تحليل – المسيئون للديمقراطية

استثناء فريق من الاشتراك في "اللعبة الديمقراطية" يشوه وسيلة الاحتكام للإرادة الشعبية

35

قبل الخوض في الموضوع هذه ملاحظة على هامش "واجبنا تجاه لغتنا العربية":

يفضل كاتب هذه السطور الكلمة العربية الأصيلة على الأجنبية، والعامية، والمعربة، أو المشوهة باستخدام حروف عربية في كتابة أصلها الأجنبي، إنما توجد كلمات معربة، مثل "الديمقراطية" و"الاستراتيجية" شاع استخدامها على مختلف المستويات، فاندمجت في اللغة العربية، ككلمات قديمة، لم نعد نميز أصلها السرياني مثلا.

السؤال هنا عن المسيئين للديمقراطية سؤال تثيره مواقف عديدة في مسارات الثورات الشعبية ومسارات التحرك الانقلابي ضد هدفها المحوري: تحرير الإرادة الشعبية.

من هذه المواقف تسويغ فريق من "دعاة الديمقراطية" للانقلاب العسكري في مصر، ومنها تسويغ "دول ديمقراطية غربية" لحصار الثورة الشعبية في سورية بذريعة غلبة الاتجاه الإسلامي على فصائلها المسلحة، وليس المقصور بذلك المتطرفة الإرهابية، ويقابل ذلك ما صدر من مواقف ويصدر عن بعض من يعملون تحت راية إسلامية، كقول أحدهم مؤخرا "الديمقراطية تحت أقدامنا" مع محاولة تسويغ كلامه بفهمه لآية {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم}.

لا داعي للاستفاضة في مناقشة هذه المواقف وأمثالها، فهي من أعراض المشكلة، ولو عولجت وغابت لظهر سواها، إنما المطلوب الخروج من أساليب التعميم والاتهام والاتهام المضاد بشأن مسألة من المسائل المطروحة على كل حال في مسارات الثورة والتغيير، ومن الشواهد على ضرورة ذلك ما نشهده من تناقض كبير بين محاولات تصنيف وصول مسار تونس الثوري إلى انتخابات نيابية ورئاسية بمشاركة شعبية وسياسية واسعة، أي التصنيف القائل إنها نموذج سلمي لنجاح المسار الثوري الشعبي والتصنيف القائل إنها نموذج قهري لنجاح التحرك الانقلابي المضاد.

 

الديمقراطية غربيا وشرعة الغاب دوليا

الدول الديمقراطية الغربية في مقدمة المسيئين للديمقراطية، ولا يعني ذلك أنها لم تحقق تقدما على صعيد دولة القانون والحريات داخل حدودها، وكثيرا ما يذكّر بعضنا بعضا بذلك عندما يكتب أحدنا بحرية ناقدا تلك الدول وهو يعيش في أراضيها ككاتب هذه السطور، ولكن لا ينفي هذا التذكير وجود علل كبيرة داخل حدود الدول الديمقراطية يتحدث عنها المفكرون الغربيون أنفسهم، وفي مقدمتها طغيان مفعول قوة المال، وبقاء كثير من مظالم الطبقية والعنصرية، ومن شواهدها ساعة كتابة هذا السطور الأزمة بين ذوي الأصول الإفريقية وأجهزة الأمن الأمريكية.

على أن الإساءة الأكبر ناشئة عن دور الدول الديمقراطية الغربية على صعيد العلاقات الدولية، فهي التي تهيمن عليها، وهي التي جعلتها خالية إلى حد بعيد من تطبيق مبادئ الديمقراطية، رغم أن بعض المبادئ -كالمساواة بين الدول- وصل إلى التثبيت كمواد أساسية في ميثاق الأمم المتحدة، ولكن لم يصل إلى التطبيق العملي منذ اللحظة الأولى كما يشهد نظام "النقض/ الفيتو" في مجلس الأمن الدولي، مثله في ذلك مثل "حق تقرير المصير" أو "بطلان اغتصاب الأراضي بالقوة".

صحيح أن "نظام الديمقراطية" مخصص في الدرجة الأولى للعلاقات الداخلية في دولة قائمة، وأن العلاقات الدولية من شأن "القانون الدولي"، ولكن التناقض بين ما يقول به الديمقراطيون وبين الواقع الدولي، ليس شكليا بل هو في تطبيق المبادئ، التي لا ينبغي أن تقف عند حدود "الدولة".

ولئن ميز الباحثون والدارسون بين هذا وذاك، فلا يسري هذا التمييز على عامة البشر، ولهذا نرصد المظالم الساحقة للإنسان باسم دول ديمقراطية، فلا يتوقف النفور عند "صناعة المظالم" بل يصل عند قطاعات شعبية كبيرة إلى درجة النفور من "تلك الديمقراطية" المزيفة.. الازدواجية.. اللاأخلاقية.. اللاإنسانية.. وهو ما يستند إليه بعض الإسلاميين أيضا، عندما يدينون "هيمنة القوة المادية" عالميا، أو تطبيق شرعة الغاب دوليا، وهي تدوس حقوق الإنسان بالأقدام، فهذا ما يؤدي إلى تساقط مصداقية المسؤولين عن ذلك ممن يتحدثون عن الديمقراطية من أجل الإنسان وحقوق الإنسان.

 

يجب من المنطلق الإسلامي:

أن نرفض الظلم في الواقع البشري على المستوى الدولي.. ونعمل على إزالته، أي إزالة إفرازات الاستبداد الدولي والهيمنة بمنطق القوة وشرعة الغاب، والعمل لإعادة الضوابط القيمية والأخلاقية، نظريا وتطبيقا..

وأن نرفض الظلم في الواقع "الشعبي" على مستوى الشعوب والأمم، في واقع وجودها في أوطان متعددة، ونعمل على إزالته، أي إزالة الاستبداد المحلي والفساد بمنطق القوة وشرعة الغاب، والعمل لإعادة الضوابط القيمية والأخلاقية. نظريا وتطبيقا..

من هنا السؤال: إذا فصلنا بين "الواقع العالمي" و"الواقع المحلي"، ألا يمكن في المنهج الإسلامي اعتبار الديمقراطية من وسائل مواجهة الاستبداد والفساد محليا؟

 

إشكالية العلمانيين مع الديمقراطية

لقد وضعتنا الثورات الشعبية وجها لوجه أمام ضرورة التعامل الهادف مع الدعوات إلى "تطبيق الديمقراطية"، والأصل أن يتجنب هذا التعامل توظيف الديمقراطية لتكون "مادة للصراع" بدلا من سعي الجميع للتوافق على قواسم مشتركة، على المستوى الوطني. ولهذه الإشكالية جانب سياسي واقعي وجانب فكري نظري.

قبل اندلاع الثورات الشعبية بسنوات عديدة انتشرت بأقلام مفكرين ودعاة وحركيين ذوي اتجاهات إسلامية كتابات -منها في صيغة مواثيق- تؤكد تبنّي الديمقراطية خيارا في العمل السياسي، وتفاوت ذلك بين اعتبارها مجرد آلية "يجوز" استخدامها في نطاق منظومة قيم ذاتية أو مرجعية ذاتية، وبين اجتهادات فقهية وصلت إلى اعتبارها أفضل النظم السياسية المعاصرة لممارسة السلطة مع ضمان حق الشعوب في اختيارها.

آنذاك، قبل الثورات، وفي خضم ما يوصف بالصراع الإسلامي-العلماني الطويل، تبنى كثير من أصحاب الاتجاهات العلمانية الرد بأساليب محورها اتهام الداعين للديمقراطية من الإسلاميين في نواياهم، أنهم يريدون امتطاء الديمقراطية "فقط" للوصول إلى السلطة ثم "سيعملون" على إقصاء سواهم.

تهمة "نية الإقصاء" تهمة، ورغم ذلك كانت لدى من أطلقها "مسوّغا" للفعل، وهو ممارسة الإقصاء تجاه الإسلاميين، أي ممارسة ذاك الذي يتهمون الإسلاميين بأنهم "سوف" يمارسونه.

ليس خافيا أن الأمر أمر "منطلق فكري" علماني ذاتي صادر عن الشعار المعروف أنه لا سياسة في الدين، ولهذا لن يجدي تراشق الاتهامات في التعامل مع هذه المشكلة، فإنهاء الصراع المنبثق عنها رهن بالعودة إلى "مفاهيم" سليمة لما يعتبر بحكم المصطلحات.

من هذه المصطلحات ما لا يوجد نقطة التقاء فيه:

فكلمة الدين عند أصحاب العقيدة الدينية الإسلامية تعني ما أتى به الوحي الرباني، بينما الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية في نطاقه، دون المساس بما ثبت وحياً من أصول ومقاصد.

أما كلمة الدين عند أصحاب العقيدة العلمانية فتعني نوعا من أنواع ما أنتجه الفكر البشري، ويجب حصره في العلاقة بين الفرد و"قوة إلهية" وفق عقيدته، أما الدين فكله -كسواه من مسارات الفكر البشري- قابل عندهم للتطور والنقص والزيادة.

كل خلاف حول المصطلحات الأخرى فرعي قابل لوضع حد له بقواسم مشتركة، وإن بقي الخلاف الأصلي حول تعريف الدين نفسه، أي مع بقاء الخلاف العقدي بين الطرفين.

يمكن التوافق مثلا حول:

أن السياسة علم متخصص بإدارة الشؤون الجماعية بغض النظر عن "دين" من يمارسها.

وأن السلطة أداة أساسية لممارسة تلك الإدارة.

وآنذاك تأخذ الديمقراطية مكانها مقابل الاستبداد كنظام مفضل لهذه الإدارة.

لا توجد إشكالية بين فريق وفريق عند العودة إلى هذه المفاهيم -بصياغتها المبسطة هنا- إنما نشأت الإشكالية وستستمر عندما يربط كل فريق مفاهيم "السياسة.. والسلطة.. والديمقراطية" وكذلك ما يتفرع عنها، مثل العقد الاجتماعي، والدولة، والدستور، والمجتمع المدني، بمضامين الاتجاه الذي يتبناه هو ما بين محورين كبيرين: عقيدة الوحي وعقيدة العلمانية.

ومن فضل القول تهافت الزعم بأن هذه مفاهيم عامة بشريا وكأن من يعارضها ليس من "البشر".. وكذلك تهافت الزعم أنها مفاهيم "مجرّدة" من الرؤية العقائدية.. فهذا زعم يتناقض مع واقع استخدامها ومضمونه.

إن الذين ينكرون وصف العلمانية بأنها في حكم "عقيدة بشرية"، يضعون عبارتهم "لا سياسة في الدين" في موضع المقدسات، ومن يخالفهم، يقصونه عن "المشاركة" في سياسة الدولة وسلطتها، بل وما يتجاوز ذلك.. وهذا أشبه ما يكون بأسلوب "التكفير" العقدي العشوائي المرفوض جملة وتفصيلا.

إن مسار التحرك الانقلابي على مسار الثورات، يشهد على أن هذا السلوك يبلغ عند بعض من ينادون بالديمقراطية حدا أخطر من ذلك، وهو "التحالف" مع استبداد عسكري انقلابي غير مشروع، ضد من تسفر انتخابات ديمقراطية عن نجاحهم من أصحاب الاتجاه الإسلامي، لإنهم إسلاميون.

 

إن من المسيئين للديمقراطية، فريقا من العلمانيين لا يجردها عقائديا، بل يربطها بالعلمانية وبمنظومة قيم غربية ظهر الفساد في نتائج تطبيقاتها في حياة البشرية وحتى في البيئة الطبيعية، وهذا أحد الأسباب الحاسمة فيما يواجهه المسيئون من رفض "شعبي" قبل رفض "الاتجاه الإسلامي"، فالرفض هو لهذا الربط، وليس لعملية انتخابات واستفتاءات وفصل سلطات وضمان حقوق وحريات، وسيادة القانون واستقلال القضاء.. أي ليس لجوهر ما تقول به الديمقراطية.

وإذا كان أحد الطرفين يقول بوجوب عدم إكراه "المواطن الفرد" على ما لا يريد، فالطرف الآخر يقول بعدم الإكراه على الإطلاق.. وهو ما تقتضيه الآية الكريمة {لا إكراه في الدين}.

. . .

سيادة الإرادة الشعبية

مرة أخرى:

لقد وضعتنا الثورات الشعبية وجها لوجه أمام ضرورة حل "إشكالية" التعامل مع الديمقراطية، بغض النظر عن تعدد التوجهات العقدية، ولعل مما "أطال الطريق" غياب التوافق في هذا الميدان.

إن العنصر الحاسم على هذا الصعيد هو التحاكم إلى الإرادة الشعبية في اختيار مرجعية القيم فوق الدستورية، وفي اختيار السلطة، فجميع ما يلي ذلك هو من التفاصيل.

يمكن أن يكون النظام الديمقراطي نيابيا أو رئاسيا، وجمهوريا أو ملكيا، بل يمكن أن يقوم في "إمارة" أو "دوقية"، ولكن تبدأ الإشكالية بالظهور عند إثارة الخلافات حول "الإضافات" الصادرة عن توجه عقدي، إسلامي أو علماني، ومن هنا انتشر على هامش مسار الثورات التركيز على كلمة "المرجعية"، فإذا اقتصر المقصود بها على "مرجعية الإرادة الشعبية" دون إضافات، زال الخلاف، ولكنه يتحول إلى عقبة.. أو صراع.. عندما يقترن الحديث عن الإرادة الشعبية بأسلوب "الوصاية" المرفوضة:

أي عندما يقول بعض الإسلاميين: شريطة عدم خروجها عن ثوابت الإسلام (أحكام الشريعة مثلا..) أين بقي الاختيار الشعبي إذن، فيما يقتضيه النص القرآني {إما شاكرا وإما كفورا} {إنما عليك البلاغ}

أو عندما يقول بعض العلمانيين: شريطة عدم خروجها عن ثوابت العلمانية (لا سياسة في الدين ولا أحزاب تتجاوز ذلك مثلا..) أين بقي الاختيار الشعبي إذن في مقولة "الشعب مصدر السلطات"؟..

‎في الحالتين يتحول الشرط الإضافي إلى "إفراغ" وسيلة الاحتكام للإرادة الشعبية من مضمونها ومغزاها ومفعولها.

وهذا -إذا أمعنا فيه- شرط يعبر عن عدم الثقة بالنفس، أي بالقدرة على العمل الفكري والسياسي القويم، لدفع غالبية شعبية للقبول الطوعي بما يدعو إليه الطرفان.. مع عدم إقصاء الآخر من خلال هاتين الصيغتين كمثال على سواهما.

 

إن في مقدمة المطلوب منا جميعا لتحقيق الهدف الثوري المحوري: تحرير الإرادة الشعبية من أجل التغيير، هو آليات فاعلة، تمنع انتهاك كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته، ومن ذلك الآليات الديمقراطية التي لا تشترط تغييب التعددية، ومع تجريدها مما تعرضت إليه حتى الآن.. ولا تزال.. من إساءات تطبيقية عالميا من جانب الدول الديمقراطية، وإساءات فكرية من جانب فريق من العلمانيين المعاصرين، فضلا عن تأويلات لا أصل لها من جانب فريق من الإسلاميين.

نبيل شبيب