تأملات – لعلهم يرشدون

كم ذا ننتظر أن يجيب رب العزة دعاءنا في عالمنا الافتراضي، ونحن لا نستجيب إلى "دعوته" في عالمنا الواقعي

42

لا يتسرب إلى قلب المؤمن ريبة.. رغم ذلك بدأ ينتشر في بعض أوساطنا تساؤل مريب: كثر الدعاء فعلام لا نلمح معالم الاستجابة؟ بل بدأ بعضنا يؤوّل ويقول: إن الله يستجيب متى شاء لمن يشاء، وقد تكون الاستجابة يوم القيامة، فكأنه يقول لمن يعانون ويألمون: لا تتسرعوا وتتبرّموا بل اصبروا حتى الموت!

هل يسري هذا فعلا على موقع الدعاء في حياة العبد المؤمن؟

لا يخوض هذا القلم مع الخائضين من مدخل فقهي، ولعل من أهل العلم -أو أهل الذكر مع العلم- من يبادر إلى تصحيح ما يراه يستوجب التصحيح في السطور التالية، وهي لا تشكك في دعاء أحد من المؤمنين المخلصين العاملين، فلا أحد يشق عما تكنّه الصدور ولا يملك أحد صلاحية تصنيف البشر، إنما هي محاولة الإسهام في فهم ظاهر الأمور بين أيدينا وأمام أعيننا، للتعامل الأصوب معها.

. . .

في مواكبة التحرك العدواني العنيف المضاد لإرادة الشعوب الثائرة، انتشر الشعور شبه المكتوم حول أدعية لا تنقطع وغياب معالم الاستجابة، وهي التي ننتظرها وفق قوله عز وجل

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان…}

ثم إن غالب دعائنا هو لكشف الغمة والبلاء عن المظلومين، ونعلم أن لا حجاب بين دعوة المظلوم ورب العزة، فكأننا نشكو: لا استجابة.. رغم "دعائنا" كما أمر، فأين الخلل؟

بعضنا يدعو ويكرر ويسهب ويطيل.. بينما "يُروى.. والله أعلم" عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وهو ما بين المنجنيق والنار (علمه بحالي يغنيه عن سؤالي) وأصبحت النار خلال لحظات بردا وسلاما. والسؤال: أليست قوة اليقين لدى "من يدعو" أهم من دعائه قصيرا كان أم طويلا؟

بعضنا يتقن صياغة الدعاء متتابع الإيقاع مسجوع القوافي.. ونتذكر ما ورد في السيرة عن دعوته صلى الله عليه وسلم يوم بدر، عندما ابتعد عن القوم وتوجه إلى القريب المجيب، فدعا وألح في الدعاء، وما نقل الرواة سوى عبارة أو عبارتين، وقد استجيب الدعاء؟! والسؤال: أليس الإعداد قبل الدعاء هو الأهم من "الصياغة"؟

كما أن بعضنا حريص على وصول دعائه إلى أكبر عدد من "خلق الله"، ويلجأ فيما يلجأ إلى (النسخ واللصق والنشر) وقد لا يصل إلى من يعانون، ما داموا لا يملكون الحواسيب والجوالات وهم منشغلون بالبحث عن الماء والغذاء والدواء والوقود عن متابعة الشاشات آناء الليل وسبحا من النهار.

إنما يوجد أيضا من يدعو منفردا بنفسه بين يدي ربه، فيردد دعاءه للبصير السميع، في بضع كلمات بسيطة صادقة، بعد المغيب أو في لحظات السحر، وتكون الإجابة إن شاء المحسن المجيب.

. . .

معذرة مرة أخرى..

الكلام في هذا الموضوع عبء ثقيل على من يكتب هذه السطور، ليس لأنه موضوع شائك، بل لأن ما اعتدنا عليه أصبح ثقيلا لا يسهل علينا التخلص منه، وعلى أي حال يوجد ما هو أهم من هذا الكلام عن طول الدعاء وصياغته ونشره، إنما لا ينفصل الدعاء عنه أيضا.

نحن نقرأ قوله تعالى: ‎{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان…} ولا نكاد نكمل: {فليستجيبوا لي..}

كم ذا ننتظر أن يجيب رب العزة دعاءنا في عالمنا الافتراضي، ونحن لا نستجيب إلى "دعوته" في عالمنا الواقعي!

من ذلك: ألا نكون ممن يقولون ما لا يفعلون، وأن نعتصم بحبل الله، وأن نتلاقى على صراطه المستقيم، وأن نتجنب أسباب الفرقة والخلاف والصراع، وألا ينام أحدنا شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم، وألا نقدّس القادة والزعماء وننسى أنهم بشر يخطئون ويصيبون.

وإذا تابعنا القراءة في الآية نفسها: {فليستجيبوا لي.. وليؤمنوا بي..} سيلفت نظرنا أن رب العزة يأمر عبده "المؤمن" الداعي بالاستجابة.. ثم يأمره بالإيمان.. فكأن الإيمان الحقّ الذي يبشر بإجابة الرحمن لدعاء عبده يتحقق عبر استجابة العبد لربه. فهل نستجيب؟ وكيف؟

إننا لندعو ونرجو أن يرفع العزيز الجبار هذه الغمّة.. ونعلم من إسلامنا أن هذا يأتي عبر الأخذ بالأسباب، أي (استيعاب الطريق) و(سلوك الطريق) لرفع الغمّة والمعاناة وهجر الشقاق والنزاع وأداء ما يوجبه العمل للوصول إلى الأهداف المشروعة والغايات القويمة..

هذا ما نستخلصه من ختام الآية نفسها: {لعلّهم يرشدون} فلنتعرف على طريق الرشد علما وفكرا ولنسلكه تخطيطا وعملا وتصحيحا.. وليقترن ذلك بالدعاء: اللهم ألهمنا سبيل الرشاد، وسنستشعر آنذاك كيف ينحسر روح التذمّر والاحتجاج في سؤالنا الحالي: علام لا يستجيب المجيب لأدعيتنا "الجميلة" المنشورة في كل مكان وبكل وسائط النشر الحديثة؟!

نبيل شبيب