تأملات – حرمة التشكيك.. وواجب التصحيح

من يصرّ  على التشكيك في الثورة والنصر فليكن تشكيكه في نفسه ولا يكوننّ في وعد الله بالنصر

46

نردد هذه الأيام أنه إذا اكتمل ارتكاب الجريمة الجارية في حلب وفي سورية عموما، فلا يعني ذلك نهاية درب الثورة والتغيير، ونردد أيضا أنه لا مجال لليأس والتسليم، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ويوجد أيضا من يردد عبارات أخرى يدفع بها المسؤولية عن نفسه ويحمّلها القريب والبعيد، أو من يوجه اللوم والتقريع لمن يقدمون أرواحهم وعذاباتهم من أجل المتحدث وأمثاله ومن أجل الوطن وأهله ومن أجل الإنسان ومستقبله، أي مستقبل أولادنا وأحفادنا في بلادنا وعالمنا وعصرنا.

نتكلم.. ونكاد لا نصدق أنفسنا.. أو يغلب على لهجتنا وردود أفعالنا أننا نريد أن "نطمئن" أنفسنا ونعذرها أو نخدّرها، وهذا ما يعني أن "الفوضى الهدّامة" المنتشرة في بلادنا عبر قوى محلية وإقليمية ودولية بلا ضمير، قد وصلت بمفعولها إلى "عقولنا وقلوبنا وسلوكياتنا"، وذلك -وأيم الله- أخطر في المدى القريب والبعيد مما تصنعه تلك القوى من إجرام قذر منحطّ في مدننا وقرانا ومجتمعاتنا، فأفاعيل إبليس لا تنقطع إلى يوم القيامة، وتستمر المعاناة معها، بل قد تتصاعد، ما لم نتمكن من وضع حدّ لها بأنفسنا، ولن نصنع ذلك دون أن ننجو أولا بعقولنا وقلوبنا وسلوكياتنا.

ندرك ذلك.. ولكن الحديث "الهادئ" في مواكبة أحداث دامية جارية عسير على النفس، وهو لا يغني قطعا عن مضاعفة الجهود الضرورية في أعمال مباشرة للتعامل مع مجرى الحدث، والتعامل مع الحدث يوجب الرؤية الصائبة، وهي هنا مما نستمده من قوله تعالى:  

أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..

حتى إذا فشلتم وتنازعتم..

ولقد كرمنا بني آدم..

هذه ثلاثة مواضع من القرآن الكريم تجمع لنا التعامل مع جوانب المشهد، إذا ما رجعنا إلى سياق كل منها في القرآن الكريم، لا سيما ذلك التناقض الصارخ بعنفوانه ومجراه وما ينطوي عليه من تناقض، في مشهد آلام الضحايا من "جنس الإنسان" نتيجة جرائم كائنات يفترض انتماؤها لجنس الإنسان، مقابل احتفالات تلك الكائنات نفسها باليوم العالمي لحقوق "الإنسان".

نتلو: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا.. ونتساءل:

أليس مؤلما الاضطرار إلى تأكيد البدهيات مرة بعد مرة، في مواجهة أوضاع وممارسات ومسارات شاذة للأحداث؟

لا بد من ذلك.. كيلا يصيبنا ما تصنعه ألسنة وأقلام دأبت على التشكيك والتيئيس والتثبيط، سيان من يفعل ذلك وهو يتكلم أو يكتب بلهجة "العبقري" الذي أدرك مسبقا ما لم يدركه الشعب الثائر، بشأن الثورة ومشروعيتها وضرورة انطلاقتها واستمرارها.

 

كلا.. نقولها مع كل آهة قلب وقطرة دم ودمعة ألم ونبضة أمل، وعزم على تصحيح المسار ومتابعته، لن يغيب عن أذهاننا تحت وطأة المعاناة:

١- أن الإقدام على الثورة لم يكن "مشروعا" فحسب بل كان واجبا مفروضا وطريقا محتما لا بديل عنه..

٢- أنه لم يكن يوجد من قبل اندلاعها أي بصيص أمل في مدخل آخر لنهاية الظلم الإجرامي الفاحش المتواصل منذ عشرات السنين..

٣- وأنّه لا يوجد الآن أيضا -بعد مضيّ ما مضى من أعوام دامية- أيّ بصيص أمل في نهاية الظلم إلا من خلال استمرار طريق الثورة حتى يتحقق التغيير الجذري الذي أراده الشعب الثائر وعبّر عنه بكلمات "بسيطة" جليلة المعنى والنتائج: حرية.. كرامة.. أمن.. عدالة.. وهو إن تحقق في بقعة جغرافية اسمها سورية، سيمتد بآثاره في كل مكان إقليميا وعالميا، ولهذا استنفرت قوى البغي جميعا نفسها ضد الشعب الثائر.

٤- يجب أن تستمر الثورة.. وأن تكون وسائلها متلائمة مع المعطيات، متجددة مع المستجدات، ولا تفصيل هنا للحديث في هذا المقام.

 

في الوقت نفسه نخاطب أنفسنا وأهلينا، أن الله تعالى الذي أذن بالقتال لرفع الظلم، ووعد بالنصر لمن يسلك سبيل النصر، وبيّن ما يواجه الصادقين الصابرين على طريق العمل للنصر.. قد خاطبنا من خلال مخاطبة جيل الصحابة وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.. خاطبهم أثناء "الحدث" وما سببه من آلام، يوم استشهد سيد الشهداء وصحبه في معركة أحد، وامتنع النصر بسبب "الأخطاء".. فبين الأخطاء بقوة ووضوح، ولم يكن رد الفعل: الاحتجاج على النقد أثناء المحنة، كما يصنع كثير منا هذه الأيام، بل كان رد الفعل من جانب جيل الصحابة هو استيعاب الأخطاء وخطورتها، وتصحيح تداعياتها في واقع حياته اليومية وإعداده المتواصل وعمله وجهاده وذلك كله في "عالم" لم تكن توجد فيه سوى تلك "العصبة" المؤمنة..

لهذا استطاع أن ينتقل جيل الصحابة بعد أحد إلى الخندق والفتح واليرموك والقادسية ويصل إلى قفقاسيا شمالا والصين شرقا والأندلس غربا.. فكيف ننتقل إلى محطات تالية لحلب ومن قبل لحمص والقصير وحماة وغيرها؟

ليرجع من يريد استيعاب أخطائنا اليوم إلى كامل السياق القرآني من حول قوله تعالى:

حتى إذا فشلتم وتنازعتم..

لقد فشلنا.. والفشل هنا هو الضعف النفسي الذاتي وضعف الإعداد المادي الذاتي، وذاك ما يسبب "الإخفاق" في نهاية المطاف..

ولقد تنازعنا ثوارا في الخنادق وسياسيين في الفنادق..

تنازعنا داعمين بالمال وداعمين بالكلمة..

تنازعنا ما بين جيل يوشك على الرحيل وجيل يحمل أمانة حقبة تالية..

تنازعنا ما بين قادة عسكريين.. وشرعيين وقضاة محليين.. وعلماء وعوام.. وأحزاب وتجمعات.. وزعماء بلا جيوش.. وحكماء بلا أتباع.. وإسلاميين وعلمانيين بلا مشروع عقلاني واقعي متكامل..

لقد تنازعنا حتى بين أنفسنا وأنفسنا إذا ما افتقدنا من ينازعنا فيما نفكر ونقول..

ومن أراد فليكرر هذه العبارات وأمثالها مستحضرا أمورا أخرى تضع "الملح على الجراح" كما يجب أن يوضع، بشأن "وعصيتم" مهما سلكنا سبل التأويل والتبرير لأنفسنا.. "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة".. دنيا شهوات المناصب والأموال وادّعاء احتكار الصواب أو ما ورد بشأن غزوة حنين "إذ أعجبتكم كثرتكم".. فجعلناها في بعض المواقع والمواضع غثاء متنافرا يقتتل بعضه مع بعض بين أكفان الشهداء وأنين المعذبين.

 

ما أغرب أن نعلن ونحن على هذه الحال أننا نملك للبشرية ما هو خير من "بيان عالمي لحقوق الإنسان" لأننا نتلو ليل نهار:

ولقد كرمنا بني آدم..

نشكو من معاناة الإنسان في بلدنا وعالمنا وعصرنا.. وليست الشكوى هي الرسالة التي نحملها.

إننا نحمل مسؤولية جسيمة لتجسيد ما نتلو وليس لرفع الصوت به فحسب.

نحمل مسؤولية جسيمة وخطيرة تجاه ما نشهده عاما بعد عام أثناء مناسبة "اليوم العالمي لحقوق الإنسان" وخارج إطارها من امتهان للإنسان وكرامة الإنسان وقيم الإنسانية، بل حتى للحد الأدنى من حقوق بقائه على قيد الحياة، في بلادنا وعالمنا وعصرنا، ولم نستوعب كما ينبغي أن أحداث الثورات الشعبية العربية جميعا، أصبحت نيرانا تحرق البقية الباقية من الزيف والتضليل والخداع، وذاك ما وصل إلى حضيضه المطلق في حلب هذه الأيام.

ولكن هل صنعنا البديل مشروعا وتطبيقا في واقعنا وفي عالمنا الآن؟ وما هي رسالتنا إذن إن لم نفعل ذلك؟

نحن من يحمل المسؤولية عن طرح ما تعنيه "ولقد كرمنا بني آدم" طرحا نظريا وعمليا، خاليا مما صنعه تعامل عالمنا مع الشعارات والمواثيق والعهود والعقود من زيف وتضليل وخداع..

ولقد كرمنا بني آدم.. ومثل ذلك: العدل المنصف بين الناس، وإيتاء كل ذي حق حقه مهما كان صاحب الحق ضعيفا، وتحريم قتل النفس أي نفس بشرية إلا بالحق، وضمان وصول عطاء الله غير المحظور عن أي إنسان دون تمييز.

لم تنتصر الثورة بعد.. كيف تنتصر دون أن نحمل خلالها أعباء أمانة أبت حملها السماوات والأرض وحملناها ولم نؤدها حقها.. ثم نتطلع إلى جنة عرضها السماوات والأرض!

نحن من نحمل رسالة نعجب مما يتطلب حملها من تبعات وتضحيات.. ونختزلها في شعارات دون مشروع نضعه معا ونلتزم به معا، ونحن أيضا من نريد العلم بالرسالة وسبل الدعوة إليها وتبعاتها، ولكن نستكثر قراءة بضعة سطور لبعضنا بعضا، ونحن من نسلك السبل المتشعبة بعيدا عنها وعن بعضنا بعضا ثم ننصب لأنفسنا عروشا في كل سبيل متشعب على حدة.. ويطالب كل منا توحيد صفوفنا جميعا بشرط أن ندور حول "عرشه" الصغير.

ولكن..

نحن أيضا -أيها السوريون والعرب والمسلمون- قادرون الآن إن صدقنا مع أنفسنا أن نجعل من معطيات "أحد وحنين" في حلب وما تعانيه اليوم، منطلقا لاستيعاب أخطائنا ومعالجتها ومواجهة انحرافاتنا وتقويمها والإقرار بمواطن قصورنا واستدراكها..

نستطيع.. إذا صدقنا وعزمنا، وإذا عملنا معا، وإلا فما جدوى أن نحفظ عن ظهر قلب وأن نكتب على الجدران وفي عالم افتراضي: "واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا"، ما دام كل منا يخصّ حبل الله بنفسه وما يراه، وبمجموعته الصغيرة وما تملك؟

لن ننتصر دون أن نتغير حقا.. وستنتصر الثورة بمن يأتي بديلا عنا..

بل سننتصر بنا بإذن الله إن شئنا سلوك طريق النصر.. وإذنُ الله يعني أن التمكين في الأرض مرتبط بأن نجعل من أنفسنا أهلا لذلك التمكين، فلنجعل أنفسنا كذلك.  ومن يصرّ على التشكيك فليكن تشكيكه في نفسه إن لم يفعل ولا يكوننّ في وعد الله بالنصر، فذاك في كتاب نعلم أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والله ولي التوفيق

نبيل شبيب