تحت المجهر – التأسّي بالإبداع لا التقليد

ليست الثورة ثورة على هيكل سلطة استبدادية بل هي على كل ما أدّى ويمكن أن يؤدّي مجددا إلى استبداد وفساد وتجزئة وتخلّف

48

لا بد في السؤال عن مآلات ثوراتنا في الربيع العربي من أن ننتزع أنفسنا من النظرة المحصورة في الحدث التفصيلي.. مثل استبدال سلطة بسلطة، ووضع أنفسنا في إطار البعد التاريخي الأوسع للحدث وفق ما يبدو من معطياته حاليا.. فنحن نعايش حركة تغيير تاريخي جذري وبعيد المدى.

وإذا كانت عقدة المشهد الراهن من مجرى التغيير تؤكد أن عنصر الإنسان هو محور عملية التغيير الجارية.. بإيجابياتها وسلبياتها، فلنتساءل على ضوء ذلك: أين الخلل؟ أو لنتساءل كيف نعالج الخلل على مستوى "الإنسان" صانع الثورات؟

يوجد من ينطلق من مراجعة ثورات مضت كالثورة الفرنسية، فيطالب بظهور روسو وفولتيير لتتخذ الثورة مسار النصر.. ويحرص آخرون على انتمائنا الحضاري فينتظرون ظهور صلاح الدين.. وأكثرنا ينطلق بحمد الله من واجب التأسي بمحمد صلى الله عليه وسلم.

لن يظهر أفذاذ العصور الماضية مجددا.. فلنأخذ بما يأخذ به أغلبنا بشأن القدوة والأسوة، وسنجد أنه لا يزال يسيطر علينا عنصر التقليد الشكلي وأننا نعتبره هو واجب الاقتداء والتأسي، ثم لا نفعل ذلك أو نحاول ونخفق.. والواقع أن التقليد الشكلي المجرد مستحيل موضوعيا.

لعل المثال الاستفزازي يوضح المقصود: هل يمكن التأسّي عسكريا بحفر خندق في مواجهة البراميل المتفجرة في الحرب الهمجية ضد شعب سورية؟ لا أحد يقول ذلك بطبيعة الحال، ولكن كثيرا ما نمارس ما يعبر عن ذلك في ميادين عديدة.

نحن مطالبون في إطار التأسي الواجب، أن تكون لدينا القدرة على إبداع الوسيلة المناسبة في عصرنا وعالمنا لمواجهة ما نتعرض له، في مختلف الميادين. هكذا نتأسّى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه عندما أبدعوا الوسائل المناسبة لمواجهة ما تعرضوا إليه في عالمهم وعصرهم. 

نحن مطالبون بالقدرة الذاتية على التعامل الآن مع الظروف القائمة والطارئة الآن.. المحلية والإقليمية والدولية، على غرار جوهر القدرة الذاتية وليس شكلها التطبيقي، في تعامله صلى الله عليه وسلم وتعامل صحبه رضوان الله عليهم مع الظروف التي كانت قائمة وطارئة حولهم آنذاك.

إنّ جوهر التأسي بالرعيل الأول.. هو الإبداع لا التقليد. يعني ذلك فيما يعنيه -إذا أردنا صادقين تطبيق القرآن الكريم على واقعنا.. كما طبقوه على واقعهم- أنه لا بد لنا من استيعاب واقعنا المعاصر هذا، مثلما استوعبوا واقعهم ذاك.. وإلا يكون تطبيقنا للقرآن الكريم خاطئا، وهذا المعنى يعبر عنه الأصوليون بكلمة إسقاط النص على الواقعة.

مثال استفزازي آخر ذو صلة بمناهج العمل الإسلامي للتوضيح.

نردّد قوله تعالى {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}.. فنتحدث عن ضرورة تكوين الفئة القليلة المؤمنة العاملة التي تسير على خطى الفئة الأولى في العهد المكي.. أو القليلة عدديا التي شكلت مجتمع المدينة.. ولكن: هل تكمن مشكلتنا المعاصرة هنا فعلا، أم فيما يعبر عنه الحديث الصحيح حول تعليل ما نحن عليه من تقهقر بحالة غثاء السيل؟ 

نحن ما بين خمس سكان العالم وربعه، ولكن كغثاء السيل.. فلا يحلّ استيعابنا لآية "الفئة القليلة" وتطبيقها مشكلتنا مع واقعنا، فلسنا قلّة تطلب النصر على كثرة في معركة قتالية تتحدث الآية الكريمة عنها، بل نحن كثرة.. كثرة.. تحتاج إلى انتشال نفسها من حالة غثاء السيل إلى حالة الإنسان الفاعل في عالمه وعصره، ليظهر من بيننا آنذاك من يقوم بدور الريادة والقيادة والنخب الفاعلة.

عندما ننظر في المناهج بهذا المنظور نجد:

من يفكر بإشكالية صناعة القلّة المتميزة، يتساءل عن قيادات متميّزة.. وقد يركز عليها، وهو عمل مفيد وقد يحقق حصيلة محدودة، ولكن إذا فصلنا عن ذلك عن إشكالية "غثاء السيل" فقد نصنع ما ترمز إليه كلمة الشيخ والمريد، والزعيم والأتباع. وعلى جميع الأحوال لا يكفي ذلك دون إدراك أن القيادات المتميزة لا تظهر من قلب غثاء السيل، فلا بد من عمل أوسع نطاقا بكثير.. كي تظهر الكثرة الكافية التي تتحرك "مع" القيادات وليس "وراءها" كالإمّعات، فالمطلوب هو كثرة على استعداد للسير الواعي والعمل الواعي والارتقاء عبر العمل إلى مستوى القيادة.

لم يتبدّل دورنا الذاتي في صناعة التغيير، ويجب أن يتبدّل، للتعامل الأفضل مع أنفسنا، بحيث لا نبقى على ما نحن عليه، وبحيث لا نغيّر ما بأنفسنا في اتجاه الأسوأ، كيلا يغيّر الله نعمةَ فتحِ بوابة المستقبل عبر ثورات الربيع العربي.. فآنذاك نحمل المسؤولية في الدنيا والآخرة، عن إغلاق هذه البوابة في وجوه أنفسنا نحن، ولن تغلق بوابة المستقبل، إنما يسري آنذاك أن يأتي الله بقوم آخرين يتابعون الطريق.

. . .

إن جلّ ما نستطيع الجزم به هو الصورة الإجمالية.. وهي أننا أصبحنا منذ أعوام على بوابة تغيير جذري شامل، فهو مغزى الثورات العربية وما يتصل بها إقليميا ودوليا، وهو مآلها، وهو المشهد الإجمالي الكبير بعناصره الجغرافية والبشرية وأبعاده السياسية والاجتماعية، وهو متطاول في بعده التاريخي الزمني أيضا.

والمغزى: ليست الثورة في أي بلد من بلدان الربيع العربي أو في سواها، ثورة على هياكل سلطة استبدادية إن سقطت انتهى الاستبداد بل هي ثورة على كل ما أدّى ويمكن أن يؤدّي مجددا إلى استبداد وفساد وتجزئة وتخلّف، وقابلية التعايش مع ذلك كله والركون إليه.

الغالبية العظمى من الاتجاهات والتنظيمات المتعددة انطلقت لتواكب الثورة في سورية وسواها بما حمله كل منها على حدة، من حقبة ما قبل الثورة.. وليس بما حملته الثورة لها من أجل مستقبل آخر.

يسري هذا على العلمانيين والإسلاميين.. على القوميين والليبراليين.. على الحداثيين والسلفيين.. وغيرهم، والمفروض أن تحرر الثورات هذه الاتجاهات والتنظيمات جميعا من نفسها وما نشأت عليه، وليس من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية فحسب، ولكن أصبح كل منها يعمل من منطلق تحرير نفسه من التلاقي مع الآخر على أرضية مشتركة، بل بات يستعدي الآخر.. متوهما أنه سينتصر وحده، وبات يختزل انتصار الثورة في انتصاره تحديدا.

لا حاجة للحديث طويلا عما نعرفه ونرصده جميعا، من كيد روسي أو إيراني أو أمريكي أو غربي، ولا عن بوائق بؤر استبداد وفساد تلبس بزة عسكرية أو جلبابا دينيا أو روبا قضائيا. هذا حديث لا ينتهي.. لأن الكيد متواصل ولن ينتهي، وتتركز الفائدة في الحديث عنه عندما يكون في المكان والزمان المناسبين لتدبير إجراءات تطبيقية وخطوات عملية مضادة.

ومثل ذلك الحديث عن بلطجية وشبيحة وأمراء حرب ولصوص ثورة وسياسات عقيمة وتنظيمات متعصبة لنفسها، وحتى عن آلام المعاناة الإنسانية الهائلة المتراكمة.. نحن في جميع ذلك أمام تفاصيل المشهد، أمام إصابات مرضية، بعضها وليد الاستكبار وبعضها وليد جذور التخلف الذاتي، والإصابات لا تعالج بالشكوى بل بالعمل الهادف بشروط التأهيل للعلاج.

ولكن ماذا عمّن ينسب نفسه للإخلاص في العمل من أجل تحرير إرادة الشعوب، باعتبار ذلك هو الهدف الأول من الثورات؟

إن ما نحتاج إليه من عمل جماعي على هذا الصعيد لا يتحقق دون تمكين أنفسنا أفرادا من ممارسة العمل الجماعي حقا، العمل الفاعل المثمر الذي يجمع المختلفين فيكمل بعضهم بعضا، وليس عمل المتجانسين الذين يتحركون طابورا خلف من يحركهم، وقد يطربون لنغم واحد أو حداء واحد.. ولكن غالبا ما يكتشفون بعد أن يشتعل الشيب في الرؤوس أنهم ما يزالون حيث كانوا قبل عقود وعقود.

أعاننا الله على ما نحن فيه، ووفقنا إلى ما يرضيه. 

نبيل شبيب