رأي – التسلط الأسدي أخطر حراس نكبة ١٩٤٨م

تحرير الإرادة الشعبية هو التحرر من صانعي النكبات وإفرازاتها تمزقا وتخلفا وضياعا وهوانا

70
حافظ الأسد بشار الأسد

ــــــــــ

من جديد يعيدنا المسجد الأقصى المبارك وأحداث القدس وفلسطين إلى الارتباط الوثيق بين قضيتنا المصيرية المحورية ومسار الثورات الشعبية العربية.

إن التحالف الدولي والإقليمي الواسع النطاق لتقويض ما تصنعه الثورات الشعبية، لا سيما في سورية، يرتبط ارتباطا مباشرا ووثيقا بالحرص العدواني المضاد، لإنقاذ ما صنعته نكبة ١٥ / ٥ / ١٩٤٨م، وهي التي اعتدنا على اختزال وصفها بالنكبة الفلسطينية، مع أنها في الواقع المشهود هي النكبة الكبرى في العصر الحديث لمجموع المنطقة بوجهيها العربي والإسلامي، بل نكبة كبرى بحق الإنسان في عالمنا وعصرنا.

وإن الثورات الشعبية العربية عموما والثورة الشعبية في سورية تخصيصا تصنع في مجرى التاريخ بداية تحول جذري غير مسبوق، لكسر حلقات مسلسل النكبات، التي يؤرخ لبدايتها بسنة ١٩٤٨م، ثم تتابعت النكبات التالية، عسكريا في سنوات ١٩٥٦ و١٩٦٧ و١٩٧٣م، وسياسيا عبر محطات “قمة فاس”، و”كامب ديفيد”، و”مؤتمر مدريد” و”نفق أوسلو”، وما كان لهذه النكبات وسواها من تخلف وفرقة وضياع وهوان أن تقع لولا أنظمة استبدادية، معظمها من إنتاج النكبة الأولى، لتمارس تطويع الإرادة الشعبية للتبعيات الأجنبية.

الآن فقط تحركت الإرادة الشعبية عبر الثورات فصنعت بداية التحرر من صانعي النكبات وإفرازاتها تمزقا وتخلفا وضياعا وهوانا على كل صعيد.

وقد كان العهد الأسدي الإجرامي في سورية جزءا “عضويا” من مسلسل النكبات وإفرازاتها، منذ البداية، عبر محطات عديدة، أهمها:

المحطة الأولى:
في فترة الوحدة بين مصر وسورية (١٩٥٨-١٩٦١م) وظهور “خطر العصر الذهبي للقومية العربية” في عهد جمال عبد الناصر، تشكلت في القاهرة “المجموعة العسكرية السرية” من خمسة أفراد من سورية، أبرزهم حافظ الأسد وسليم حاطوم ومحمد عمران، وكانت معادية للوحدة ابتداء، أي قبل ظهور وطأة السلطة الاستبدادية والاستخباراتية الناصرية، ففتحت تلك “المجموعة” المدخل الأول لسلسلة الانقلابات التالية في سورية، على طريق ترسيخ التسلط الهمجي الأسدي لاحقا..

المحطة الثانية:
في حرب ١٩٦٧م كان أول ما سدّده حافظ الأسد سلفا من فاتورة ثمن الحماية الدولية لدوره الإقليمي من بعد هو تسليم الجولان دون قتال للعدو الإسرائيلي، كما تشهد على ذلك الأدلة الواردة -مثلا- في كتاب “سقوط الجولان” بقلم خليل مصطفى، أحد الضباط القياديين للمخابرات في القنيطرة آنذاك، ومما ذكره في كتابه:

(كان القادة أول الفارين، وأول من تبعتهم وحدات الدبابات، وخاصة اللواء السبعين، بقيادة العقيد عزت جديد، والكتائب التي يقودها كل من المقدم رئيس علواني والنقيب رفعت الأسد)

(ثم.. صدر البلاغ الكاذب، من إذاعة حزب البعث في دمشق، يعلن سقوط القنيطرة بيد قوات العدو، ويحمل توقيع وزير الدفاع -اللواء حافظ الأسدـ ويحمل الرقم ٦٦. وكان هذا البيان، هو طلقة الخلاص، سددتها يد مجرم إلى رأس كل مقاومة استمرت في وجه العدو، وعلم الجميع أن لا أمل في متابعة القتال، لأن القيادة البعثية قد أنهت كل شيء، وسلمت للعدو الإسرائيلي مفاتيح أحصن وأمنع قطعة من أرض العرب، بل وتكاد تكون من أكثرها غنى ووفرة بالكنوز الدفينة من آثار ومعادن وخصب تراب، ووفرة مياه)

(ووزير الدفاع اللواء حافظ الأسد الذي وقع بلاغ سقوط القنيطرة ماذا حل به؟ لقد رقي إلى رتبة فريق، واستمر في وزارة الدفاع، وعزز سلطته وسيطرته على الجيش، فهل هذا كله عقوبة على دوره في نكبة الجولان؟)

وينقل الكاتب عن كتاب “كسرة خبز” بقلم سامي الجندي من البعثيين، وكان سفيرا في باريس، قول الأخير:
(فوجئت لما رأيت على شاشة التلفزيون في باريس، مندوب سورية في الأمم المتحدة الدكتور جورج طعمة يعلن سقوط القنيطرة، ووصول قوات إسرائيلية إلى مشارف دمشق، والمندوب الإسرائيلي يؤكد أن شيئا من ذلك لم يحصل).
المحطة الثالثة:

أبرز صناع النكبة العسكرية الكبرى سنة ١٩٦٧م وصل إلى الانفراد بالسلطة سنة ١٩٧٠م عبر الغدر الانقلابي المتتابع برفاق دربه، ليتابع دوره في صناعة النكبات، ولم يكن قد ظهر مشروع الهيمنة الإيراني المنافس إقليميا للمشروع الصهيوني، فكان تعزيز دوره بتصوير الهزيمة العسكرية سنة ١٩٧٣م نصرا له وللسادات صانع نكبة “كامب ديفيد” السياسية ١٩٧٨م، فأغلق جبهة الجولان بوجه أي عمل فدائي للتحرير.

المحطة الرابعة:
التحالف مع المشروع الإيراني فور ظهوره مع “ثورة إيران” سنة ١٩٧٩م، ليقضي في الثمانينات الميلادية على المقاومة الفلسطينية في لبنان لحساب الميليشيات المرتبطة بالمشروع الإيراني.

المحطة الخامسة:
سنة ٢٠٠٠م توريث دور الإجرام بحق فلسطين والمنطقة، لبشار الأسد، ليتابع الدور نفسه: تحويل شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” إلى سلطة طائفية تبذر بذور حقبة جديدة من الصراعات والنزاعات، فمن دونها لا يمكن للمشروعين الصهيوني والإيراني أن يتقاسما النفوذ في المنطقة العربية والإسلامية.

. . .

كان بعضنا يفسر نكبة ١٩٤٨م أنها من نتائج الحقبة الاستعمارية الغربية.
وصار بعضنا يفسر نكبة ١٩٦٧م بهزيمة التيار القومي-الاشتراكي بعد حقبة ذهبية.
إنما كانت النكبتان وجميع إفرازاتهما دون استثناء، تفرقا وتخلفا وضعفا وهوانا من صنع الأنظمة الاستبدادية الطاغوتية التي صادرت الإرادة الشعبية وانتهكت الحريات والحقوق وأهدرت الإمكانات الذاتية دون انقطاع.

. . .

إننا على بوابة عصر جديد:
الآن فقط فتحت الانتفاضات في فلسطين ثم الثورات الشعبية العربية بوابة استعادة زمام صناعة القرار للجهة الوحيدة التي تملك الحق الأصيل في صناعته: إرادة الشعوب.
الآن فقط بدأ يظهر الخطر الحقيقي على استمرار تحالف “الهيمنة الأجنبية” على الأوطان مع اعتقال “الاستبداد المحلي الفاسد” للإنسان، وجميع طاقات الإنسان.
الآن فقط انطلقت عملية تحوّل تاريخي واسع النطاق في اتجاه تحرير الإنسان والأوطان.

إننا على بوابة عصر جديد لا يستهان بما يعنيه اقتحامها ثوريا، وبالتالي ما يتطلبه من ثمن وجهود متواصلة.
لا يمكن لمشاريع الهيمنة الأجنبية، الدولية والإقليمية، أن تستمر معتمدة على الطواغيت الصغار في الأنظمة الاستبدادية، إذا ما تحررت إرادة الإنسان، وتحررت الأوطان وطاقاتها الكبرى.
ولهذا انطلقت الجهود المضادة للثورات الشعبية العربية جميعا.
ولهذا كان التركيز الدولي الأكبر على ثورة شعب سورية، مع الاعتماد على ركائز التبعية المحلية والإقليمية لصالح الهيمنة الأجنبية.

. . .

يجب أن نضع المشهد الثوري في عمق أبعاده الجغرافية والتاريخية والمستقبلية:
كل حقبة تحول تاريخي بهذا الحجم وهذه الأبعاد كانت تربط الوشائج ما بين شعوب المنطقة وتفجر طاقاتها من جديد.
ذاك ما يرمز إليه العز بن عبد السلام عندما انتقل من دمشق إلى القاهرة فتابع صناعة الشروط الأولية لمواجهة الغزوات الصليبية.
ويرمز إليه سليمان الحلبي من سورية في ثورة الأزهر على الغزوة الفرنسية.
ويرمز إليه عز الدين القسّام من جبلة بسورية في جهاده أثناء الغزوة البريطانية فالصهيونية بفلسطين.
والقائمة طويلة.
لهذا أيضا لا ينبغي اليوم أن نفصل بحال من الأحوال بين قضايا المنطقة، في فلسطين وفي الأقطار التي شهدت وتشهد مخاض الثورات الشعبية.
إن نكبة فلسطين سنة ١٩٤٨م لم تقف بنتائجها وآثارها عند أية حدود جغرافية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية أو اقتصادية ومعيشية.
وإن منحدر النكبات لم يقتصر في أي سنة عبر العقود الماضية على أي قطر من أقطار المنطقة دون سواه.
وإن كل انكفاء أمام مشاريع الهيمنة الإقليمية والأجنبية، لا يمكن أن يتركز بعواقبه الوخيمة على بلد دون بلد وشعب دون شعب.
إن المشهد الثوري يحمّلنا عبر أبعاده الجغرافية والتاريخية والمستقبلية أمانة كبرى، أمانة تحقيق انتصار الإرادة الشعبية الثائرة.
إن انتصار الإرادة الشعبية في أي بقعة، لا سيما في سورية، يعني انتصار الإرادة الشعبية في كل أرض لا تزال ترزح تحت نير الاستبداد والفساد والتبعية المحلية والهيمنة الأجنبية.

نبيل شبيب