أبعاد التفاهم بين أنقرة والقاهرة

بين سياسة القيم وسياسات المصالح

تحليل – تطور علاقات المصالح الثنائية متواصل دون انقطاع رغم الحملات الكلامية المتبادلة

119
١٠:٠٥ دقائق

تحليل

الأسئلة كثيرة حول التفاهم المصري التركي الذي بدأ نهاية عام ٢٠٢٠م أو مع مرور العقد الأول على انطلاقة ربيع الثورات الشعبية العربية. ويعود كثير من الأسئلة إلى تأثير اللهجة المتدنية في خطاب يوصف بالإعلامي حول العلاقات بين البلدين، ومن تلك الأسئلة مثلا:

هل سقطت القيم ضحية المصالح؟ هل يبيع إردوجان الإخوان في تركيا؟ هل تتراجع السياسات التركية في ليبيا وسورية؟ هل انتهى تأييد تركيا للثورات الشعبية؟ هل تبدأ المساومات على ثروات شرق المتوسط؟

قبل محاولة تحديد أسئلة موضوعية ومحاولة الإجابة عليها من باب التحليل والترجيح، يحسن التأمل في جوهر تطور العلاقات الثنائية تاريخيا. ولا نعود إلى تقلب العلاقات عبر القرن الميلادي العشرين،  إنما ننظر في أبعاد التفاهم  بين البلدين على خلفية آخر التصريحات والمواقف الرسمية منذ أيلول / سبتمبر ٢٠٢٠م، وإلى المعالم الكبرى لتطور العلاقات الثنائية منذ مطلع القرن الميلادي الحادي والعشرين. وهي علاقات مصلحية ثنائية متنامية باطّراد، طوال عشرين عاما ونيف رغم اختلاف التوجهات السياسية.

الواقع أن الأسس وضعت في عهد الرئيسين الأسبقين، المصري حسني مبارك والتركي سليمان ديميريل، ومن مؤشرات عمق ما تحقق آنذاك قيام مبارك بالذات بالتوسط سنة ١٩٩٨م لنزع فتيل الأزمة بين تركيا وسورية على خلفية دعم نظام الأسد الأب لحزب العمال الكردستاني.

ثم لم يتوقف تطوير العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا، بعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عبر انتخابات ٢٠٠٢م، وتواصل هذا التطوير في العقد الأول من القرن الميلادي الحادي والعشرين، أي قبل أن يتجلّى ما يوصف بالتوجّه الإسلامي في سياساته في تركيا وإقليميا، واستمر التطور على ذلك إلى ما بعد انطلاق الثورات الشعبية العربية، وكان من أبرز المحطات على هذا الطريق:

توقيع اتفاقية للتجارة الحرة عام ٢٠٠٥م..

وعقد صفقة للغاز الطبيعي بين البلدين بقيمة ٤ مليارات دولار..

وتوقيع مذكرة تفاهم وتعاون عسكري واقتصادي يوم ١٦ / ٤ / ٢٠٠٨م..

ثم لم يتبدل مسار هذا التطور عقب انطلاق الثورة الشعبية في مصر ورحيل مبارك عن السلطة، فكان من المحطات الرئيسية زيارة الرئيس التركي السابق عبد الله جول للقاهرة واجتماعاته مع قادة المجلس العسكري الحاكم واقعيا سنة ٢٠١١م..

ثم بعد وصول محمد مرسي لمنصب الرئاسة عام ٢٠١٢م ونجاح جماعة الإخوان المسلمين في معظم الجولات الانتخابية في مصر، جاءت زيارة إردوجان للقاهرة وهو رئيس للوزراء عام ٢٠١٣م، لتكون واقعيا محطة لا تختلف كثيرا عن محطات سابقة من حيث توطيد العلاقات الثنائية وتنمية الحركة التجارية والاستثمارات وحتى التعاون الاستخباراتي وكذلك العسكري لا سيما عبر المناورات البحرية المشتركة ؛ بل لم يقع تبدل كبير فور انقلاب السيسي سنة ٢٠١٣م، رغم القطيعة الديبلوماسية التي انطلقت من مصر أواخر العام نفسه، ردا على رفض الاعتراف بالانقلاب واحتضان كثير من الإخوان المسلمين، ولكن بعد حوالى سنة كاملة من وقوع الانقلاب، أي في منتصف عام ٢٠١٤م، كان لتصريحات إردوجان الحادّة في رفض الانقلاب وما صنعه في مصر أثرُها في تحويل مسار العلاقات السياسية والديبلوماسية نحو إطالة أمد القطيعة، ولكن دون أن يؤثر ذلك على متابعة نمو العلاقات الاقتصادية، التجارية والاستثمارية، مع أرقام قياسية في أعوام ٢٠١٧-٢٠١٩م، ثم تراجع ذلك سنة ٢٠٢٠م جزئيا فقط، وتحت تأثير جائحة كورونا في الدرجة الأولى، إنما بقيت تركيا تحتل المرتبة العاشرة في علاقات مصر الخارجية بين كافة دول العالم، كما احتلت المرتبة الرابعة في قائمة الدول التي تستورد السلع التجارية من مصر، ووصلت إلى المرتبة الثالثة عام ٢٠١٩م.

وحتى بعد تصعيد “الأزمة” الثنائية ما يزال يوجد ألوف من رجال الأعمال والمستثمرين من تركيا في مصر، ويوجد معهم أكثر من ٤٠٠ منشأة صناعية تركية يعمل فيها أكثر من ٥٠ ألف عامل، ولا تزال جمعية رجال الأعمال من البلدين تعمل منذ عام ٢٠٠٣م، وتضم مئات الأعضاء، ويصل حجم اصتثماراتهم المالية إلى ما يعادل ٨ مليارات دولار.

وما زالت الحركة التجارية في الذروة، وكذلك العلاقات الثقافية، بما في ذلك عمل المركز الثقافي التركي في القاهرة بموجب اتفاقية ثنائية منذ عام ٢٠١٠م؛ فلم تقطع الخلافات في عقد الثورات الشعبية عمله كما لم تقطع الأزمة الديبلوماسية العمل الطبيعي لسفارتي البلدين في القاهرة وأنقرة والقنصليتين في الإسكندرية وإسطنبول.

إن أول ما يظهر للعيان عبر التأمل في جوهر العلاقات الثنائية المصرية – التركية خلال عقدين هو ضرورة التمييز بين مفعول القيم، سلبا وإيجابا، في أداء الإعلام وصياغة التصريحات السياسية العلنية، مقابل غياب هذا المفعول في تبادل المصالح المادية على أرض الواقع.

ليست هذه معلومة جديدة، ولكن ليس سهلا البناء عليها عند محاولة الحصول على معالم المشهد الحقيقي عبر استخلاصه من حديث العسكري في السلطة عن الديمقراطية، وحديث السياسي في الإعلام عن القيم، وحديث صاحب المصلحة المادية عن القضايا الإنسانية، والحديث المتناقض بين ليلة وضحاها من خلال أداة إعلامية تتبع أحد هذه الأصناف الثلاثة.

*        *        *

لم تكن توجد حاجة إلى التفاوض طويلا، من أجل وقف حملات الهجوم الإعلامي المتبادل، والتي لا يمكن إدراجها تحت عنوان أنشطة إعلامية، فالطرفان يعلمان أنها لا تقدم ولا تؤخر إنما تسمّم الأجواء، أما التفاوض بمعنى الكلمة فيجري:

١- بحثا عن أرضية تحقيق المصالح في قضايا الخلاف الفعلي بين الجانبين، ومثال ذلك خلافات شرق المتوسط حيث يوجد مجال واسع للتفاوض على ما يحقق مصالح متبادلة.

٢- بحثا عن التعاون في ميدان يحقق المصالح للجانبين، ومثال ذلك مستقبل ليبيا، فقد أصبح استقراره قاب قوسين أو أدنى، وذلك من مصلحة الطرفين على كل حال.

٣- بحثا عن تحصيل فوائد من الطرف الآخر في قضية ليست قضية نزاع بينهما، ومثال ذلك قابلية توظيف النفوذ التركي في إثيوبيا لصالح مصر في أزمة سد النهضة، ويمكن هنا بالمقابل كمثال التفاوض على تعديل السياسات المصرية التي لا تراعي مصالح تركيا في جزيرة قبرص وفي بحر إيجة.

إنما توجد قضايا لا يتوقع التراجع فيها عن السياسات الحالية إلا في حدود ضيقة، وهنا يدرك الجانبان أين تقع تلك الحدود الضيقة من حيث الاستجابة لمطالب ما بصددها. من ذلك مثلا وجود الإخوان المسلمين في تركيا، فتهدئة حدّة الخطاب في وسائلهم الإعلامية مطلب في حدود ما يفيد الجانبين، أما ما يتجاوز ذلك، مثل تسليم “مطلوبين” للنظام في مصر، فغير متوقع لأنه يمس بقوة مكانة تركيا نفسها والثقة بها كدولة مضيفة.

إن كل تقارب بين البلدان العربية والإسلامية يخدم مصالح الشعوب فهي الباقية في نهاية المطاف، وإن كانت سياسات الأنظمة القائمة مرفوضة، ولا ينبغي الخلط بين سياسات رسمية تمارسها تلك الأنظمة في علاقاتها وبين المطالب الشعبية، كتلك التي عبرت عنها الثورات الشعبية العربية، وهي التي تملك منظومة القيم الإنسانية المشروعة والمقبولة شعبيا، وهذا ما وضع الجميع على “سكة” التغيير، ولا مجال للرجوع عن ذلك وإن تبدلت الأوضاع جزئيا أو كليا هنا وهنالك تحت تأثير المصالح المادية.

وأستودعكم الله وأستودعه شعوبنا في تركيا ومصر وأخواتهما ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب