمريكي” أصبحت مرفوضة عند حوالي ٥٨ في المائة وسطيا من العامة على مستوى شعوب العالم، وكانت مرفوضة بنسبة ٣٠ في المائة في العام الأول من عهده. وترتفع هذه النسبة الوسطية ارتفاعا ملحوظا في البلدان الأكثر التصاقا بالسياسة الأمريكية في الأصل والأشد تأييدا لها، كاليابان إلى ٦٣ وفرنسا إلى ٧٠ وألمانيا إلى ٧٢ في المائة. ولهذا يحق لجريدة فينينشينال تايمس أن تقول في سياق تعليقها على الأزمة المالية الجديدة: “لقد سيطرت أمريكا وأوروبا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا على العالم لمدة ٢٠٠ عام دون صعوبة، ونشهد نهاية هذه الحقبة الآن”.

هذا ما يرصده خبراء العالم جميعا ويبحثون عن سبل مواجهة عواقبه الوخيمة أو عن سبل التخفيف من وطأتها على الأقل، أما بوش الابن فبقي عاجزا عن رؤية “مشكلة” أو استيعابها أو عن الاعتراف بحقيقة حجمها وهو يقول عن أوضاع بلاده مثلا: “الاقتصاد ينمو والإنتاجية في صعود والتجارة في ازدهار”، وذلك في شهر تموز / يوليو عام ٢٠٠٨م، أي بعد أن تجاوزت أزمة القروض الفاسدة العقارية مختلف التوقعات والمخاوف وامتدت إلى شرايين النظام المالي والاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية وعالميا.

انتظار “ملقنين” جدد
قد يكون غياب رئيس أمريكي عن وعيه وعجزه عن استيعاب ما حوله مما شارك في صنعه بنفسه شأنا أمريكيا داخليا، عندما يرتبط ذلك مثلا بقوله المعبر عن حاله بعد كارثة إعصار كاترينا عام ٢٠٠٥م: “لا أعتقد أن أحدا كان يتوقع انهيار السدود”، فهو إذن جاهل بما صدر من تحذيرات الخبراء من ذلك طوال سنين عديدة سبقت الكارثة، أو متجاهل لها. ولكن ليس من شأن الناخب الأمريكي وحده أن يزعم بوش الابن لنفسه: “لم يعمل أي رئيس قدر ما عملت من أجل حقوق الإنسان”، وقد تزامنت كلماته هذه في عام ٢٠٠٣م مع ما كان من ممارسات التعذيب الوحشية في سجن أبو غريب في العراق.

وليس من شأن الناخب الأمريكي وحده أن يزعم بوش الابن عن بلده في عهده: “أمريكا تؤيد الحرية، والبحث عن السعادة، والحق المطلق في الحياة”، وهو يصنع ما لا ينقطع من الشواهد العالمية الإجرامية على حقيقة عهده في جوانتانامو والفلوجة وأخواتهما من سجون سرية وساحات قتل علنية، وفي كل أرض وطأتها جنازير الدبابات وأحذية الجنود وأدمتها القنابل العملاقة والعنقودية والانشطارية والفوسفورية بأمر رئيس الدولة الأمريكية.

إنّ رحيل بوش الابن لا يعني تجاهل الجرائم مع إسدال الستار على أسوأ رئيس أمريكي، أو أشد صفحة أمريكية سوادا رغم مختلف ما سبقها من صفحات سود من إبادة الهنود الحمر إلى هيروشيما وناجازاكي إلى فيتنام؛ فلا يمكن القول: قد مضى وانتهى الأمر!
لن يسدل برحيله الستار على الجرائم الحربية العلنية المتواصلة في أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين وسواها، فلا يمكن أن نقول للملايين من الضحايا الأبرياء وذويهم: قد مضى وانتهى الأمر!
كذلك لا يكفي قول من يقول لقد أصاب بوش الابن الخزي في الحياة الدنيا قبل رحيله وسيصيبه الخزي في الآخرة بين يدي الديان ذي الجبروت.

الدرس الحقيقي والمغزى المحوري المطلوب:
لا ينبغي بعد اليوم أن تكون الانتخابات الأمريكية مناسبة لوداع “ملقنين” واستقبال “آخرين” ممن يجدون من يصغي لهم وينصاع لعدوانيتهم، داخل بلادنا، لرسم سياسات وتحديد مواقف وتدبيج مقالات ونشر كتب وتسويق صيغ جديدة للتلقي والاتباع، على حسب ما يصدر عن “الملقنين الجدد” على المسرح الأمريكي.
آن الأوان لإنهاء كافة صنوف الارتباط التبعي بأي قوة دولية، ولترحيل أساليب الانصياع العلني والخفي لسياسة أي مسؤول فيها، ولوضع المصالح العليا الذاتية فوق كل عامل من عوامل العلاقات الخارجية لتكون متوازنة حقا ولتحقيق مصالح متبادلة فعلا.
لا بد للمسؤولين عن السياسة والإعلام والفكر والثقافة في بلادنا العربية والإسلامية من مراجعة سياساتهم وممارساتهم والعلاقات الداخلية بين فئات الشعب الواحد، وما بين الشعوب والسلطات، وبين البلدان المتجاورة إقليميا، ومع مختلف القوى الأجنبية، مراجعة تضع حدا لما مضى، وتفتح صفحة جديدة، فنحن أحوج إلى ذلك بعشرات أضعاف ما يسعى إليه الناخبون الأمريكيون تجاه رؤسائهم ونوابهم، وعشرات أضعاف ما يصنعه المؤرخون والمفكرون والمدافعون عن الإنسان وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب عموما، أملا في إنقاذ سمعة بلادهم وصناعة مستقبل آخر لها.

نبيل شبيب