التشريد الأول

تشريد تحت القصف.. فكيف ستكون العودة؟

ذاكرة شخصية – ناهزت ٨٠ حولا من العمر، وما زلت أشعر بالاعتزاز لولادتي في فلسطين، وهي من أطهر بقاع ديارنا

0 348
٥:٢٥ دقيقة

ذاكرة شخصية

التشريد من عكا

ما أعرفه عن سنوات الطفولة الأولى إنما أعرفه في الدرجة الأولى عبر أحاديث أمي لنا، ومن ذلك إقامتنا في دوما في مزرعة جدي لأمي، وهناك بدأ وعيي على مشاهد أولى متداخلة ومتفرقة، وهناك ولدت أختي الأصغر بين أخواتي الثلاث، بينما كانت ولادة أخويّ الأصغرين في دمشق لاحقا، وكنت بذلك الأوسط بين ثلاثة قبلي وثلاثة بعدي من الإخوة الثلاثة والأخوات الثلاث، وكنت آخر من ولد منهم في فلسطين التي أقام والدي فيها بالمجموع سبعة عشر عاما، يعمل في مؤسسة سكة الحجاز في حيفا ثم في عكا حيث كان مولدي يوم ٢٩ من صفر ١٣٦٦هـ / ٢١ من كانون الثاني – يناير ١٩٤٧م، في فترة تصعيد مواجهات عسكرية غير متكافئة، بين أهل المدينة العزل من السلاح واقعيا، وبين تنظيمات مسلحة تتبع لعدو تدعمه دول عديدة، كانت تكيد العداء دوماً لأكناف بيت المقدس وتمارسه مباشرة وغير مباشرة، من قبل الحروب الصليبية ومن بعد. 

عندما بلغ بأبي اليقين أن مدينة عكا لن تستمر في صمودها طويلا، قرر أن ينقذ أفراد أسرته من القصف المستمر ليلا ونهارا، على أن يبقى من بعدهم فترة من الزمن، قبل اللحاق بهم إلى أقارب لنا كانوا في جنوب لبنان، ثم إلى دوما، ثم إلى دمشق، حيث كانت تقيم أسرته وأسرة أمي.

لم تكن عملية التشريد نفسها سهلة، فعلاوة على انشغال أهل البلد بمقاومة الاحتلال الأجنبي الجديد، كانت الإمكانات الذاتية ضعيفة، وتتعرض للنهب والسلب علاوة على القصف، ولم يكن يوجد تنظيم محكم لعمل المقاومين من عامة السكان ومن بعض المنظمات الحديثة التشكيل، وهذا ما انعكس في قلة وسائل النقل، ويقال -والعهدة على الراوي- إنني مع بعض إخوتي قد أدخلونا إلى الحافلة عبر النوافذ، وكنت في تلك الفترة دون السنتين من العمر.

***

كان هذا التشريد الأول ووقع بعده أكثر من تشريد آخر، وصحيح أنني لا أميز بين أرض وأرض ووطن ووطن، من بلادنا وأوطاننا، ولكن الحياة في المغترب خارج حدود بلادنا، تعني التشريد في الشتات حتى وإن توافرت ظروف معيشية أفضل. هي ليست مجرد مشاعر، وإن كان التعبير عن المشاعر بالشعر يحفظها، كما في هذه الأبيات المعدودة تحت عنوان “ديار أناجيها”:

لم يسجدِ الهامُ إلاّ شطرَ قبلتِها
أو يطلبِ النورَ إلاّ عند كعبتها
وهل يطيبُ مُقامٌ كالمُقامِ بها
أم هل تطيبُ حياةٌ دونَ رؤيتها

تفديكِ مكّةَ أرواحٌ وأفئدةٌ
لم تعرف العزَّ إلا عبر عزّتِها

 

وحبُ طيبة من حب الرسول وكمْ
أرجو الشفاعة من ساجٍ بروضتها

والقدس جرحٌ جرت أدماؤُهُ بدمي
كدماء عكا على أسوار قلعتها

 

والشام كالجمرة الحرّى على كبدي
تؤجج الشوق في عيني ودمعتها

تلك الديار أناجيها وأذكرها
وتوشك النفس أن تفنى بغربتها

***

عائلة شبيب موزعة على عدد من الأقطار العربية، منذ كانت تلك الأقطار أرضا عربية إسلامية، لا تعرف الحدود الفاصلة بين أرجائها، إلى أن جزأتها المؤامرات الاستعمارية، وشارك في التنفيذ فريق من العرب، وسقطت الدولة العثمانية فتحولت إلى أشلاء، وإذا بالعرب المشاركين في إسقاطها يتحولون إلى ضحايا للمؤامرات أيضا، وبعد فترة وجيزة، أصبحت فلسطين هي الضحية الكبرى، وأصبحت الأنظمة نفسها مسؤولة عن استمرار التجزئة، واستمرار التخلف، واستمرار نكبة فلسطين إلى يومنا هذا، وكذلك عن استمرار بقائي وأمثالي منذ عقود محرومين من الاستقرار في موطننا الأصلي، بالإضافة إلى حرماننا من حقوق وحريات أساسية، نتطلع إلى يوم العودة، عودة من بقي من المشردين ومن ذرياتهم إلى أراضيهم وعودة الوطن إلى أهله.

وإلى لقاء قادم مع ذاكرة الأيام، أستودعكم الله، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

* * *

حرر النص الأصلي لأولى إصدارات مداد القلم ونشر يوم: ٢٣/ ٩/ ١٤١٨هـ و٢١/١/١٩٩٨م، وينشر مجددا في هذه الإصدارة من محطة إضاءات بعد تعديل التبويب والإخراج.