الدولة الفلسطينية

هدف مشروع ورؤى مخادعة

دراسة – من يريد إقامة دولة يعلم أن صناعة القرار في العالم المعاصر تعتمد على منطق القوة

82


pdf word

(من جديد وفي مواكبة طوفان الأقصى وتداعياته، تنطلق مواقف رسمية دون التزام عملي بالحديث عن دولة فلسطينية، وغلب على ذلك طرح شعار حل الدولتين. ليست هذه المرة الأولى التي يعلو فيها الصخب السياسي كلما اشتد تحرك المقاومة، فهذا مما تكرر مجددا ومرارا منذ بداية القرن الميلادي الحادي والعشرين عندما نشرت هذه الدراسة لأول مرة في موقع إسلام أون لاين / القاهرة)

دراسة


المحتوى

الرؤى الهلامية وثوابت الشرعية الدولية

موقع الرؤى الأمريكية من القضية

     — تبادل المواقع بين أمريكا وأوروبا

أرضية العداء الغربي في قضية فلسطين

     — البعد التاريخي للدور البريطاني

     — استحالة نزاهة الدور الغربي

الأطراف العربية ورؤى الدولة الفلسطينية

كلمة حول الرؤية الإسرائيلية لدولة فلسطينية

الرؤى الهلامية وثوابت الشرعية الدولية

تحدّث القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي يوم ١٣ / ٣ / ٢٠٠٢م عن رؤية مستقبلية لمنطقة توجد فيها دولتان: إسرائيلية، وفلسطينية، جنباً إلى جنب، تعيشان في حدود آمنة معترف بها. ويستند القرار إلى قرارات سابقة للمجلس نفسه، ولكن لا يذكر مثلاً حق تقرير المصير، بمفهومه الأصلي، أي كمبدأ ثابت في المواثيق الدولية، وجزء لا يتجزَّأ من الشرعية الدولية.

وحق تقرير المصير هذا لا يقبل تقليصاً أو اختزالا أو انتقاصا لبعض بنوده، وبالتالي فإن أي جهة تصنع ذلك عبر قرار أو عبر إجراء ما، يفقد قرارها أو إجراؤها مفعوله بمقياس الشرعية الدولية، وهذا ما يسري أيضاً على مجلس الأمن الدولي الذي لا يجهل أحد كيف تتقلب مضامين قراراته مع تقلب موازين القوى الدولية، فلا يصلح من الأصل أن يكون مصدرا لتحديد مفاهيم الثوابت الشرعية الدولية.

ومن أبرز الوسائل غير القابلة للإلغاء أو التشويه في ممارسة حق تقرير المصير بالذات وسيلة الاستفتاء الشعبي الشامل، وخلوّه من التشويه، وهو ما يعني في حالة فلسطين إجراءه بصورة شاملة لجميع أبنائها، داخل الأرض المحتلة وخارجها، ولا يكون هذا الاستفتاء شرعيا وفق نصوص القانون الدولي إلا إذا كان:

١ – استفتاء حراً.. وهو ما يتطلب مثلاً طرح خيارات حقيقية فيه، وليس خيارين أحلاهما مرّ كما يقال، كاستمرار الاحتلال الباطل بالقوة أو قيام كيان على جزء من الأرض بسيادة مقيدة على مختلف الأصعدة.

٢ – واستفتاء نزيهاً.. وهو ما يتطلب توفير ضمانات كافية للحيلولة دون فرض نتائجه مسبقا، بما يتضمنه ذلك من عملية شرح ما يجري التصويت عليه لجميع من يحق لهم التصويت، ومراقبة عملية التصويت نفسها.

٣ – واستفتاء خالياً من الضغوط.. وهو ما يعني في الحالة الفلسطينية ألا يجري تحت تأثير ما يتركه التقتيل والتشريد والإرهاب المتواصل منذ عدة أجيال، من صنوف الضغوط الرهيبة على الأفراد.

٤ – واستفتاء خالياً من التزييف.. سواء في آلية إجرائه، أو تحديد نتائجه.

إن هذه “الوسيلة” المشروعة لتحقيق هدف مشروع، كما تقرره نصوص المواثيق الدولية كميثاق الأمم المتحدة نفسها، أو ميثاق حقوق المواطنة من عام ١٩٦٤م، مختلفة دون ريب عن أي وسيلة تنبثق أو يمكن أن تنبثق عن رؤية مطروحة من أجل خنق الانتفاضة أو المقاومة عموما.

وهذا ما يسري على هذه الرؤية، سواء وضعت في صياغة قرار مجلس الأمن الدولي، أو ترددت على ألسنة المسؤولين، الذين تضاعفت جهودهم في ساحة الأحداث بصورة ملحوظة، ربما لإنقاذ المنطقة من الوقوع في حرب تفرضها القوة العسكرية التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية في أيدي مجرمي حرب محترفين، ولكن الغرض الأهم هو العمل على إنقاذ كيان الاحتلال الباطل نفسه من انهيار داخلي، تزداد مقدمات حدوثه شهراً بعد شهر من عمر الانتفاضة التي تحولت إلى حركة مقاومة من أجل التحرير بمعنى الكلمة.

المؤيدون لهذه الرؤية المستقبلية القاصرة، أو المبادرات العربية، أو غيرها من المساعي التي تظهر على ساحة الأحداث، يسوّغونها بأنها يمكن أن تضع حداً للمأساة الراهنة لشعب فلسطين، بمعنى وقف سيل الدماء. ولكن هل يتوقع ذلك حقيقة إذا علمنا أن هذا يعني في الوقت نفسه العودة إلى شبيه ما كان في سنوات أوسلو العجاف.. أي قيام فئة من الفلسطينيين بدور الملاحقة والاعتقال تجاه من يمارسون المقاومة ضد الاحتلال، وسيبقى غير مشروع حتى نهايته، كما أن مقاومته كانت وستبقى مشروعة بمختلف الوسائل المتاحة، ووفق مختلف المقاييس المعتبرة في الشرعية الدولية.

لا يُستغرب هنا ذلك الإصرار على وضع العنوان الأمني فوق كل اتصال يجري، ليس كعنوان فقط، بل من حيث اختيار الأشخاص، ومضامين التفاوض، ونقاط جداول الأعمال، ونصوص الاتفاقات، التي تشمل على سبيل المثال، نزع الأسلحة، وتصفية الكوادر، والقضاء على البنية الهيكلية. 

وإذ لا تخفى حقيقة واقعنا العالمي المعاصر، ولا يخفى أيضاً ما ثبت مرة بعد مرة من حتمية ضياع الحق المجرد من القوة، فإن الإقدام على تلك الخطوات يعني قتل المقاومة مستقبليّا، بل وحتى تمزيقها كورقة مفاوضات عند من لا يريد فهمها إلا على هذا النحو، وهذا ما يُضعف مسبقاً حتى احتمالات تنفيذ مضامين الرؤية المستقبلية الممسوخة بشأن دولة فلسطينية.. فهل هذا المقصود برفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني؟

إن عذر رفع معاناة الشعب الفلسطيني أو تخفيفها كان غالباً هو العذر المعلن مع كل خطوة عربية -وحتى غير عربية- باسم السلام، منذ ظهرت القضية في التاريخ الحديث. والسؤال: هل كانت تلك الخطوات تؤدي إلى رفع المعاناة أم زيادتها وترسيخ أسبابها، مرة بعد مرة، عبر وقوع المزيد من النكبات والمآسي؟

ولهذا أيضا يجب أن يكون واضحا أن مجرد القبول بمعادلة خنق المقاومة المتصاعدة.. عبر رؤية مستقبلية ما عن دولة فلسطينية، إنّما يمثل إصرارا على تكرار السير على طريق شهد صورا مماثلة عبر عشرات السنين الماضية، فلم تتجاوز حدود المخادعة. ولو أدّت الغرض المؤقت المطلوب منها، لم يتحقق حتى ذلك القدر الممسوخ الذي تتضمنه بعض العبارات والوعود الكلامية عن تلك الرؤى.

المطلوب هو خنق الانتفاضة الفلسطينية التي تنذر بأن تتحوّل إلى انتفاضة شعبية خارج فلسطين، تماما كما كان المطلوب من أطروحات مشابهة في الماضي خنق انتفاضات سابقة، منذ ثورة البراق الأولى، وقد حملت في الماضي عناوين بريطانية.. أو دولية.. أو أمريكية.. وهذا ما يسري على الرؤى المطروحة اليوم.

موقع الرؤى الأمريكية من القضية

لا ريب أن الولايات المتحدة الأمريكية آخر من يصح الاعتماد على أطروحاتها أو وعودها، ليس بسبب سياستها العدوانية الحاضرة فحسب، بل لأنه لا ينبغي أن يلدغ عاقل من جحر عشرات المرات. ونأخذ من تاريخ القضية المعاصر تاريخين يحصران ثلاثين عاماً من معالم لم تتبدل فيها السياسة الأمريكية تجاه قضية فلسطين، ويعبران عنها:

١ – في عام ١٩١٩م عندما أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى فلسطين ما عرف بلجنة كينج، لتقصي الأوضاع في ضوء ما كانت تسعى بريطانيا لصنعه من أجل تنفيذ وعد بلفور، فكان الموقف الأمريكي بناء على تقرير اللجنة واضحا، وهو الاعتراف المباشر بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في أرضه الفلسطينية التي لم تكن نسبة الغاصبين اليهود فيها قد بلغت ١٠ في المائة من السكان بعد. وقد جاء هذا الموقف الأمريكي قبيل تحرك (عصبة الأمم) لتضع مستقبل فلسطين بيد الدولة البريطانية المهيمنة عالميا آنذاك.

٢ – ثم في عام ١٩٤٥م عندما بعث الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت إلى الملك السعودي آنذاك عبد العزيز بن سعود، رسالة جاء فيها أن الحكومة الأمريكية لن تبدل سياستها تجاه قضية فلسطين، إلا بعد مشورة العرب، وأنها لن تقوم بأي أعمال عدائية تجاه الشعب الفلسطيني في بلاده، وجاء ذلك قبيل تحرك (الأمم المتحدة) لتضع اللمسات الأخيرة على ما حققته بريطانيا والسياسة الغربية عموما خلال العقود السابقة، وأوصل إلى الاحتلال الاستيطاني لفلسطين.

المتأمل في المواقف الأمريكية في تلك الحقبة يجدها تتحدث عن حق تقرير المصير، وعن الدولة الفلسطينية، وعن مراعاة الدول العربية، ولكن لا نجد أية جهود عملية لمنع استمرار الهجرة اليهودية واغتصاب الأراضي مثلا، مع كل ما أدى إليه ذلك من نكبات، ومع ملاحظة أن السياسة الدولية الأمريكية كانت قد بدأت تتحرك بعد الحرب العالمية الأولى، وبدأت تظهر أهدافها للهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية، لا سيما في ميدان النفط الخام، وهو ما تشير إليه كتب التاريخ الحديث بانتقال إرث الدولة البريطانية الاستعمارية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ذلك الهيمنة في المنطقة العربية وقطاعات واسعة من بقية المنطقة الإسلامية.

لم تكن تلك الحقبة من تاريخ فلسطين تختلف عن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، سوى أن الدور البريطاني كان هو المنفذ مباشرة لعملية العدوان الكبرى على فلسطين في قلب الأرض الإسلامية، بينما كان الدور الأمريكي شبيها بالدور الأوروبي في حقبة تالية؛ إذ اقتصر على طرح المواقف المهدئة، والرؤى المخادعة، وشغل دول المنطقة بالحوار حولها، مساهماً في كبح احتمالات التحرك المضاد، بل وفي دفع تلك الدول أحيانا إلى الإسهام في تنفيذ المشاريع العدوانية الأوروبية.

تبادل المواقع بين أمريكا وأوروبا

إذا كان ما سبق يشير إلى الثابت في الأسلوب الأمريكي، فإن العنصر المتبدل ظهر على مستوى المضمون، فقد بدلت واشنطون سياستها آنذاك وما تزال تبدلها إلى اليوم في اتجاه يرفع من مستوى العدوانية تجاه قضية فلسطين، ودون مجرد أخذ حفظ ماء وجوه الساسة الاصدقاء في المنطقة العربية بعين الاعتبار كما يقال، ناهيك عن مشورتهم.

في فترة المواقف الأمريكية الكلامية بين الحربين العالميتين كانت السياسة البريطانية قد قطعت على أرض الواقع شوطا كبيرا في تمكين الصهاينة من السيطرة على ٧ في المائة من الأرض العربية، مع رفع نسبتهم السكانية إلى أقل من الثلث بقليل.

وحتى ذلك الحين حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على موقفها المعلن من قبل والمشار إليه من قضية فلسطين، واستمرّ ذلك عند تحويلها إلى الأمم المتحدة، ثم بدأ التحوّل التدريجي مع استكمال استلام الإرث الاستعماري البريطاني:

١ – في عام ١٩٤٦م شارك الأمريكيون في لجنة دولية تشكلت للنظر في مستقبل فلسطين بعد إنهاء ما سمي الانتداب البريطاني، وكان قد بدأ الحديث عن تقسيم فلسطين، فكان الموقف الأمريكي يطالب بدولة ديمقراطية يعيش فيها الجانبان معا، علاوة على مطالبة اللجنة بوقف الهجرات اليهودية إلى أرض ضيقة لا يمكن أن تحتمل ذلك العدد الكبير من المهاجرين.

ولكن بعد عام واحد أيدت حكومة ترومان الأمريكية قرار التقسيم رقم ١٨١ الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو القرار الذي يقرر قيام دولة فلسطينية وأخرى لليهود، ووضع منطقة القدس تحت إشراف دولي. ولكن ما لبثت أن عملت هي نفسها على إلغاء قرار التقسيم في مجلس الأمن الدولي في التاسع عشر من آذار/ مارس عام ١٩٤٨م وهو ما كان مقدمة للاعتراف بالدولة اليهودية دون قيام دولة فلسطينية، في منتصف أيار/ مايو من العام نفسه.

٢ – في عام ١٩٤٨م كان جيوسوب المندوب الأمريكي لدى مجلس الأمن الدولي يطالب بقيام دولة فلسطينية، وفي العام نفسه وافقت بلاده على القرار الذي أصبحت ترفض الحديث عنه لاحقا، وهو القرار رقم ١٩٤ بشأن حق العودة للفلسطينيين المشردين في حرب عام ١٩٤٨م عن أرضهم.

ولكن تلك المواقف -أو القليل الإيجابي نسبيا منها- لم تتجاوز في حينها حدود إلهاء الدول العربية أو إعطاء مسوّغات لما قامت به آنذاك، ومنه خنق مبادرات فلسطينية لتأسيس دولة، أو متابعة القتال بعد موافقة الحكومات العربية على هدنة أصبحت مرتكزا رئيسيا للنكبة الأولى.

ومع قطع المرحلة الأولى وترسيخ أقدام دولة الاحتلال في جزء من فلسطين لم تَعُد توجد حاجة إلى أطروحات مهدئة ورؤى مخادعة، فإذا بتغيير الخطاب السياسي والمواقف السياسية الأمريكية في اتجاه الأسوأ يصل إلى مداه، وهو ما كان آنذاك يربطه بعض المتابعين للسياسات الأمريكية بوصول ترومان إلى منصب الرئاسة، والواقع أن الذي تغير لم يكن آلية صنع القرار في الولايات المتحدة، إنما تبدلت قوالب تمرير توثيق العلاقات العربية الرسمية بها رغم سياساتها المعادية في قضية مصيرية كقضية فلسطين، فبعد أن كان يعتمد قبل الحرب العالمية الثانية على صياغة المواقف الأمريكية صياغة مغرية دون اقترانها بإجراءات عملية، أصبح يعتمد على تفسير صياغة تلك المواقف صياغة عدوانية متبجحة، بأن هذا مرتبط برئيس جديد استلم السلطة، فينبغي الانتظار حتى يأتي سواه، وهو ما تكرر منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن، بعد أن اختزلت السياسة الأمريكية قضية الاغتصاب والتحرير إلى مشكلة لاجئين، وفصلتها عن القضية الأم بطرح عنوان أزمة الشرق الأوسط، ثم لم يصدر طوال العقود التالية موقف أمريكي في صالح الطرف الفلسطيني أو العربي في الصراع الدائر ولو جزئيا أو كلاميا، باستثناء موقفين معروفين، أحدهما في عام ١٩٥٧م بالمطالبة بانسحاب قوات الهجوم الثلاثي على مصر، وهو ما كان ينسجم في الدرجة الأولى مع المعطيات السياسية الدولية وتثبيت دعائم الهيمنة الأمريكية في الغرب وعالميا، والموقف الثاني في عام ١٩٩١م وهو وقف بعض المساعدات المالية لصالح الكيان الإسرائيلي، ليوقف تمويل بناء المستعمرات الجديدة على الأرض المغتصبة في عام ١٩٦٧م.

إن جميع تلك الرؤى الأمريكية عن قيام دولة فلسطينية، لم يتجاوز حدود مواقف سياسية، تنسجم مع المرحلة الدولية والسياسة الأمريكية خلالها، وتساهم في زيادة ربط دول المنطقة العربية بواشنطون بدلا من الدول الأخرى المنافسة قديما أو لاحقا للهيمنة الأمريكية، ولكنها لم تقترن في أي وقت من الأوقات بخطوات عملية، وهو ما لا يعود قطعا إلى حرص على أسلوب المفاوضات السلمية، ففي مثل هذا التعليل استخفاف بعقل من يسمعه، عند مقارنته بما هو معروف عن السياسات الأمريكية طوال قرنين على الأقل، والتي لم تتورع يوما عن استخدام سائر أنواع السلاح الفتاك، المحظورة وغير المحظورة، أخلاقيا وفي المواثيق الدولية، لتحقيق أهدافها وأطماعها، إقليميا وعالميا، بل والوصول في هذه السياسات إلى درجة توظيف لقمة الطعام وآليات التقدم البشري في ممارسة الضغوط لتنفيذ ما تريد، فكما دخلت قبل الحرب العالمية الثانية في أكثر من مائة حرب ونزاع مسلح، دخلت بعدها أيضا في أكثر من مائة حرب ونزاع مسلح في أنحاء العالم، وكما استخدمت القمح سلاحا لحصار الآخرين والضغط عليهم، استخدمت احتكار تقنيات التطور البشري سلاحا لمنع توافر قوة رادعة أو دفاعية لديهم.

إن هذه السياسة الامريكية الثابتة في كلياتها، هي التي تضع الإطار العام للمواقف الحديثة بشأن رؤية ما لدولة فلسطينية مستقبلية، ومن السذاجة بمكان فصل هذه الرؤية عن تلك الثوابت أو تفسيرها كما لو كانت تحولا جذريا في التوجهات الأمريكية، كذلك فمن السذاجة السياسية بمكان الآن تقويم الرؤية الأمريكية عن دولة فلسطينية بمعزل عن إعلان واشنطن ما أسمته الحرب ضد الإرهاب، وهو ما اتخذ على أرض الواقع صيغة حرب شاملة ضد الإسلام والمسلمين، وضد الأحرار والمقاومين، وقد صدر أول إعلان جديد عن تلك الرؤية للدولة الفلسطينية على لسان بوش الابن في مطلع تشرين أول/ أكتوبر ٢٠٠١م، أي مع بدء المرحلة الأولى من حرب الإرهاب، حتى إذا حصلت الولايات المتحدة الأمريكية على كثير مما تريد –عالميا- في مطلع حربها في أفغانستان، تركت أحداث فلسطين تتطوّر من حملات عسكرية إسرائيلية ميدانية ضد الشعب الفلسطيني، إلى حرب شاملة تُستخدم فيها سائر وسائل البطش، دون أن تجد مجرد تنديد أمريكي جاد، وذلك مقابل ما هو معروف من مواقف متوالية ضد السلطة الفلسطينية، المتعاونة معها في الأصل.

وقد صدر الإعلان الرسمي الثاني عن تلك الرؤية مرافقا لإعلان الرئيس الأمريكي (السابق) بوش الصغير في كلمته بمناسبة مرور ستة أشهر على تفجيرات نيويورك وواشنطون، وقوله: إن المرحلة الثانية في حربه ضد الإرهاب قد بدأت، ورافق ذلك إرسال نائبه تشيني من أجل حشد التأييد لها، ولو من خلال الرفض الكلامي والسكوت العملي تجاه هجوم عسكري ضد العراق، وربما ضد سواه.

أرضية العداء الغربي في قضية فلسطين

إن مضمون هذا الترابط بين قضية فلسطين إقليميا وحرب الإرهاب الأمريكية عالميا، يتضح عند مراعاة الأبعاد التاريخية من ورائه، أنه مجرد حلقة من حلقات الترابط الدائم للسياسة الغربية، بين ممارساتها الإقليمية ومنطلقاتها العقائدية عالميا، سواء كان عنوانها صليبيا أو علمانيا أو دون عنوان. وقد لا نحتاج إلى البحث طويلا بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما وأن السياسة الأمريكية باتت على الساحة الفلسطينية وعالميا في مطلع القرن الميلادي الحادي والعشرين، تكملة واضحة لما سبق وبدأت طرحه بوضوح فور سقوط الشيوعية ومع إعلان شعار الإسلام عدو بديل في عهد جورج بوش الأب.

 

البعد التاريخي للدور البريطاني

إذا كان هذا الوجه الاستعماري للهيمنة الأمريكية المعاصرة، صيغة متطورة موروثة عن الوجه الاستعماري للهيمنة البريطانية التاريخية من قبل، فإن موقع قضية فلسطين من السياسة الأمريكية الأشمل حاليا، لا يختلف كثيرا عما كان عليه في نطاق السياسة البريطانية تجاه المنطقة الإسلامية عموما، وهي التي حملت من قبل المسؤولية الأولى عن دعم الهجرات اليهودية والحركة الصهيونية لاغتصاب فلسطين بالاحتلال الاستيطاني القائم على القوة.

وما يزال التصور الشائع على المستوى العربي والإسلامي، أن الدور البريطاني بدأ بوعد بلفور عام ١٩١٧م، وكان بمثابة صفقة مع الحركة الصهيونية في نطاق صفقات أخرى إبان الحرب العالمية الأولى، وهو تصور قد يخفف في نظر فريق ممن يعتبرون أنفسهم من الساسة الواقعيين من وطأة الجريمة البريطانية المرتكبة في فلسطين، وبالتالي يسهل التعامل الواقعي مع بريطانيا الحديثة، ولكن يظهر البعد الأشمل والأعمق في الدور البريطاني من خلال العودة به إلى حقبة تاريخية سبقت، بعد حملة نابليون بونابرت على مصر وفلسطين، وقبل أن تضمحل جولات التنافس الاستعماري البريطاني-الفرنسي شرقي قناة السويس، فآنذاك وبعد الحملة التي قام بها محمد علي باشا الكبير على بلاد الشام منطلقا من مصر، وإدراك الدولة الاستعمارية البريطانية ما يعنيه ظهور قوة موحدة جديدة في المنطقة مكان الدولة العثمانية التي بدأت الضربات الروسية والأوروبية في الشمال تثخنها بالجراح وتحولها إلى ما وُصف لاحقا بالرجل المريض.. آنذاك في تلك الفترة المبكرة بدأت المشاريع البريطانية بالظهور لتفتيت المنطقة، ولم يكن للحركة الصهيونية وجود فعال على الساحة الأوروبية بعد، رغم ما عُرف بالمسألة اليهودية في الدول الأوروبية.

إن جذور الرؤية البريطانية لدولة فلسطينية تكمن في رفض قيامها، ورفض أن تكون أرض فلسطين جسرا يضمن سلامة وحدة مشرق المنطقة حولها ومغربها.

على سبيل المثال.. عام ١٩٤٠م، أي قبل انعقاد مؤتمر بازل الصهيوني بأكثر من ٥٧ عاما، بعث رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون برسالة إلى الخليفة العثماني عن طريق السفير البريطاني في إسطنبول، وجاء فيها: (إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين، بدعوة من السلطان وتحت حمايته، يشكل حماية للسلطنة في وجه مخططات شريرة يعدها محمد علي أو من يخلفه).

التعامل البريطاني أو الغربي عموما، انطلق من عنصر أساسي هو تثبيت أقدام جسم غريب في الأرض الفاصلة بين شرق الأرض الإسلامية وغربها، وهذا بوجود اليهود أو عدم وجودهم، كان وما يزال هدفا غربيا يخدم هدف الهيمنة الاستعمارية الأوسع والأرسخ ثباتا عبر التاريخ، وإن تعددت التسميات استعمارا، وانتدابا، ونفوذا، وعولمة، وزعامة انفرادية، فالمهم هو المضمون.

ومن هذا المنطلق لا ينبغي تصنيف الدور الغربي، بريطانيا كان أم أوروبيا، وأوروبيا أم دوليا، على أنه دور وسيط بين طرفين، فهو من البداية إلى النهاية دور طرف أساسي هو أحد الطرفين في ساحة الأحداث والتطورات التاريخية الدائرة على محور فلسطين بالذات.

وبهذا المنظور نجد جميع ما كان من مواقف وخطوات بريطانية منفردة أو مشتركة مع دول غربية أخرى منذ أواسط القرن الميلادي التاسع عشر، وليس منذ وعد بلفور، لم يكن مجرد دعم للحركة الصهيونية، أو تصدير لحل ما سمي المسألة اليهودية، إنما كان وما يزال قائما على أرضية من الثوابت، محورها الهيمنة، وحملت للمنطقة النكبات المتوالية، وأصبحت دولة الاحتلال بفلسطين رأس حربة لها. هذه الرؤية التاريخية تؤكد أن المواقف العدائية الراهنة، هي نتيجة مترتبة على تعامل مع الصراع القديم، وليس مع ما طرأ من عناصر جديدة عليه، ولا تبدلها بالضرورة مصالح حديثة النشأة فالسياسة المتبعة هي تطويع المصالح للثوابت، وخدمة الثوابت بالمصالح، وليس العكس.

إن اتفاقيات سايكس بيكو عام ١٩١٦م، ووعد بلفور عام ١٩١٧م، ثم صك الانتداب، فصياغة المندوب السامي البريطاني الصهيوني هربرت صموئيل لدستور فلسطين كخطوة تالية، فتمرير الهجرات اليهودية، وسوى ذلك مما ارتبط بدور بريطانيا قبل النكبة الأولى، كان واقعيا محطات على طريق الهيمنة الغربية بزعامتها البريطانية العتيقة، ولا ينبغي أن تختلف النظرة كثيرا عن محطات كامب ديفيد ومدريد وأوسلو على طريق الهيمنة الغربية بزعامتها الأمريكية الحديثة.

استحالة نزاهة الدور الغربي

إن الدول الغربية المهيمنة عالميا طرف أصيل، وبالتالي فعند ظهورها مجتمعة أو منفردة على حسب المعطيات التاريخية، في دور وسيط، لا ينبغي استغراب الانحياز ولا توقع النزاهة في ذلك الدور. وهذا ما بدأت به بريطانيا وانتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تحركت الدولة البريطانية على أساس الصداقة مع الأطراف الغربية التي ثارت على الحكم العثماني، ومع الجيوش العربية في احتلال فلسطين، ثم كان الانتداب من الناحية الشكلية انتداب دولة حيادية من المفروض أن تساعد البلد الموضوع تحت الانتداب على الاستقلال دون تبديل تركيبته السكانية وغير السكانية، وعندما سلمت بريطانيا القضية إلى هيئة الأمم المتحدة كانت تتحدّث أيضا بلسان جهة دولية قائمة بذاتها منفصلة عن الصراع بين “العرب واليهود”، وطوال تلك الفترة لم تنقطع الأطروحات البريطانية عن رؤى سلمية ودولة فلسطينية، إنما كان جميع ذلك لا يمنع من (تنفيذ) ثوابت السياسة البريطانية. وقد تُستخدم مواقف الحياد الكلامية والوساطات المزعومة والنزاهة المخادعة، من أجل تهدئة ثورة أو انتفاضة أو مقاومة، كما هو معروف عن حكاية الكتاب الأبيض الأول عام ١٩٢٢م بعد ثورة القدس ويافا، ثم الكتاب الأبيض الثاني عام ١٩٣٦م بعد ثورة القسام، أما السياسات التنفيذية -غير الكلامية- فكانت تتمثل واقعيا في تمكين اليهود من تزويد عصاباتهم الإرهابية بأحدث الأسلحة وتمكينهم من مواقع فرض السيطرة على الأرض والسكان، عاما بعد عام.

الصورة عن تلك الفترة، كالصورة عن الفترة الراهنة، بزعامة أمريكية، لا تختلف مضمونا، وإن اختلفت الأسماء والملامح الشكلية، فالمعطيات التاريخية كالمعطيات المعاصرة تؤكد أن الحديث عن دور وسيط نزيه، أو سياسة مصالح، أو رؤية سلمية مستقبلية، لا يتجاوز حدود حبائل خداع سياسي متكرر، بثمن باهظ، هذا إذا أردنا تجنب القول بوجود قبول طوعي لتواطؤ ظاهر للعيان.

الأطراف العربية ورؤى الدولة الفلسطينية

لا يعني ذلك قطع الحبال السياسية والديبلوماسية مع أي طرف، ولكن يعني أن التعامل مع القضية دوليا يجب أن ينطلق من منطلق صيغة تضع في حسابها حقيقة الأطراف الدوليين كما هم، وليس كما تصورهم التمنيات أحيانا وحملات التضليل أحيانا أخرى.

ليس من الحنكة السياسية انتظار سياسات أجنبية لا عداء فيها من جانب أطراف معادية في الأصل، بغض النظر عن تفاوت الدرجات، وليس من المنطق السياسي التسليم الساذج والخطر، بأن العلاقات الدولية قد وصلت إلى مرحلة الوئام والسلام والتفاهم وما إلى ذلك، ونحن نعايش مرحلة تاريخية نشهد فيها ألوان التسلّح بأخطر الأسلحة، وألوان الصراعات التي لا يُطبّق فيها سوى منطق القوّة، مع العمل على احتكار مختلف أسباب القوة، والعمل لمنع امتلاك الطرف الآخر أسباب الدفاع أو الردع.

إن مثل هذا التسليم لم يَعُد مجرّد خطأ سياسي ساذج، بل هو أقرب إلى شكل من أشكال الانتحار السياسي، الذي لا يقتصر بنتائجه الخطيرة على من يرتكب ذلك الخطأ، بل يشمل البلد الذي يحكمه، والشعوب والقضايا المصيرية. وهذا بالذات ما تشهد عليه النكبات والهزائم المتوالية في مجرى قضية فلسطين بمراحلها التاريخية المختلفة، ولا سيما ما يتعلق من ذلك بتلك الرؤى المطروحة بشأن قيام دولة فلسطينية.

ونتجاوز حقبة الاحتلال البريطاني وما كان خلالها على صعيد تعامل الأطراف العربية مع مسلسل الانتفاضات الفلسطينية من عهد محمد كاظم الحسيني إلى عهد عز الدين القسام إلى عهد عبد القادر الحسيني، لنجد أول عملية إجهاض لقيام دولة فلسطينية على جزء من الأرض مقابل قيام دولة الاحتلال على جزء مغتصب، كان في أعقاب النكبة الأولى مباشرة، فبعد اندلاع حرب عام ١٩٤٨م أعلنت الهيئة العربية العليا لفلسطين -التي شكَّلتها جامعة الدول العربية نفسها- عن استقلال فلسطين في ١/١٠/١٩٤٨م، وبدلا من دعم هذا الإعلان، والعمل على تقديم الدعم بمختلف أشكاله لتحرير الجزء الأول المحتل من فلسطين، وُضعت الضفة الغربية تحت إدارة المملكة الأردنية الهاشمية، وقطاع غزة تحت الإدارة المصرية، ليسري عليهما ما تم عقده من اتفاقات للهدنة العسكرية!

ولئن شهدت فترة ما بين النكبتين، بين حرب ١٩٤٨م وحرب ١٩٦٧م، حقبة امتصاص نتائج النكبة الأولى، ثم تحويل قضية فلسطين في العصر الذهبي للقومية العربية عن مسارها الإسلامي التاريخي، فإن سائر ما كان من سياسات عربية -بمشاركة فلسطينية- بعد عام ١٩٦٧م سلك طريقا يجمع بين عنصرين متلازمين:

– الحديث إلى الشعوب العربية بلسان الدفاع عن القضية المصيرية المشتركة، وهو ما يمثل أسلوب طرح الرؤى السلمية غربيا.

– والتصرّف على أرض الواقع السياسي بما يرسخ وجود دولة الاحتلال وليس الدولة الفلسطينية.

آنذاك في عام ١٩٦٧م وفي ذروة امتصاص الغليان الشعبي في المنطقة العربية عبر لاءات الخرطوم الثلاثة بشأن الاعتراف والصلح والتفاوض مع دولة الاحتلال، كان قبول القمّة نفسها بقرار مجلس الأمن الدولي رقم ٢٤٢ اعترافا ضمنيا أبعد من مجرد الاعتراف الواقعي، وأقرب إلى محاولة إعطاء الاحتلال الباطل صبغة وجود مشروع بمفهوم القانون الدولي.

وليس مجهولا أن تسويغ القبول بذلك القرار من جانب الدول التي تعرضت مباشرة لهزيمة عسكرية في الحرب، يمكن تجاوزه، لا سيما وأن مبادئ القانون الدولي لا تعترف بمشروعية توقيعٍ يُعطى تحت تأثير هزيمة عسكرية، ويتضمن أي تغيير جغرافي أو سكاني، أي انتقاص من حقوق الشعوب الثابتة، بل تعطي مثل تلك الاتفاقات وصف اتفاقات استسلامية وتعتبرها باطلة. ولكن ما لا يمكن تجاوزه هو إقدام القمة التي تجمع سائر الدول العربية المستقلة آنذاك على مثل تلك الخطوة القريبة من الاعتراف بدولة الاحتلال الباطل، فهو محض تراجع دون سبب سياسي منطقي ولا واقعي تحت الإكراه، عن حقوق مشروعة، لا يملك صانعو القرار آنذاك -ولا الآن- التراجع عنها، وكل تراجع عنها يمثل انتهاكا مباشرا للمواثيق الدولية التي تحدّد كيفية تمثيل إرادة الشعوب في قضايا ترتبط مباشرة بحق تقرير المصير، وسواه من المبادئ الثابتة عالميا والتي لا تحتمل الالتفاف حولها.

إن أسلوب التغطية بالرؤى المخادعة للشعوب (كلاءات الخرطوم) على ممارسة سياسات التراجع على أرض الواقع (كقبول القرار رقم ٢٤٢)، يسري على سائر الخطوات المفصلية التالية، من جانب الأطراف الرسمية، العربية عموما والفلسطينية أيضا، ومن أبرزها:

١ – إعلان تسليم منظمة التحرير الفلسطينية التي أنشئت عام ١٩٦٤م لغرض سياسي في حينه، إلى قادة العمل الفدائي -وعلى وجه التحديد ياسر عرفات- الذي بدأ عام ١٩٦٥م على أساس آخر هو تحقيق هدف التحرير بقوة المقاومة المشروعة. والواقع كان يتمثل في وضع العمل الفدائي نفسه في قفص العمل السياسي العربي، وهو ما أدى إلى فقدانه صبغة المقاومة تدريجيا، حتى وصل إلى أوسلو، وتضمن ذلك على الطريق سلسلة من المآسي المصنوعة بأيدٍ فلسطينية وعربية، مثل توجيه الضربات العسكرية لمجموعات المقاومة المسلحة، كما كان فيما سُمِّي أيلول الأسود في الأردن، أو في تل الزعتر في لبنان، حتى فقد العمل الفدائي قسطا كبيرا من طاقة المقاومة، وبقيت بعد ذلك الزعامات السياسية؛ لتمضي مع الحكومات العربية الأخرى على طرق مدريد وأوسلو.

٢ – تسويق الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا لشعب فلسطين عقب حرب ١٩٧٣م، والوصول بها إلى مقعد مراقب في الأمم المتحدة، على أنه خطوة على طريق التحرير، والواقع أن هذا كان يمثل خطوة حاسمة على طريق التراجع، ليس في ميدان الهبوط التاريخي من الموقع الإسلامي للقضية، إلى الموقع العربي، فإلى موقع دول تواجه وأخرى تساند، فإلى موقع مسؤولية فلسطينية ومساندة عربية، وإنما كان التراجع من الناحية الموضوعية لمنهج التعامل مع القضية بالتخلي عن هدف التحرير نفسه، بعد اختزالها وحصرها في النطاق الفلسطيني، وكان من أبرز ما ظهر للعيان على هذا الصعيد إعلان رئيس المنظمة ياسر عرفات، في الثاني والعشرين من أيار/ مايو عام ١٩٧٥م، أنه “لا توجد نية للقضاء على إسرائيل بالقوة، وأن الهدف البعيد هو إقامة دولة ديمقراطية للشعبين الفلسطيني واليهودي”.

٣ – حملة المقاطعة العربية الرسمية لنظام الحكم المصري في عهد السادات بعد كامب ديفيد، واعتبار الطريق الذي سار عليه طريقا انفراديا، وهو ما يمثل الرؤية الرسمية المطروحة -كما يراد لها شعبيا- بمظهر رفض السلام مع دولة احتلال باطل، والواقع أن تلك المرحلة بالذات شهدت انتقال السياسة العربية من التلميح بعد عام ١٩٦٧م إلى التصريح بعد حرب ١٩٧٣م، بأنها تخلّت عن هدف التحرير وتبنت هدف التسوية السلمية، فلم تكن نقطة الخلاف تدور على أصل عقد دولة عربية كبرى اتفاقية سلام مع دولة احتلال باطل قائم على جزء من الأرض العربية، إنما كان الاختلاف المعلن أن الاتفاقية كانت انفرادية، ولم تكن جماعية. وبالفعل كان يجري الإعداد على قدم وساق، بمعنى الاتصالات وممارسة الضغوط العربية-العربية، إلى أن اكتمل مشروع السلام العربي، وطُرح على قمتي فاس الأولى والثانية؛ ليمثل في عام ١٩٨٢م خطوة جماعية تالية على طريق الاعتراف بدولة الاحتلال الباطل، وليس على طريق تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطينية فيها.

٤ – كذلك فإن الإعلان من جانب منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٨٨م، عن قيام دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني، جرى تسويقه على المستوى الشعبي كحدث تاريخي على طريق التحرير، والواقع أنه جرى توظيفه كخطوة حاسمة في طريق تصفية القضية، من خلال إعلان المنظمة نفسها القبول بالقرارين رقم ٢٤٢ و٣٣٨ لمجلس الأمن الدولي، وهو ما اعتبر اعترافا ضمنيا بدولة الاحتلال، فلم تجد الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك بشهر واحد مانعا من إجراء أول جولة مفاوضات مع المنظمة “الإرهابية” في نظرها، وهو ما أوصل واقعيا إلى أوسلو عام ١٩٩٣م، ثم إلى إلغاء البنود ذات الصلة بتحرير فلسطين من ميثاق المنظمة في عام ١٩٩٦م.

جميع هذه المحطات المفصلية في تعامل الأطراف الرسمية -العربية والفلسطينية- مع قضية فلسطين، كانت قبل عام ١٩٩٠م، أي على وجه التحديد قبل سقوط الشيوعية ومعسكرها وقبل حرب الخليج الثانية، ويعني ذلك أن الرؤى العربية والفلسطينية الرسمية لمستقبل فلسطين، هبطت من مستوى هدف التحرير إلى مستوى قبول دولة الاحتلال، والاستعداد للسلام والتطبيع حتى دون قيام دولة فلسطينية على جزء من الأرض وبسيادة مقيدة كما تطرح مشاريع السلام المزعوم، ولم يكن هذا الهبوط -كما يقال أحيانا- اضطراريا نتيجة فقدان الصديق السوفيتي في مطلع التسعينات من القرن الميلادي العشرين، أو -كما يقال أحيانا أخرى- نتيجة مغامرة احتلال الكويت وتسليم أمن المنطقة للإرادة العسكرية الأمريكية عبر حرب الخليج، إنّما بدأت مسيرة الهبوط قبل تلك الأحداث، وكانت من الناحية الواقعية مرحلة تالية لمراحل سبقتها قبل النكبة الأولى وبعدها.

كلمة حول الرؤية الإسرائيلية لدولة فلسطينية

لا تكتمل معالم الصورة دون التنويه بتلك المحاولات المستهجنة لتصوير الجهات الإسرائيلية التي تتحدث عن السلام وبما يشمل قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة الاحتلال، وكأنها تمثل قوة فاعلة في صناعة القرار الآن، أو أن من المحتمل أن تصبح هي صاحبة القرار في المستقبل المنظور.. مثل هذا الترويج يتغافل عن أن النسبة العظمى من الحكومات المتعاقبة على السلطة في دولة الاحتلال قامت في الدرجة الأولى على الأحزاب اليسارية الموصوفة بأنها أقرب إلى السلام، وتُعتبر رؤيتها لدولة فلسطينية، متطابقة أو متقاربة مع ما يسمى حركة السلام.

إن الحد الأقصى الذي مضت إليه أي جهة إسرائيلية تتحدث عن السلام لم تصل بأطروحاتها إلى ذلك الحد الذي بدأت به قضية فلسطين في قرار التقسيم عام ١٩٤٧م، ولا تكاد تجري عملية لاستطلاع الرأي العام الإسرائيلي، إلا وتسفر عن تأييد الغالبية لمختلف وسائل العنف المستخدمة لإرهاب الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة أو التسليم، ووصل تأييد قيام دولة فلسطينية في حالات نادرة إلى ٦٠ في المائة، ولكن كان ذلك بصورة واضحة تحت تأثير معادلة الردع التي صنعتها عمليات المقاومة، وكما انهارت اتفاقية أوسلو -الأمنية واقعيا- فور التعرض لقضايا أساسية كالقدس، ومصير المستعمرات، ومجرى الحدود، وحق العودة، فإن نسبة ٦٠ في المائة (النادرة) وراء تأييد قيام دولة فلسطينية، سرعان ما هبطت مجددا إلى حد التلاشي عند ذكر هذه العناصر، ناهيك عن ذكر عنصر السيادة الكاملة أو امتلاك السلاح.

ويبقى أن ما وصلت إليه رؤى الحكومات الإسرائيلية المعنية في حقبة أوسلو حول دولة فلسطينية، وعلى شكل كلمات عابرة وليس مشاريع اتفاق جاهزة بقي في حدود الحديث عن نسب مئوية من أرض محتلة عام ١٩٦٧م، أي نسبة مئوية ما، من أصل ٢٢ في المائة من مساحة أرض فلسطين المغتصبة.

وهذا ما تتحرك في إطاره الرؤى التي تطرحها الحكومة الأمريكية أيضا، كعنوان دون مضمون، لإدراجها في قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي. ومرة أخرى يُطرح السؤال: هل تتجاوز هذه الخطوة كونها محاولة إلهاء عن حقيقة الجهود الكبرى المبذولة للقضاء على حقبة أخرى من تاريخ المقاومة الفلسطينية التي وصلت في انتفاضة الأقصى إلى ذروة جديدة من العطاء (وتجاوزت ذلك عام ٢٠٢٣م لاحقا عبر طوفان الأقصى) ومن تطوير الوسائل الذاتية، وما يسمى إدارة المعركة؟

إن التفاعل مع مثل تلك الرؤى المطروحة حاليا، سيان ما هو عنوانها ومن يطرحها، لا يعدو أن يكون مشاركة مباشرة في ضرب الانتفاضة كلما تجددت، وبالتالي ضرب طريق المقاومة المشروعة لتحرير الأرض، أو يكون ناتجا عن جهل شديد بمعطيات التاريخ، في قضية فلسطين وخارج نطاقها، وبمعطيات الواقع أيضا، فقد أصبح شاهدا أكثر من أي وقت مضى، على أن صانعي القرار في العالم المعاصر، لا يتعاملون إلا بمنطق القوة، بمختلف أشكالها، ولا يستجيبون إلا لمن يوجد لنفسه الأسباب والمعطيات الضرورية لاستخدام القوة عند الحاجة أيضا.

هذا ما يفرض إيجاد أسباب القوة اللازمة، عند طرح رؤية مستقبلية ذاتية لقضية فلسطين، والتي لا ينبغي بحال من الأحوال أن تخلو من عنصرين أساسيين، أولهما إنهاء حالة الاحتلال القائمة على أرض فلسطين منذ عام ١٩٤٨م، وثانيهما أن يكون أي تصوّر لكيان فلسطيني محلي أو مشترك، في نطاق المنطقة العربية والإسلامية من حوله، تصورا صادرا عن المعطيات الموضوعية الواقعية في هذه المنطقة، دينيا، وحضاريا، وتاريخيا، فذاك ما لا غنى عنه لتحقيق الاستقرار على المدى القريب والبعيد.

ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب