لغتنا – انتهاك سيادة لغتنا العربية
معاول هدم اللغة العربية هي معاول هدم الإنسان العربي نفسه
السيادة اللغوية صنو السيادة الحضارية، وهدم صرح اللغة العربية يفتح بوابة سائر أشكال الغزو الأخرى
استوقفتني عبارات للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، في كتيبه القيم “من شوارد الشواهد”، حيث يقول: (يخلط الناس في الاستعمال بين العام والسنة، وهما مترادفتان، ولكن ليس في اللغة كلمتان بمعنى واحد، ولا بدّ من اختصاص كلّ لفظة بشيء لا تدلّ عليه الأخرى، فالسنة في الأصل للشدّة والقحط، والعام لليسر والرخاء -إقرأ سورة يوسف- والسنة عند العرب مرادفة الشدة والبلاء، تقول أسنت القوم، أصيبوا بالسنين، وأصابتهم السنة، والعام للسنة الشمسية والسنة القمرية، ومن تتبع كلام العرب وجد ذلك مستفيضا).
٠ ٠ ٠
لست قادرا على تتبع كلام العرب، فنظرت في بعض مواضع ورود اللفظتين، العام والسنة، في القرآن الكريم الذي حفظ هذه اللغة إلى يوم القيامة، فوجدت لفظة السنة مفردة وجمعا تسع عشرة مرة، ولفظة العام مفردة ومثنّى سبع مرات، ومن ذلك ورود اللفظتين معا في آية واحدة، هي الرابعة من سورة العنكبوت:
{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} فلفظة سنة وردت في هذا الموضع لتشير إلى ما احتمله نوح عليه السلام من قومه من الشدّة وهو يدعوهم فيعرضون عنه ويؤذونه، أمّا الأعوام الخمسون المستثناة من الألف فتناسبها لفظة “العام”.
وفي سورة يوسف التي أشار إليها الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله، قوله تعالى {وقال للذي ظنّ أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين} -الآية ٤٢- وقوله تعالى: {قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا ممّا تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ إلا قليلا ممّا تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} -الآيات ٤٧ إلى ٤٩- فكانت لفظة العام لحالة الغوث واليسر والرخاء، وكانت لفظة السنين لحالة الابتلاء بالسجن ولحالة القحط. ويمكن لمن شاء أن يتتبع المزيد في كتاب الله تعالى، وسيجد تطبيق القاعدة المذكورة يتكرر، فضلا عن استخدام الكلمتين في حالات “حيادية” إذا صح التعبير، بالمعنى المعروف للفترة الزمنية: اثني عشر شهرا، كما في قوله عز وجل {لتعلموا عدد السنين والحساب} -يونس ٥- وقوله تعالى {يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما} -التوبة ٣٧-
٠ ٠ ٠
هي وقفة استثارتها كلمات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وما أمسكت يوما بكتاب من كتبه، إلاّ ووجدت فيه مع المتعة التي تفوق كثيرا من ضروب ما يعتبره آخرون من متع الدنيا.. وجدت جديداً أتعلّمه، وتصويباً لخطأ جرى على القلم أو اللسان، وفائدةً من الفوائد في شتى المجالات، ولا سيما في عالم لغتنا العربية ورحابها المديدة الفسيحة، ممّا يجعل المرء يزداد هوىً وكَلَفاً بلُغته كلّما أمعن في سبر أغوارها والتعرف على أسرارها واستكشاف شاعريتها، جنبا إلى جنب مع فهم الطاقة الكامنة فيها لتستوعب التليد والجديد من المبتكرات، والبسيط والمتعمق من العلوم والاختصاصات.
ومع كل وقفة كهذه الوقفة عند كنز من كنوز لغة القرآن الكريم، يحلّق أحدنا في أجواء سامقة من الصفاء والأمل، مع أحلام بعيدة المدى مع أمته وحضارتها، ثم قد يجلس أمام الشاشة الصغيرة، فيهوله ما يسمع ويرى، ويتساءل متألّما:
من يكمن وراء تلك الألسن التي تدمّر لغة النشء تدميرا وتدعي الانتساب إلى العرب؟
من يزعم أن المتعة لا تتحقق إلا عبر الأذى المخطط له تخطيطا؟
ما الذي يجعل فريقا من بني جلدتنا على استعداد لبذل أقصى طاقاتهم وثرواتهم واختصاصاتهم في خدمة عدوّ بلادهم عبر تدمير لغة أمتهم، ولو بذلوا قسطا من ذلك في خدمتها لساهموا إسهاما كبيرا في تمكينها من تثبيت أقدامها على طريق النهوض؟
ثم كيف يسمح المسؤولون بهذا الذي يجري في فضائياتنا ووسائل إعلامنا الأخرى، بل في مدارسنا ومراكز الثقافة والفكر والفن على أرضنا، أم أنهم يتقصّدونه عمدا؟
حتى الجامعات التي تحمل رسالة صناعة إنسان المستقبل، باتت تغلب فيها لغة “الفرنجة والروم” -كما كان يسمّيهم آباؤنا- على لغة آبائنا.
٠ ٠ ٠
لقد بَعُد عهد بعض عرب أيامنا هذه بالعربية، وتنكّروا لها وهي من أعمدة وجودهم، وأغفلوا أنّ الاعتزاز باللغة جزء من الإحساس بالعزة، وأن السيادة اللغوية صنو السيادة الحضارية، بل إن اللغة كانت على مرّ العصور وما تزال مدخلا رئيسيا للنهوض، ومن هنا يتضاعف وزر جريمة من يعملون جاهدين لفصل بني قومهم عن لغتهم، إذ يساهمون بذلك في المساعي المغرضة الخطيرة لفصلنا عن قرآننا وإسلامنا وتاريخنا وحضارتنا الغابرة، كما يساهمون في نصب الحواجز والعراقيل في طريق النهوض من وهدة التخلف والتأخر.
إنّ معاول هدم اللغة العربية هي معاول هدم الإنسان العربي نفسه، وإن الغزو اللغوي أشد خطرا من أشكال الغزو الأخرى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، بل هو مفتاح لها جميعا، فمن خلاله يزيد التشتّت بين الأقطار العربية، وبينها وبين الأقطار الإسلامية الأخرى، ويترسخ الجهل على سائر المستويات وبين مختلف الفئات، وتتضاعف مظاهر التبعية لكل غثّ وافد أوصل في منشئه في بلاد الغرب إلى أمراض اجتماعية وخلقية لا حصر لها، باتت تنخر كالسوس في بنية التقدم التقني والمادي، فكأنّ المطلوب عند أولئك القوم هو استيراد تلك الأمراض التي عجز الغربيون عن إيجاد أدوية لها.
اللغة العربية تطالب كل أب وأم وكل أستاذ مدرسة، تطالب كلّ مفكر وأديب، تطالب المسؤولين من مختلف المستويات وفي مختلف المواقع، أن يبذل كلٌّ ما في وسعه، لإنقاذ لغته العربية، وأن يحاول بقدر ما يستطيع أن يكسر معاول الهدم الموجّهة إلى صرح لغته العربية، ولْيعلم أنّ ذاك شرط من شروط انتسابه لهذه الأمّة وإخلاصه في العمل على طريق النجاة والنهوض، على طريق إنقاذ أنفسنا وبلادنا وأمتنا والأجيال القادمة.
وأستودعكم الله وأستودعه لغتنا ومستقبلنا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب