تأملات – الشباب ورحيل العلماء

نذكر هؤلاء الأخيار ولا نغفل عن وجود صنف آخر من "العلماء" أيضا، ممن لا ينبغي الوقوف عندهم طويلا ولا حتى وقفات عابرة

41

نعيش حقبة حافلة بالفتن مما يجعل الحليم حيران كما يقال، وفي مثل هذا الزمن تزداد الحاجة إلى العلماء الصادقين العاملين الأفذاذ. ويذكّرنا رحيل أستاذنا الفاضل د. محمد بن لطفي الصباغ يوم ٢٧/ ١٠ /٢٠١٧م، رحمه الله تعالى، برحيل أستاذنا الفاضل د. محمد أديب الصالح قبل شهور معدودات في العام نفسه، ومن قبل برحيل ثلة من علماء الشام الفضلاء ممن نجد إجماعا أو شبه إجماع يتجاوز الحدود على تقدير علمهم وفضلهم وعطاءاتهم طوال حياتهم، مثل عبد الرحمن الباني عام ٢٠١١م، ومن قبل علي الطنطاوي ومحمد ناصر الدين الألباني عام ١٩٩٩م، ومن قبل محمد أبو اليسر عابدين ١٩٨١م، وحسن حبنكة ١٩٧٨م، ومحمد بهجة البيطار ١٩٧٦م، وعبد الكريم الرفاعي ١٩٧٣م، ومن قبل علي الدقر ١٩٤٣م وبدر الدين الحسني ١٩٣٥م ولو تابعنا التعداد لوصلنا إلى ابن القيم الجوزية وابن تيمية والعز بن عبد السلام وغيرهم ممن لا ينقطع ذكرهم عبر القرون المتتالية.

وحول أمثال هؤلاء يقول الشيخ علي الطنطاوي في الجزء الثالث من "الذكريات" متحدثا عن "السنة التي مات فيها شيخ الشام" الشيخ بدر الدين: (كان للعلماء هذه المنزلة لمّا كانوا يريدون الله والدار الآخرة، ما كانت الدنيا أكبر همّهم ولا منتهى علمهم، ماتت في نفوسهم شهوة الجاه في الدنيا فأعطاهم الله الجاه كلّه في الدنيا، وأرادوا رضى الله ولو بما يسخط الناس فرضي الله عنهم وأرضى عنهم الناس، وابتعدوا عن أبواب الحكام وزهدوا فيما بأيديهم، فسعى إلى أبوابهم الحكام وعرضوا عليهم كلّ ما في أيديهم.. كانت له في قلوب الشاميين منزلة ما وصل إلى مثلها ممّن نعرف أحد، لذلك فاجأنا نبأ موته، لا لأننا نتصوّر أنّه خالد لا يموت، بل لأننا نعلم أننا لن نجد بعده مثله).

 

وليست "الأسماء" المذكورة آنفا سوى غيض من فيض، فلا يتسع المقام لتعدادهم جميعا، وهذا من منطقة واحدة هي ما بات يعرف بسورية من بين بلاد الشام، وأمثالهم كثير في مختلف الأقطار والأمصار، فلم تكن حياتنا ولم يكن عالمنا جيلا بعد جيل يخلو ممّن جمعوا العلم والحكمة والإخلاص والاجتهاد والعمل والإنجاز والعطاء، ووجدوا من يستعين بهم في شؤون دينه ودنيا، وتجتمع عليهم كلمته مع كلمة سواه، ويحترمهم.. أو يحترمهم ويحبّهم ويجلّهم.. ويوجد من العلماء المعاصرين أيضا من ندعو لهم بعون الله تعالى على مزيد من العطاء، وإليهم تتجه القلوب والأبصار والأسماع، ولا يجد صاحب هذا القلم نفسه في مقام ذكر أسمائهم أو أسماء بعضهم والإشادة بهم.

وإذ نذكر هؤلاء الأخيار لا نغفل عن وجود صنف آخر من "العلماء" أيضا، ممن لا ينبغي الوقوف عندهم طويلا ولا حتى وقفات عابرة، سواء من أصبحوا بين يدي من يعلم السر وأخفى، أو من لا يزال يحسب أعماله تخفى على الله وهي لا تخفى على خلقه، أو يحسب لنفسه البقاء، وهو راحل إلى دار الحساب في يوم قد يراه بعيدا وما هو ببعيد.

 

والخطاب في هذه السطور خطاب للشباب تحديدا، عامة الشباب، فمن بينهم فريق يعبّرون عن خيبات أملهم من صنيع فلان أو فلان فيلجأ إلى الغضب المذموم شرعا، والتعميم الضارّ قطعا، والإساءة التي تعود بوبالها على صاحبها ما لم ينلْه عفو من الله، وتوبة إليه، ومن بينهم فريق يتوقع من العالم ما لا يدخل في إطار واجب شرعي، أو تخصص علمي، أو طاقة متوافرة، فتكون خيبة أمله نتيجة لذلك وليس نتيجة رؤية موضوعية، ونظرة منصفة، ناهيك عن أن الاشتغال بذلك كله يوصل صاحبه بالضرورة إلى الغفلة عن طلب المنفعة ممّا هو بين يديه من عطاء علماء مخلصين صادقين، في حياتهم أو فيما خلّفوه من علم نافع، ورد في تعداد ما لا ينقطع أجره بعد الوفاة.

 

بعضنا يصنّف سلوك ذلك الفريق بحق ضمن انزلاقنا دون قصد إلى المشاركة في حملة عدائية تريد أن تحطّم رموز القدوة والريادة والتغيير في واقعنا، وقد تلاطمت فيه أمواج الفتنة من كل حدب وصوب، وصرنا فيه "غرقى" نحتاج إلى ما ينتشلنا، وليس إلى ما ينشر التيئيس من النجاة.

لا يكفي الردّ على هذه الحملة وأمثالها بمجرد الحذر والتحذير، إنما نحتاج إلى حملات إيجابية مضادة، تستهدف مضاعفة الجهد في اكتساب المعرفة للتفاعل المنتج مع تلك العطاءات، مع الحرص على الوعي من أجل مبادرات عملية، ومواقف فاعلة، وتواصل إيجابي، وتكامل تخصصي، وأدب يطفئ مفعول الغضب في غير محلّه، وعمل يظهر فيه استيعابنا لما يعطيه فقه العلم المتوازن، وجهد الدعوة المخلصة، واستنباط أحكام صالحة لزماننا وواقعنا، هادية إلى الوسائل المشروعة والآليات المناسبة لتعزيز مسارنا، دون أن نغفل حق أي إنسان في النقد إذا توافرت معطياته من علم في حدود ما ينتقد وبصيرة تضبط الغاية والطريق، ولا يتحقق ذلك دون التمسك بحسن النية وسلامة السلوك، ليس بمعنى تمييع ما يراه أو الاستهانة بمكانته الفردية الذاتية، فكل نفس بما كسبت رهينة، فهي مكلّفة ومسؤولة، إنما القصد هو تجسيد ما تعلّمناه من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية عن النقد غاية ومضمونا وأسلوبا.

 

من شأن مثل هذه الحملات الإيجابية -والشباب أقدر عليها من سواهم- أن تضاعف قدرة العلماء المخلصين على العطاء، وأن تحجب بعلمهم ونشره وبمواقفهم والتجاوب معها، ما يلجأ إليه سواهم ممّا يتسرب إليه الباطل وهو زاهق، فلا ينبغي تأخير زهوقه بتضخيمه نتيجة كثرة تركيزنا عليه بدعوى الغضب والإصلاح، على حساب التجاوب المنتج مع الإخلاص والمخلصين، ولا ينبغي إعطاء سدنة الباطل فرصة للنجاح في تحويل عموم العلاقة مع العلماء إلى علاقة جدال في مستويات متدنية لا تليق لا بالعامة من المسلمين الصادقين ولا بعلمائهم المخلصين.

لقد منّ الله علينا فلم يحرمنا ولم يحرم أجيالا سبقتنا ولن يحرم أجيالا من بعدنا من وجود مشاعل النور والعلم والحكمة والهداية في مواقع القدوة والأسوة والريادة، ومنّ علينا برؤية تلك المشاعل وتمييزها بالفطرة السوية وبالمعرفة المباشرة، في حياتها ومن بعد رحيلها.. ونسأله تعالى أن يرحم الراحلين من علمائنا الأفاضل، وأن يزيد حكمة العاملين المخلصين من علمائنا وعطاءهم، وأن يهدينا إلى مزيد من المعرفة والوعي والعمل الجاد لنرى الحق حقا ونتبع سبيله، ونرى الباطل باطلا ونتجنب سبله المتشعبة.

نبيل شبيب