تأملات – مصيدة التبعية

التبعية حصيلة سلسلة تراكمية من تقويض القدرات الذاتية والاعتماد نتيجة عقدة نقص على عدو خلف قناع صديق

50

من كان ينتظر من مشاورات أمريكية داخلية تبدلا في التعامل الدولي مع ثورة شعب على واقع استبدادي محلي هو جزء من الواقع الدولي الاستبدادي.. خاب أمله، وتتكرر خيبات الأمل مع آلام المعاناة حتى نستوعب جوهر "معركة كبرى" تدور رحاها منذ عقود وعقود، وبدأت جولتها الحالية بحريقٍ التهم جسد بوعزيزي في تونس.. وحتى نتصرف بموجب هذا الاستيعاب على أرض الواقع. ولهذا لا حاجة هنا إلى الخوض في "تفاصيل" ما قال مؤخرا فلان وفلان من مسؤولين دوليين وإقليميين أو ما يردده من تحت أنقاض بقايا نظامه من لم يعد يملك من أمره شيئا، فهو أقل من "بيدق" في معادلة الهيمنة والتبعية السارية المفعول في عالمنا منذ أكثر من قرن، وهي التي تحدد وجوده أو نهايته، وهي محور الحديث هنا قبل طرح الأمثلة على بعض الآثار المرئية لمفعول تلك المعادلة على أرض الواقع فيما نعايشه على خلفية مسارات "الثورات الشعبية".

. . .

من أهم ما كشفته الثورات الشعبية في سورية وفي أخواتها أن لمعادلة "الهيمنة والتبعية" مفعولا بالغ التأثير في اعتقال الإرادة السياسية وقهر الإرادة الشعبية وتوجيه ضربات عدوانية لإنجازات ثورات التحرير والتغيير، تستهدف إغلاق "بوابة النهوض" بعد أن فتحتها "ثورات الربيع العربي"، كما تستهدف تحويل المسارات الثورية نفسها إلى فوضى هدّامة للطاقات الذاتية، "خلاقة" لمزيد من أسباب الهيمنة والتبعية.

ليست التبعية سياسة بل حصيلة سلسلة تراكمية من تقويض القدرات الذاتية والاعتماد على الوقوف عند عتبات عدو صفيق "صديق".

أوضح تجلياتها التبعية السياسية، أي رهن الإرادة السياسية للأنظمة في دول "مستقلة!" للأجنبي، فلا تتخذ قرارا إلا إذا "سُمح" لها به، وإن فعلت دون "إذن" تتراجع تحت "الضغوط الأجنبية"، وإن تمردت يوجد ما يكفي من وسائل التأديب لها والتحذير لمن قد يحدّث نفسه بفعل شيء مثل ما فعلت.. هذا بصورة عامة وإن بدأت حديثا محاولات أولى للخروج من أقفاص التبعية.

على أعلى مستويات هوان الممارسات السياسية في بلادنا لا تنقطع التعليلات أو التبريرات المخادعة، كقولهم إن كل دولة عموما مرتبطة بالعلاقات مع سواها، أو قولهم إن هذا أقصى ما نستطيع صنعه بموجب "فن الممكن"، وغير ذلك من أقاويل تخلط الصواب بالخطأ.. فالمهم هو الحصيلة، والحصيلة هي تصرفاتهم فيما يمثل "شارعا أو منحدرا باتجاه واحد"، فالأطراف الأخرى لا تصنع ما يصنعون، فهم أتباع والآخرون "أسياد أنفسهم" وإن تفاوتت الدرجات.. والسؤال:

أليس "القرار وتنفيذه" في الأصل هو جوهر ما يبرر وجود أي "قيادة" سياسية في منصب ما في أي بلد؟

ما جدوى بقائهم إذن وهم تابعون لإرادة أجنبية، هم أدواتها لانتقاص السيادة الذاتية لشعوب يمسكون بزمام السلطة رغما عنها، ولانتهاك استقلال أوطان يتصرفون بمقدراتها ضد مصالحها؟

أين الفارق بين ممارساتهم السياسية التبعية وبين "العمالة الأجنبية"؟

 

التبعية السياسية أظهر للعيان من سواها، ولكنها نتيجة لتبعيات أخرى أمنية واقتصادية وصناعية ومالية وزراعية واجتماعية وتقنينية وحتى ثقافية ولغوية.. ولهذا لا يصح أن نستهين بأي شكل من أشكال "صناعة التبعية" في النفوس، بدءا بألعاب الأطفال انتهاء بصفقات استيراد السلاح بشروط.

مثال من مصر: "تدمير شخصية الإنسان" عبر إنتاج "سينمائي وثقافي" ضخم، و"اعتقال الوطن وأهله" عبر اعتماد "مستشارين إسرائيليين وأمريكيين" حوّلوا مصر من موقع الصدارة عالميا في زراعة القطن والقمح -وهما عماد أمن الملبس والغذاء- إلى عالة على سواها.. هذا مع ترسيخ أسباب التبعية في ميادين أخرى كالعسكرية والفكرية والمالية.

مثال آخر من الإمارات: هي في مرتبة متقدمة عالميا من حيث "وسطي الدخل الفردي"، فكان اعتماد "مستشارين أجانب" في قطاع التخطيط العمراني، حتى أصبح السباق على بناء "أعلى الأبراج في العالم" سباقا على الترف دون مردود.. فلا يستغرب من الأتباع ضخ قسط كبير من واردات "الثروة الشعبية الوطنية النفطية" في تمويل حملات مضادة لتحرير الإرادة الشعبية في مواطن "شقيقة"، وهذا من قبل اندلاع ثورات "الربيع العربي" ومن بعد.

ويمكن ذكر مزيد من الأمثلة ولا تسمح بذلك ضرورات الإيجاز.

هي هيمنة تعبر عن عقدة "فرض السيطرة على الآخر"، وهذه في عالمنا بذرة أشد سوادا من سواها وإفسادا لمسار الحضارة المادية الحديثة، وهي تبعية في بلادنا تعبر عن "عقدة النقص"، وهذه بذرة أشد سوادا من سواها وإفسادا للفتك بالشعوب والأوطان حتى أصبح بعض "أبناء جلدتنا" يؤدون مهمة العدو بسلخ جلود الأحرار في أوطانهم، ومهمة العداء للثائرين، الذين تشمل ثوراتهم واقعيا تحرير "الزعماء المحليين" من أغلال العبيد على عتبات "الهيمنة الدولية" الإجرامية المعاصرة.

. . .

من "مسار الحدث" إقليميا:

يقولون: توجد "أسباب موضوعية" وراء إمساك واشنطون بتلابيب صناعة القرار لدينا.. ولم تسقط تلك الأسباب "الموضوعية!" فجأة من السماء، بل صنعتها ممارسات التبعية حتى بلغت درجة فاحشة نعايشها، مثل احترام "الفيتو الأمريكي" لحظر مضادات تردع الطائرات الحربية عن مواصلة التقتيل والتدمير.. هذا ويعلم جميع الأطراف -الإقليمية أيضا- أن عدم انتصار الثورة يوجد أوضاعا أفظع على الشعب مما سبقها، وأشد خطورة على "صناع القرار" الإقليميين أنفسهم، بمن فيهم من يستجيب طوعا وكرها لفيتو الحظر الأمريكي ذاك!

لولا وصول منحدر "التبعية" إلى قعر سحيق لما كان هذا "الخنوع" الانتحاري لقرار يصيب بعواقبه حتى المصالح الذاتية المحضة للأنظمة المعنية في الصميم، الآن ومستقبلا.

 

من "مسار الثورة" داخليا:

من موروث الاستبداد الطويل نشأة نسبة كبيرة من أهلنا على وهم يقول إن النصر معقود على وجود قوة أرضية من وراء الفئة العاملة لإظهار الحق على الباطل، ولم يصل انتشار التربية الإسلامية إلى استيعاب النصوص وتطبيقها في العهد النبوي والالتزام بمقتضاها، إذ يؤكد انتصار الحق رغم أن الإسلام بدأ بفرد، ثم فئة قليلة، ثم جماعة ودولة صغيرة، في عالم بدأ بعداء مستحكم للدعوة الوليدة، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية وفق التعابير الحديثة، ولا نجهل كيف كانت موازين القوى آنذاك.

إن "روح التبعية" في كنف الاستبداد والاعتقاد بأن النصر معقود على دعم قوة خارجية، هو ما صنع التبعية في واقع الثورة، فحققت المساومات على التمويل والسلاح أغراضها، ومنها الفرقة بين أصحاب القضية المشتركة، والتزام الثائر بخطوط حمراء وتحديد أولويات من جانب "طرف مهيمن".. بعيدا عن منطلق ثورة شعبية حددت أهدافها عفويا، وحددت معاييرها من خلال هتافات ولافتات عفوية أيضا، وكان محور ذلك كليات كبرى ووحدة شعب واحد في وطن مشترك، والاعتقاد الجازم "ما لنا غيرك يا ألله".

. . .

من أراد متابعة الطريق نحو الحرية والكرامة والعدالة فليعلم:

لم تتبدل المعطيات المحلية إجراما والمعطيات الإقليمية تخلفا، والمعطيات الدولية هيمنة عدوانية..

ولم يتبدل أيضا ما تحتاج إليه الثورة الشعبية في سورية -وفي أخواتها أيضا- عمّا كان في اللحظة الأولى لانطلاقة ما نسميه "الربيع العربي".

البداية.. ثورة على النفس، والإعداد ببذل المستطاع، أما الوعد بالنصر فهو كما كان منذ تحرك الشعب دون قوة مادية ودون سند من قوة دولية أو إقليمية خارجية فكسر جبال جليد نصف قرن من الموات خضوعا تبعيا لاستبداد فاسد همجي مهترئ ولعلاقاته التبعية الخارجية منذ نشأته الأولى.

نبيل شبيب