استراحة – وعكة صحية

هذا يعالَج من وعكة صحية في أرقى المستشفيات الغربية وذاك إنسان لا يجد العلاج داخل بلده العربي

56
عملية جراحية

ــــــــــ

قد يمكن فهم لجوء حاكم سوداني للعلاج خارج بلده، فممّا يرمز إلى مستوى الوضع الطبي في السودان أنه لا يوجد سوى طبيب واحد لكل ٣٣٠٠ نسمة، ولكن هل يسري ذلك مثلا على الجزائر وفيها طبيب لكل ٨٥٠ أو لمصر وفيها طبيب لكل ٤٠٠ نسمة، علما بأن هذا العلاج خارج الحدود هو ما يحصل فعلا لغالبية “الزعماء الكبار”، وغالبا ما يكون البلد المقصود ألمانيا، وليس الفارق العددي كبيرا ففيها طبيب لكل ٢٧٠ نسمة.
لا ريب في وجود أطباء أكفاء على مستويات عالية في البلدان العربية، بل ونسمع عن تسجيل سوابق متميزة، جراحية علاجية وبحثية علمية – رغم كثير من المعيقات – في السعودية حينا، وفي مصر أخرى، بل حتى في قطاع غزة الفلسطيني المنكوب بأمراض عربية أخرى لها علاج ويأبى المصابون بها علاجها!
كما أن الثابت بالمعايشة المباشرة لمن يعيش في الغربة – من أمثال كاتب هذه السطور- أن الكفاءة لا تحمل جنسية دون أخرى، وأن التألق في عالم الطب لا يعرف التمييز العنصري، ولا عقدة الخواجة، بل يعرف الجد والاجتهاد والإنجاز، ويشهد على ذلك وجود أطباء أكفاء من البلدان العربية في كثير من البلدان الغربية، بنسب مذهلة أحيانا، قد تفسر جزئيا على الأقل أسبابَ تفاوت النسب العددية المذكورة آنفا ما بين البلدان العربية وبلد كألمانيا. بل من هؤلاء الأطباء العرب المتميزين من يدير أقساما متخصصة في المستشفيات، ومنهم من يُعتبر مرجعا في اختصاصه، وأحسب أن جميع هؤلاء يسري عليهم فخ الوقوع ما بين المطرقة والسندان، فيما يسمى هجرة الأدمغة أو هجرة الاختصاصات، سواء كان القبول بحياة الغربة “متعة ونعمة” بسبب حرص الفرد على حياة كريمة ماديا (وكأن هذا الحرص جريمة!) أو كان “نقمة مرّة” بسبب سيادة الفساد على الكفاءة وسيادة القمع على الأمن في موطنه العربي الأصلي (وتلك جريمة فعلا!).

شرد القلم عن أصل الموضوع فمعذرة! على أي حال لا تعود ظاهرة لجوء كثير من عموم المرضى من البلدان العربية، لا سيما الثرية، إلى غياب إمكانات العلاج فيها (إلا في حالات نادرةٍ نَدْرةَ أن ما يجري علاجه عبر التوجه إلى بلدان أجنبية هو من الأمراض العويصة حقا) إنما القسط الأعظم من أسباب انتشار هذه الظاهرة –  وكثير من أشباهها – هو ما يسمى “عقدة الخواجة” المتوارثة، ويبدو أن هذه العقدة جزء من ثقافة “القدوة الحسنة” المزعومة في الدولة، فمن حينٍ إلى آخر ينتشر خبر لجوء الرئيس الفلاني أو الملك الفلاني أو الأمير الفلاني من البلد العربي الفلاني، للعلاج في البلد الغربي الفلاني، والمفروض أن الزعيم السياسي الفلاني قدوة، أو ينبغي أن يكون قدوة، فإما أن يلحق به مواطنو بلده من المرضى للعلاج في الخارج أيضا، أو لا يستطيعون تأمين “التكاليف” مثله ومثل من تُحيط حظوتُه برعايتهم، صحيا أيضا، وآنذاك قد لا تكون النتيجة أن يرفع المواطنون المرضى وغير المرضى أيديهم بالدعاء لشفاء زعيمهم!

ويصرّ القلم هنا – فأطيعه – أن يشرد ليشير إلى أن تكاليف علاج المرضى العرب في بلدان غربية (للعلاج الطبي، ناهيك عن الإقامة والمنامة والطعام وحتى التبرع لإنقاذ حدائق الحيوان والسياحة فضلا عن التسوّق، وعن غير ذلك مما لا يليق ذكره ولا فعله!) تكاليف العلاج الحقيقية المباشرة فقط تعادل في كثير من الأحيان ما تزامن إنفاقه في المدن الغربية المعنية نفسها لبناء مستشفيات حديثة عملاقة مع تجهيزاتها الضخمة!

ولا أحسب أن الزعماء يعالَجون مجانا، أو تسري عليهم تخفيضاتٌ ما على سبيل “الهدية”، فذاك من نوعية الهدايا الخارجة عن نطاق التقاليد السياسية الغربية، مهما بلغ سخاء بعض الزوار المرضى ومرافقيهم فيما يوزعونه يمنة ويسرة، مما شاعت كلمة “البقشيش” العامية في وصفه، حتى وإن بلغ ما يعادل دخل شهر أو دخل عام بأكمله لبعض الأسر في بلادهم!
كذلك لا أحسب أن تكاليف علاجهم منفصلة (فعلا، وليس شكليا) عن واردات بلادهم المالية، حتى وإن لم تجد من يجرؤ على طرح السؤال: من أين لك هذا؟
إنما أحسب أن من الواجب النصيحة ألا يتحدّث من يعتبرون أنفسهم الزعماء العرب الكبار عندما يُعالجون في الخارج عن “وعكة صحية”، ولا حتى عن “استئصال الزائدة الدودية أو المرارة!” وما شابه ذلك، فمثل هذا الحديث الرسمي يبدو ضربا من ضروب “الضحك على الذقون”، بما في ذلك ذقونهم، كما يقال.

إما أنها وعكة فعلا، والوعكة لا تتطلب جمعا من مشاهير الأطباء الغربيين، في مستشفى مجهز بأحدث ما صنعه الغرب، وسط إجراءات أمنية تتجاوز نفقاتها نفقات السفر والعلاج، علاوة على فراق أكثر ما يعز فراقه على الزعيم!.. أن يترك مقر تسيير أمور حكمه، حتى ولو لبضع ساعات أو أيام، أو أكثر!
إما أنها وعكة فعلا فلا تستحق شيئا مما سبق، أو أنها ليست وعكة، فماذا يقال عن القول بها في بيان رسمي؟ كذبة غير صحية!
ثم إذا كانت “وعكة صحية” فعلا، فلنتصور لو أن كل مواطن يصاب بوعكة يأخذ إجازة مرضية، فيترك عمله ويسافر على حساب الدولة للعلاج، أو لما يوصف بالسياحة الطبية، ألن يوقف تسديد رواتبه، ويطرد من عمله قبل عودته؟
لا يسري هذا بطبيعة الحال على الزعماء “الكبار” فالاستغناء عن خدماتهم محظور كحظر الحديث عن حقيقة وضعهم الصحي!
إنما لا يسري عليهم أيضا أن يكون المقصود من الحديث الرسمي عن إصابة خفيفة لا خطر فيها، هو تعمّد نشر مزيد من الإحساس بتمييز طبقي بين إنسان وإنسان في البلد العربي الواحد، فهذا يعالَج من وعكة صحية في أرقى المستشفيات الغربية، وذاك لا يجد العلاج أصلا داخل بلده العربي لأمراض خطيرة تصيبه أو تصيب أحباءه في أسرته!
أما إذا كان القصد – كما يقال أحيانا – هو عدم نشر البلبلة حول الوضع الصحي للزعيم الكبير، فالبلبلة تنتشر عندما يكون الخبر الرسمي غير قابل للتصديق، وإن السعي لأعلى مستويات العلاج مع ادعاء عدم وجوده في الوطن الأصلي ومع إنفاق كلّ تكاليفه الباهظة، من أجل وعكة، هو أمر غير قابل للتصديق فعلا!!
لهذا تنتشر التساؤلات “المغرضة!” وقد تصل إلى مستوى: من سيرثه إذا مات! حتى وإن كانت هذه التساؤلات محظورة، بل إن الخطورة تعشعش في حظرها، فهو الذي يجعل الشك يقينا، ويجعل المنع من الكلام الصريح دعما لانتشار سواه من الكلام بعلم ودون علم، لا سيما عندما يلعب الكلام “المغرِض” ببوارق التمنيات والآمال لدى غالبية المواطنين البسطاء الشرفاء، من المرضى وغير المرضى، أن يعيشوا بما فيه الكفاية لمعايشة عهدٍ ميمون آخر!
مثل هذه التساؤلات محظور وقد يفضي بمن يطرحه في الإعلام إلى الملاحقة والمحاكمة، رغم أن الزعيم ليس من “الجنّ”، ولو كان كذلك، فإنما يسري عليهم – كما يؤكد قرآننا العظيم – أنهم مثل البشر، يتناسلون ويؤمنون فيصلحون أو يكفرون ويكيدون كيدهم، ثم يموتون، ثم إن كل ما عليها فان، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، ويأتي يوم الحساب بين يدي العزيز الديان، حيث لا يفيد مال ولا بنون، ولا الأطباء ولا الجند المجندة، إلا من أتى الله بقلب سليم!
ودعنا ممن يتحدث بحديث المنطق السليم (فالمنطق السليم يبدو “مرضا” بمنظور نزلاء بعض المستشفيات!) فيقول إن الإعداد العلني المنظم لِما بعد غياب الزعيم الكبير، لا سيما إن كان من صنف الحاكم بأمره، هو الأهم والأشدّ إلحاحا والأكثر أمانا لمصير البلد وأهله، وحتى لنوعية نظام الحكم فيه، من المحاسبة العبثية الترهيبية على انتشار “الشائعات” رغم حظرها! وما أخطر أن يموت الزعيم الحاكم بأمره فعلا، هكذا فجأة، بينما الناس يحسبونه سليما معافى من كل مرض بشري، وقبل أن يستكمل هو الإعداد لِما بعده وإن غلب ذلك على ظنّه، فينشب الخلاف والاختلاف والصراع وربما الاقتتال من بعده، ومن يدري فقد يكون من الضحايا من اختصهم بحظوته!
ولولا الحرص على ألا يطول الكلام لأسهب القلم في الحديث عن أبعاد تطوّر جديد مبتكر- وقد بات عالمنا العربي متخصصا في مثل هذه الابتكارات – ولم تطرحه بحوث العلوم السياسية حتى الآن، وهو ظاهرة تطويل عمر الاستبداد، عبر الأولاد والأحفاد، بجهود الآباء والأجداد، ليستمر الاستبداد من بعدهم، فلا تحزن الشعوب على رحيلهم!

شرد القلم مجددا.. فمعذرة، وليس الاعتذار بسبب الخوض في المحظور، بل بسبب تتابع الأفكار دون ضبط تسلسلها، فالحديث يجرّ بعضه بعضا كما يقال. ومما ينبغي قوله أيضا: من المفترض أنه لا وجود لمشكلة “علاج طبي” في بلدان عربية مثل الجزائر ومصر، فنحن لا يحق لنا إلا تصديق ما تقوله الإحصاءات والتقارير الرسمية داخل حدود بلادنا، وليس فيها ما “يشين” العهود الميمونة، ومن يرجع إلى المنشور غير المحظور سيجد قطعا أنه لا حاجة إلى أي إنسان للعلاج خارج بلده، لا سيما وأنه قد مضى على تراكم إنجازات هذا العهد الميمون أو ذاك، بما يشمل الطب والصحة وغيرهما، ما يعادل حياة جيل أو أكثر، أو ما يعادل عمر حالة “طوارئ”، وليس في أي بلد غربي “استقرار سياسي” مثل ذلك الاستقرار، فمن ذا يصدّق إذن أن سفر الزعماء للعلاج خارج بلادهم يعني الشهادة الرسمية على أن مستوى الطب قد تقدم في الغرب بالذات، في غياب مثل ذلك الاستقرار المزمن، وغياب تلك “العهود الميمونة المتطاولة” المزمنة، وفي غياب ما تسمح بصنعه دون محاسبة “حالات الطوارئ المزمنة”!
بلى لقد تقدّم هناك أكثر مما تقدّم في البلدان “المتمتعة” بهذا كله ومزيد عليه، حيث انتشرت أمراض مستعصية مزمنة، وعادات مرضية مزمنة، وغير ذلك مما لا يريد القلم ذكره، كيلا يشرد كلية عن أصل الموضوع، حتى وإن كان يعذره أنه يكتب خواطر في باب “استراحة المداد”، عساها تثير البسمة على الوجوه، وإن كانت بسمة مريرة مرارة العلقم، ومرارة دواء لداء لا شفاء منه، وفق ما يقول أحد شعراء لغة الضاد!

ملاحظة لغوية أدبية، ولتكن من باب “شرود القلم”:
في الحديث ما معناه: لكل داء دواء، وهذا ما يدفع بعض المتسرعين إلى إنكار قول من قال: لكل داء دواء إلا الحماقة أعيت من يداويها، بل وإنكار الاستشهاد به أحيانا، وفي هذا إغفال أسلوب لغوي في هذا القول، وهو اختلاف نوعية المستثنى (وهو هنا: “الحماقة”) عن نوعية المستثنى منه (وهو هنا: الداء) أي أن الحماقة ليست داء من الأدواء، وسوف يعيى من شدّة التعب دون جدوى، مَن يسعى لبلوغ الشفاء منها عبر تعاطي الدواء، كما يُصنع عادة في حالة الإصابة بداء من الأدواء!

نبيل شبيب