أسماء – هيلين توماس.. عجوز متهوّرة؟

كلمات هادئة حول حملة صاخبة

حياة حافلة بالنجاح الإعلامي تختتم بالسقوط بسبب عبارات جريئة تعبر عن موقف جريء

75
لا يكفي ما يقوله المنصفون في الغرب أحيانا، إنما يصنع الانتصارَ في القضايا العادلة عملُ أصحابها الهادف المتواصل
٧:٣٠ دقائق
التسجيل الصوتي

النص المقروء

هيلين توماس توفيت في العشرين من تموز يوليو سنة ٢٠١٣م عن عمر ناهز اثنتين وتسعين سنة، وقد عاصرت عشرة رؤساء أمريكيين، من خلال مهنتها الصحفية لمدة 70 سنة، وكانت مراسلة صحفية دائمة في مقر الرئاسة الأمريكي على امتداد خمسين عاما، وترأست نادي الصحافة الوطني للنساء الأمريكيات عام 1960م، ولم ترهقها أعباء عملها أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم تتأثر مسيرتها الصحفية عندما رفضت -باعتبارها كبيرة المراسلين- أن تختتم المؤتمرات الصحفية لبوش الابن بالعبارة المعتادة “أشكرك أيها الرئيس” بصورة استعراضية) ولم يطردها سادة “البيت الأبيض” بسبب حملاتها الصحفية الشديدة ضدّ حربهم العدوانية في فييتنام قديما، ولا بسبب حملاتها الأشدّ ضدّ حربهم الإجرامية في العراق لاحقا، ولكن لكم أن تتصوروا أيها الكرام، أنها سقطت في عهد أوباما، بالتزامن مع مرور عام على كلمته المنمّقة الشهيرة في القاهرة.. وقد أسقطتها عبارةٌ صدرت عنها، ومؤدّاها أن فلسطين أرض الفلسطينيين وليست أرض اليهود، وأنّ على هؤلاء الرحيل عائدين إلى بلادهم الأصلية، ألمانيا وبولندا وأمريكا وسواها! ويحدثوننا عن حرية الإعلام ومكانة الإعلام في الغرب!

زلة لسان؟

ولمن لا يعرف من كانت هيلين توماس، فليعلم أنها ولدت عام 1920م كابنة لأحد المهاجرين اللبنانيين إلى دولة يشمل سكانها السود والبيض والحمر وسواهم، ويشمل سكانها المسيحيين والمسلمين واليهود وسواهم، وكانت فخورة بانتمائها إلى ثقافتين كما قالت عند محاولة التلميح إلى ذلك بسبب انتقاداتها العلنية للممارسات العدوانية الإسرائيلية، إنّما كانت انتقادات خفيفة، لا تتجاوز الخطّ الأحمر، والخط الأحمر هو التصريح العلني بمصداقية الحق التاريخي والقانوني الدولي لأهل فلسطين بفلسطين، كحقيقة ثابتة، كما هي دون تضليل.

وعندما صدرت عنها العبارة المذكورة كانت على وجه الترجيح متأثرة بالتعامل مع سقوط عدد من المتضامنين من أنحاء العالم على متن أسطول الحرية، ضحيةً للإجرام الإسرائيلي، فكانت تلك الحادثة بمثابة القشّة التي قصمت ظهر بعير الخطّ الأحمر، فدفعت ابنةَ التسعين عاما إلى قول ما قالت، وذلك  بكامل وعيها، فهي صاحبة خبرة إعلامية وقدرة مشهودة على التعامل مع مختلف ألوان الطيف السياسي الأمريكي، فلم تكن عبارتها زلّة لسان، بل كانت مع استعداد مسبق لأن تختم حياتها المهنية بكلمة تدخل سجلّ التاريخ الأمريكي، ويمكن أن تساهم ولو يقسط ما، في كتابة صفحة مستقبلية أخرى فيه.

حتى الاعتذار الاضطراري تحت الضغوط، والذي صدر عنها قبل استقالتها الرسمية، لا يغيّر من ذلك شيئا، لا سيما وأنّ عباراتها في نص الاعتذار لم تتضمّن كلمة واحدة تنفي من خلالها صحّة ما قالت قبل أيام، عامدةً متعمّدة، بالكلمة والصورة، في حوار مباشر مع موقع شبكي يهودي أمريكي، بل اكتفت في الاعتذار بالقول إنها تعتقد بضرورة السلام في المنطقة بتوافق جميع الأطراف فيها، وهو ما يعبّر عمّا يقال على نطاق واسع في الوقت الحاضر، وعنوانه الحقيقي: “سياسة واقعية” عرجاء على حساب “حق تاريخي” ثابت.

تراكم الاستياء

إنما نرصد أيها الكرام شعورا بالمرارة يفعل فعله في تعليقات كثير من قرّاء بعض المقالات المعدودة بالعربية حول ما صنعته هيلين توماس وختمت به مسيرتها الإعلامية الطويلة، والمحور الرئيسي لتلك التعليقات هو مخاطبة الأمريكيين بكلمات من قبيل: “لم لا تصرّحون بمثل هذه المواقف وأنتم في أوج تألقكم المهني؟ لم تنتظرون حتى اللحظة الأخيرة أو إلى ما بعد مغادرتكم كراسي المناصب التي تشغلونها؟”

لا ريب في سلامة هذه التساؤلات من حيث الأصل، ولكنها لا تتناسب مع مسيرة الصحفية العجوز من قبل، ثم لا يصح إغفال عوامل أخرى بهذا الصدد على ضوء المثال الذي يعطيه موقف هيلين توماس والتعامل معه، ومن ذلك:

أولا- لا يرتبط العمل لقضية فلسطين في الغرب مع ما يصنعه أي مسؤول سياسي أو إعلامي هناك، وإن كان بمكانة الولايات المتحدة الأمريكية، بقدر ما يرتبط بالعمل من أجل القضية من جانب أصحاب الحق فيها، فهذا ما يجعل التضامن العالمي يتأرجح بين يوم وآخر، وهو ما قد يدفع مسؤولا ما إلى قول ما كان يمتنع عنه، بغض النظر عن المخاطرة بالمنصب.

ثانيا- الأعمّ الأغلب هو الانحياز المطلق لصالح الباطل الصهيوني وهو انحياز مرتبط ارتباطا وثيقا بتلاقيه مع ممارسات الهيمنة الغربية الباطلة عالميا، ولكنّ المواقف غير المنحازة باتت كثيرة متكررة، ومن أمثلتها كتاب “السلام أو العنصرية” للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، وتكشف هذه المواقف أنّ الانحياز قائم على التزوير المتعمّد، ولا يستند حتّى إلى جهل مزعوم بما تفرضه مبادئ العدالة والحق.

ثالثا- المواقف لا تغيّر فوراً الكثير من واقع السياسة المنحازة، ، ولكن لا يصح الشعور بالمرارة إن تأخرت، فالذي يمكن أن يغيّر مجرى السياسة والممارسة هو العمل الدائب للقضية من جانب أصحابها على أرض صناعة الحدث محليا ليترك آثاره الفعالة دوليا.

رابعا- تبقى للمواقف المعنية قيمة ذاتية، تظهر مع تراكمها، موقفا بعد موقف، فالتراكم يتحوّل إلى ضغوط شعبية أكبر، لا سيما عند الكشف في الوقت نفسه عن استحواذ “فئة” محدودة العدد، منحرفة المقاصد، عدوانيّة الممارسات، على مفاصل القرار من وراء واجهات سياسية منتخبة، ومسؤولين غربيين يُفترض بهم تمثيل مصالح ناخبيهم من غالبية شعوبهم!

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.