ع ع – الشهيد العظيم عبد العزيز الرنتيسي
استشهد اغتيالا يوم ١٧ / ٤ / ٢٠٠٤م
ع ع – كان الرنتيسي، الذي اغتاله شارون وعصابته، إنساناً عظيماً، ولم يكن مناضلاً عظيماً فحسب
ع ع – مقالة
بعدَ أقلَّ من شهرٍ واحد من اغتيالِ الشهيدِ العظيم الشيخ أحمد ياسين مؤسِّسِ حركةِ حماس وزعيمِها الروحيّ، يُغْتال هذا اليوم: السبت السابع عشر من نيسان/ أبريل ٢٠٠٤م خليفتُه وزعيمُ الحركة من بعده في غزة: الشهيدُ العظيم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وتضعُ صواريخُ الأباتشي -في ظَنِّها- خاتمةً لحياتهِ الشخصيةِ الرائعة، ولملحمةِ حياتهِ التي دارتْ بينَ الظلمِ والعُدوان، ومقاومةِ الظلمِ والعدوان؛ وكانت جُزْءاً لا يتجزّأ من مَلْحَمَةِ شعبهِ وأرضهِ الكبرى، وتجسيماً لجوهرِ هذا الصراعِ التاريخيّ بين الحقّ والباطل، والقوةِ الماديةِ المسلّحةِ الغاشمة، والقوّةِ المعنويةِ المجرّدةِ من السلاح
طُرِدَ عبد العزيز الرنتيسي من بيته وأرضه وقريته وهو طفل رضيع، وتشرّد مع إخوته وأخواته وأسرته، وتجرعَ معهم، ما تجرّعَتْهُ كلُّ أسرةٍ فلسطينيةٍ مُهَجَّرَةٍ من مرارةِ التشرُّدِ والبؤس، وكابدَ أشقَّ الأعمال، وكافحَ أصعبَ كِفاح، لإعالةِ أسرته، وشقِّ طريقِه في الحياة
وطارده العدوانُ الإسرائيليّ، كما طارد مئاتِ ألوفٍ سواه من المشرّدين واللاجئين، يحتلُّ البلدَ بعدَ البلد، ويغتصبُ الأرضَ بعدَ الأرض ويُضيفُ الظلمَ إلى الظلم، والقهرَ إلى القهر
وعرفَ عبدُ العزيز الظلمَ والقهرَ طفلاً وصبيّاً ناشئاً
وعرفَ الظلمَ والقهرَ غلاماً وشابّاً واعيا
عرفَ الظلمَ والقهرَ عاملاً كادحاً، وعرفه طالباً ومتخرِّجاً، وعرفه طبيباً وأستاذاً، على الصعيدِ المعاشيّ، والصعيدِ الاجتماعيّ، والصعيدِ الثقافيّ، والصعيدِ السياسيّ..
وسِيقَ إلى السجنِ أكثرَ من مرّة: سجنِ الأعداءِ وسجنِ الأصدقاء، ووضعته السلطاتُ الإسرائيلية مع عدد كبير من الفلسطينيين الأحرار خارجَ الحدودِ في ظروفٍ من أقسى الظروف، ثم أودعته السجنَ عندما اضطرّتْ إلى السماحِ للمبعدين بالعودةِ من المنفى
وحاولوا اغتيالَه أكثرَ من مرّة، وأصابوا بعضَ أحبابِه وأهلِ بيته
وملأوا الدنيا حولَه بالتهديدِ والوعيدِ والإرهاب
كان رحمه الله عظيماً في إيمانه بربّه ودينه، وعدالةِ قضيته، فلم يُخَامِرْهُ قطُّ شكّ
كان رحمه الله عظيماً في شجاعته وإرادته، فلم تَسُدَّ عليه طريقَه عَقَبةٌ، ولم يَنْكِلْ عن واجب مهما كانت المصاعب والمخاطر
وكان يعلم أنه يتقدّم خطوةً أُخرى إلى الموت إذ يتقدّم لحملِ الرايةِ بعدَ الشيخ أحمد ياسين؛ ولكنه كان مؤمناً بقضاءِ اللهِ وقدرِه، وأنّه لا يصيبُه إلاّ ما كتبه الله له، مُفَوِّضاً أمرَه لله على كلِّ حال، مستعدّاً للشهادةِ إنْ كتبَ اللهُ له الشهادة، وسعيداً كلَّ السعادةِ بلقاءِ اللهِ مجاهداً في سبيلِ الله
وتضربُه هذا اليوم السبت السابع عشر من نيسان/ أبريل طائرة الأباتشي بصاروخها القاتل، فتحرق سيارتَه وتقتلُ مَنْ فيها، وتضعُ خاتمةً لملحمةِ جهادِه الشخصيّة، التي امتدّتْ وقائعُها على امتدادِ حياتِهِ زهاءَ سِتٍّ وخمسينَ سنة
بدأتْ هذه الملحمةُ سنة ١٩٤٨م عندما طُرِدَ من بيته وأرضه، وشُرِّد وأسرتَه وهو طفل رضيع
وانتهت هذه الملحمةُ في ١٧ نيسان ٢٠٠٤م بطائرة الأباتشي وصاروخها المجرم
بدأت هذه الملحمةُ بأَظْلَمِ ظُلْم، وانتهت بأظلمِ ظُلْم
ومع ذلك فالطفلُ الرضيعُ المشرّدُ المظلوم: عبدُ العزيز الرنتيسي، والكهلُ القتيلُ الشهيدُ المقاوِمُ للظلم، المطالبُ بالحقِّ والعدل: عبدُ العزيز الرنتيسي «إرهابي!!» «مجرم!!» في نظر الولايات المتحدة الأمريكية وبعضِ أتباعها في الشرق والغرب!!، و «آرييل شارون» المحتلُّ المغتصبُ السفاحُ الذي شرّده وسجنه وعذّبه وقتلَه رجلُ سلام.. وضحيةٌ بريئة مسكينة، يدافع عن نفسه بطائراته ومروحيّاته، وصواريخه وقنابله، ومن حقه أن يدافع عن نفسه، فيهدم البيوت، ويقتل النساء والأطفال، ويغتال من يشاء دون حساب!!
أين العقل؟! أين المنطق؟!
أين الضمير؟! أين الوجدان؟!
أين العدل؟! أين الإنصاف؟!
أين الإنسانيةُ وحقوقُ الإنسان؟!
…
سافر «شارون» إلى الولايات المتحدة للقاء الرئيس «بوش» بعدَ اغتيالِ الشيخ أحمد ياسين بأيام، واغتال شارون الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بعدَ عودته من الولايات المتحدة ولقائه الرئيس بوش بأيام
ويقول كثيرون:
لو أنّ شارون سمع من بوش كلمة لوم أو عتاب على اغتيال أحمد ياسين لما أقدم على اغتيال الرنتيسي
بل إنّ رسالة بوش إلى شارون تعطيه الضوء الأخضر –كما يقولون– للاستمرار في سياسة الاغتيالات الاستباقية التي طبقها مجدّداً باغتيال الشيخ أحمد ياسين، وهدَّدَ بتطبيقها أيضاً على الرئيس ياسر عرفات، والشيخ حسن نصر الله، وعدد من القادة الفلسطينيين الكبار؛ فقد أكّد بوش في رسالته لشارون أنّ إسرائيل «ستحتفظ بحقها في الدفاع عن نفسها ضدّ الإرهاب، بما في ذلك اتخاذ إجراءات ضدّ المنظّمات الإرهابية»
وتتساءل الإدارة الأمريكية بعد ذلك، وهي تتجاهل تجاهلَ العالِم، مستغربةً كلَّ الاستغراب:
– لماذا يكرهنا الناس؟!
وتريد -فيما تدّعي- أن تحارب الإرهاب، ولا تريدُ أن تَرى أسبابَ الإرهاب، ومنها ما تغرسُه بيدِها في النفوس، وفي الحاضرِ والمستقبل، من بذورِ الحقدِ والانتقامِ والإرهاب
…
إذا ذُكِرَ عبدُ العزيز الرنتيسي فأكثرُ الناس يستحضرون بحقٍّ صورةَ المناضلِ الصلْب، والقائدِ الجريء، والزعيمِ المؤَثِّر؛ وقَلَّ من الناس من يعرفُ الرنتيسيَّ الإنسان
كان الرنتيسيُ أيضاً إنساناً يفيضُ صدرُه بأنبلِ المشاعر وأرقِّ المشاعر
كان ولداً بارّاً، وزوجاً صالحاً، وكان يحبُّ أسرتَه وأولادَه، ويفكِّر في دنياهم وفي آخرتهم، وفي سعادتهم في الدنيا والآخرة
وفي آخر ليلة قضاها بينهم: الليلة التي سبقت استشهادَه رحمه الله، كان يفكّر معهم في زواج ولده محمد، وفي ترتيب شؤونِ الزواج، ويضعُ لذلك ما بقيَ له من تعويض من «الجامعة الإسلامية» بعد استقالته منها ليفرغ لما كلّفه به إخوانُه من قيادةِ «حماس»
وآثرَ عبدُ العزيز دراسةَ الطبّ، والاختصاصَ بطبِّ الأطفال، لإحساسه بآلامِ شعبه، وحاجاتِه الصحية؛ ولحبِّه للأطفال، وعطفِه عليهم، ورحمتِه بهم. كان يعيش مع أبناءِ شعبه بكلِّيته: يفتح لهم سمعه، ويفتح لهم قلبه، ويقدّم لهم، ويقدّم معهم، كلَّ ما يستطيع من جهد؛ فلا غَرْوَ إذا أحبّوه هذا الحبّ، وأعزّوه هذا الإعزاز، وسَالَتْ لاستشهادِهِ الدموع، ودَمِيَت القلوب
لقد كان الرنتيسي، الذي اغتاله شارون وعصابته، إنساناً عظيماً، ولم يكن مناضلاً عظيماً فحسب
وكان الرنتيسيُّ أيضاً كاتباً، وكان شاعراً، وكان خطيباً.. كان رحمه الله أمةً في فرد
وكان يحبُّ الحياةَ لنفسه، ولبلادِه وشعبه، ويعرف ما يمكنُ أن يتحقّق بها من خير الدنيا والآخرة؛ ولكنه كان يحبُّ الحريةَ والكرامةَ والعدالةَ، ويؤثرُها على الحياة؛ وتطيبُ نفسُه بالشهادة في سبيل الله إذا اختار له الشهادةَ في سبيله
…
أكثرُ الناس في فلسطين والعراق وفي سائر البلاد العربية والإسلامية هم مثلُنا هنا:
يكرهون الخوفَ والعنف، والموت، وَيَتُوقُون إلى الأمنِ والسلامِ والحياة؛ ولكنّ الإنسانَ الحرَّ الكريم يفضّلُ الموتَ الكريمَ على حياةِ الظلمِ والقهرِ والإذلال، إن خيّرتَه بينَ الموت وبينَ حياةِ الظلمِ والقهرِ والإذلال، ولم تفتح له أبوابَ الأملِ في العدالةِ والإنصاف والعيش الكريم، والظفرِ الفعليِّ بالعدالةِ والإنصافِ والعيشِ الكريم
وهيهاتَ أن ينتصرَ الظلمُ والطغيانُ في نهايةِ المطاف، مهما بلغَ من قوتِه وجبروتِه وشدّتِه وقسوته، على إنسانٍ أو شعبٍ يؤمنُ بربِّه وبحقِّه، ويؤثرُ الموتَ -بالفعلِ لا بمجرّدِ الشعاراتِ والكلام- على القبولِ بالظلمِ والقهرِ والخضوع والخنوع؛ ويرى الموت –إن كان على حقّ، وكان يدافع عن حق– شهادةً تفتح له أبواب الجنة
…
أما آن للمجتمعِ الإنسانيِّ يا تُرى، وللدولِ الكُبرى على الخصوص، أن تَعِيَ بأنّ مشكلاتِ العالمِ الراهنةَ والقادمة، لا يمكن ولا يجوز أن تُحَلّ بالطائرات والصواريخ وألوان الإبادة والدمار الأخرى؛ ففي ذلك قضاءٌ على إنسانية الإنسان، وسائرِ قِيَمِهِ ومُثُلِهِ العليا، وعلى العالمِ كلِّه على الزمن
مفتاحُ حلِّ المشكلات الأصوبُ والأفضلُ والأنجعُ إنما هو الفهمُ والمشاركةُ الوجدانية، والتعاطفُ الإنسانيّ، والعدلُ والإنصافُ، والتعاون على البرِّ والتقوى لا على الإثم والعدوان
…
إنـّني وأنا إنسان مسلم يؤمن بالأخوّة الإنسانية، وَيَنْشُدُ لسائر الناس الأمنَ والسلامَ والخيرَ، ويكره الظلمَ والعنفَ والحرب.. أضمُّ صوتيَ الضعيفَ إلى كلِّ صوتٍ مخلص يدعو إلى تعاونٍ إنسانيٍّ صادق من أجلِ مناهضةِ الظلمِ والعنفِ والعدوان، ونُصْرَةِ الحقِّ والعدلِ والإحسان؛ ففي ذلك مرضاةُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وخيرُ الإنسانيةِ والإنسان