مستقبل العمل الإسلامي ٣ وجوب المراجعات والتطوير

جمعية العمران الوطنية للتربية والتأهيل

محاضرة ٣ من ٤– مكناس عن بعد – يوم ٨ / ٤ / ٢٠٢٣م

0 6

محاضرة ٣ من ٤

 عناصر موجبة للمراجعات والتطوير عبر رؤية اسلامية وواقعية

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله والسلام عليكم ورحمة الله.  

وصلتني رسالة من الأستاذ رشيد أبو ثور، حفظه الله، فيها ملاحظات قيمة، أدع له بيانها للجميع بنفسه لاحقا، أي قبل أن يبدأ الحوار مع الحضور في هذا اليوم، كما أرجو أيضا أن يكون قد وافق على ما طلبت منه عبر الجمعية، وهو المشاركة الأساسية في الحوار وفي إجابة التساؤلات في الحصة المقررة للقاء الرابع القادم، المخصص لتداول صيغة مقترحة لتطوير العمل الإسلامي، وسألخص بعض الأفكار في المرة القادمة في وقت محدود، ليبقى متسع من الوقت للحوار الختامي إن شاء الله.

٠  ٠  ٠

نراجع من اللقائين السابقين:

١- العمل الإسلامي هو كل جهد مشروع لتحقيق أهداف الإسلام في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

٢- العمل الحركي الإسلامي هو إحدى صيغ العمل الإسلامي عبر تنظيم جماعي غالبا.

٣- المتغيرات الكبرى والمتسارعة في واقع عالمنا وعصرنا، تشمل المضامين والعلاقات والوسائل والأدوات.

٤- أصبح العمل الإسلامي في وسط جديد متبدل، وتوجد أسباب ذاتية إضافية تستدعي التطوير.

ونسأل اليوم عن معالم العمل الحركي الإسلامي الأساسية وهل تبدلت ذاتيا؟ وما هو حجم التطوير الذي تحتاج إليه ونوعيته؟

رغم العقبات الخارجية في وجه العمل الإسلامي، تحقق نجاح ملحوظ تشهد عليه الثروة الفكرية والأدبية والثقافية والعلمية، ناهيك عما يوصف بالصحوة الإسلامية، التي انتشرت في البلاد الإسلامية وفي الشتات، والتي اقترنت بارتفاع نسبة الإقبال على تطبيق الإسلام وعلى اعتناقه من جانب جيل الشبيبة عالميا، بل أصبح الإسلام إن صح استيعابه والعمل له، هو المرشح لتوجيه التبدل الحضاري المنتظر، بديلا عن الوضع الحضاري الحالي، المهترئ وفق المعايير الإنسانية والروحية والحقوقية وكذلك المعيشية المادية.

مرة أخرى السؤال: ما هي معالم العمل الحركي الإسلامي الأساسية؟ وهل تبدلت؟ وهل أصبح مؤهلا أو يمكن أن يصبح مؤهلا لحمل مسؤوليته على طريق تبدل حضاري مرجو؟

نعدد إذن بعض المعالم المميزة للعمل الحركي الإسلامي في الحقبة الماضية:

 

محاور العمل الإسلامي والحركي الإسلامي

أولا- محور مواجهة الفكر بالفكر

كان من ساحاتها معارك ثقافية وأدبية وفكرية، حققت التفوق موضوعيا، رغم انعدام تكافؤ الفرص في وسائل الفكر والإعلام ومعاهد البحث، إذ بقي غالبها تحت سيطرة الآخر بدعم من سلطات استبدادية، ويسري شبيه ذلك على ما يرتبط بالإعلام والعلوم والاختراعات والتقنيات الحديثة، فالمنجزات التي تحمل من ورائها أسماء وعناوين إسلامية، واجهت إهمالها لحساب ما يحققه الآخر في هذه الميادين، وهو قليل بدليل استمرار التخلف وزيادته.

بالمقابل، كان الغياب أو التقصير الذاتي من جانب العمل الحركي الإسلامي ملحوظا في ميادين العمل المباشر للدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته عالميا، وهذا رغم جهود مبذولة في العمل الفكري أو ما يسمّى التنظيري، فهنا نجد منارات متميزة بعطاءاتها وتطورها؛ من الأمثلة عليها مشروع إسلامي وسطي حمل في البداية عنوان أسلمة المعرفة، وأصبح من مناراته إنجازات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومجلةُ الفكر الإسلامي المعاصر بعد مجلة المسلم المعاصر، وكذلك الجامعة الإسلامية في لاهور. وكان يرجى لو وَجدت مدرسة مالك بن نبي رحمه الله، علاوة على الجهود الفردية، الطريق لتكوين منارة فكرية حضارية أيضا، بعطاءات متميزة.

ثانيا- محور التربية الفردية والجماعية

منذ ولادة العمل الحركي الإسلامي بدأ العمل على هذا المحور الذي كان بالغ الأهمية في فترة السيطرة الاستعمارية، واحتفظ بأهميته إلى ما بعد وصول أنظمة سيطرت على أجهزة التربية والتعليم والتوعية، أما الوسائل المتبعة لممارسة التربية الإسلامية المطلوبة حركيا، فبقيت تعتمد على الخلايا والمجموعات الكبيرة والصغيرة وعلى الندوات والمؤتمرات العامّة، وسط أصعب الظروف المعيقة، وزاد التطور التقني من قدرة السلطات على تضييق الخناق على من يعمل خارج نطاقها، في قطاعات التربية والإعلام وسواهما، ومع كل التقدير لما حققه العمل الإسلامي وحمل عنوان الصحوة الإسلامية، لا بد من تطوير كبير على صعيد هذا المحور التربيوي، ليحقق الأهداف المرجوة منه؛ وفي الوقت الحاضر تنتشر ظاهرة إقبال جيل الشبيبة على البرامج والمشاريع التأهيلية لاكتساب المعرفة في ميادين كان الاهتمام بها ضعيفا، مثل التنمية البشرية ومعالجة الأزمات والتخطيط للمشاريع، وكان يرجى لو وجد العمل الإسلامي مكانا رياديا في ذلك، وهو ما تهتم به أنشطة ما يسمى المجتمع المدني.

ثالثا- محور العمل التنظيمي

منذ نشأة العمل الحركي كان تنظيمه ضروريا ليتميز عن الآخر وتنظيماته، وكذلك للتميز عن هياكل تنظيمية وهيئات شبه رسمية، تحمل عناوين إسلامية، ولكن توظف عملها في خدمة السلطات. ومع مرور الزمن أصبحت التنظيمات الحركية الإسلامية ببنيتها الهيكلية أضخم من قابلية تأمين المرونة الكافية لاستيعاب ما حولها وتحقيق الأهداف المطلوبة من جهة وتوفير متطلبات حماية نفسها من الأخطار الخارجية من جهة أخرى. ولا يزال الغالب على معظم التنظيمات الحركية الأسلوب الإداري الهرمي، مما يعرضها للأخطاء ولضعف سرعة التصرف الضروري عموما، وعند وقوع الأزمات على وجه التخصيص.

رابعا- محور الخطاب العاطفي الحماسي

نحتاج عموما وفيما يسمّى الخطاب الإسلامي أيضا، إلى نكهة عاطفية حماسية دون أن يصبح الاعتماد عليها كبيرا، أو أن يُكتفى بها في الأنشطة الحركية، فالحاجة إلى إحياء الوجدان كما تمليه العقيدة يفيد في تجديد الارتباط بها في القلوب وتوظيفها في التحفيز للتضحية وإحياء العزيمة على طريق العمل، لا سيما في مواجهة أخطار أجنبية، إنما المطلوب مع الخطاب العاطفي ضبطُ العمل عقلانيا وفق دراسات محكمة ومخططات مرنة، وكذلك العمل لكسب التأييد الشعبي مع مراعاة الانفتاح من جهة والتميز من جهة ثانية في ميادين التنافس مع اتجاهات أخرى تعمل أيضا لكسب تأييد الشعوب، بعيدا عن طرح منظومة قيم إسلامية إنسانية حضارية.

خامسا- محور مواجهة الغرب والتغريب

كان التميز من جانب العمل الحركي كبيرا تجاه الغرب بشقيه، الرأسمالي والشيوعي، مع ما يتفرع عن ذلك تحت عنوان التغريب، ولكن تركز هذا الموقف على الرفض دون طرح بديل فيما يتجاوز الخطوط العريضة إلى التفاصيل، ولا يزال هذا ملحوظا حتى اليوم، وكذلك من الملحوظ أن الطرح الذاتي التلقائي تجاه التحديات الكبرى المشتركة بين البشرية، لا يتجاوز نسبة متدنية مقابل الاستغراق في عملية الرد على اتهامات الآخر وما يطرح من شبهات، أي أن التحرك بقي بعيدا عما تعنيه المقولة: شمعة واحدة تزيل ظلمات متراكمة. 

سادسا- تحديات جديدة تجاوزت ما كان في الماضي القريب

(١) نجد بين أيدينا على وجه الإجمال، تيارا شعبيا كبيرا صنعته الصحوة الإسلامية وظاهرة التدين عموما ، يحتاج إلى مبادرات تأهيلية عملية وكفاءات قيادية ميدانية لترجمة حماسته إلى عمل واقعي، واضح الأهداف والمخططات، بوسائل مناسبة، على مستوى كاف لتجاوز العقبات الكبيرة القائمة في طريقه.

(٢) كما نجد بين أيدينا أن الدعوة إلى الإسلام في المجتمع والسلطة، لم تعد تقتصر على تنظيمات إسلامية، بل يوجد إلى جانبها أفراد مستقلون بأنفسهم، وعلماء لهم مناصب رسمية وشبه رسمية، ومفكرون يطرحون ما لديهم ولا يقل شأنهم عن شأن مفكرين ينتمون إلى تنظيمات بعينها أو هم محسوبون عليها، بالإضافة إلى وصول هذه الدعوة بدرجات متفاوتة إلى كثير من وسائل الإعلام.

(٣) كما نجد بين أيدينا أن التيارات العلمانية على اختلاف عناوينها لم تعد في حالة هجوم تنشر ما لديها بأساليب ووسائل مقبولة وغير مقبولة، بل أصبحت فعاليتها الرئيسية محصورة في فئات علمانية أصولية محدودة العدد نسبيا، ولكن يعلو صوتها في وسائل التعبير المتوافرة، لأنها مسيطرة -بالوراثة- على مراكز صنع القرار، إنما ضعُف تأييدها الشعبي، مع انتشار الفساد والتخلف والانهيار في الحقبة السابقة، وأقصى ما تحاوله هذه الفئة فكريا هو محاولة إحياء القديم المندثر من أفكار أسلافها وتصوراتهم من النصف الأول للقرن الميلادي العشرين، بينما أصبح قطاع كبير من العلمانيين بمختلف اتجاهاتهم، أقرب إلى استشعار الأخطار الخارجية والمسؤولية الذاتية، وهو ما ينعكس في محاولات إيجاد أرضية مشتركة مع التيار الإسلامي، “المسيطر على الشارع”، وإن كان هذا وصفا يلفت الأنظار عن حقيقة انتشار التوجه الإسلامي شعبيا على مختلف المستويات، وليس على مستوى الشارع فحسب، بدءا من أساتذة الجامعة، مرورا بربات البيوت، وانتهاء بالتنظيمات النقابية والطلابية وغيرها.

 

(٤) ونجد بين أيدينا ضمن التحديات أيضا أن المضامين المطلوبة في الدعوة الإسلامية، لم تعد كما كانت، فلا حاجة إلى الاستغراق في إثبات ما سبق إثباته بشأن شمول الإسلام لسائر الميادين بما فيها الجانب السياسي، ولا الاستغراق في دفع شبهات عتيقة أثارها المستشرقون والعلمانيون وغيرهم؛ والمفروض عدم استدراج العمل الإسلامي إلى الأسلوب الدفاعي في التعامل مع ما ظهر من اتهامات جديدة نسبيا، يسعى الأصوليون العلمانيون لتعميمها على الإسلاميين، كما يجري تحت عناوين العنف والإرهاب، فهذا أسلوب يستهدف أن يشغل الإسلاميين عن التحرك الإيجابي الذي يثبت تلقائيا خواء تلك الاتهامات كسابقاتها.

(٥) كما نجد بين أيدينا أيضا، أن طبيعة الأنشطة المطلوبة من العمل الحركي تجاوزت دائرة حصرها قطريا وإقليميا، ولا غنى لمن يريد التأثير من منطلقات عابرة للحدود، شاملة للتأثير المتبادل بين مختلف القضايا، جغرافيا ونوعيا، فلا تنفصل قضية التقدم عن القضايا السياسية، ولا التعليمية والتربيوية، ولا يكفي التركيز على تيار داخلي يعمل قطريا أو تيار متخصص في ميدان التربية أو التأهيل عن سواه، دون التعاون والتكامل والتواصل والتشبيك على كل صعيد.

باختصار: لم يعد يمكن للعمل الحركي ولا سواه التعامل مع أي جانب من الجوانب أو جبهة من الجبهات بمعزل عن سواه أو سواها، فما يجري على صعيد العلم والجهل، يؤثر على قضية التخلف والتقدم، وما يجري على صعيد قضية فلسطين، لا ينفصل عن الهجوم على التربية القويمة في مناهج التربية والتعليم، وما يقع في العراق، يترك أثره على الصحراء الغربية أو إندونيسيا، وما يجري لتجريد سائر المسلمين من أسلحة رادعة، يؤثر تأثيرا مباشرا على وجودهم أفرادا وتنظيمات ومجتمعات ودولا وشعوبا في وقت واحد.

 

التطوير الذاتي المطلوب

أولا: عدم كفاية تطوير جزئي محدود

إن العمل الإسلامي يواجه تحديات جديدة أكبر من سائر ما واجهه منذ نشأته الأولى، مما لا يترك آثاره على وجوده الحركي والتنظيمي فقط، بل يؤثر النجاح في حمل تبعاته أو الإخفاق دون ذلك على أوضاع الجيل الحاضر والأجيال القادمة عموما، وعلى مختلف ميادين الحياة والسلطة، ولا مبالغة في القول أيضا، إن ذلك يترك أثره تلقائيا أيضا على المسيرة الحضارية البشرية المشتركة لفترة زمنية طويلة.

لا تكفي لمواجهة متطلبات اليوم وسائل الأمس وأساليبه، ولا يكفي التعامل مع الأوضاع والمعطيات الجديدة دون صياغة جديدة للعمل الإسلامي نفسه، ولا يعني ذلك أن التنظيمات القائمة بقيت جامدة تجاه التطورات الجارية، ولكن لا بد من الإقرار أولا بأن سرعة تطورها الذاتي بقيت أبطأ بمراحل من سرعة تلك التطورات بصدد التحديات المضادة، وقد بات ما يجري خلال أعوام معدودة يعادل ما كان يجري خلال جيل أو جيلين من قبلك.

ولبيان محدودية التطور الذاتي حتى الآن..

١- نرصد تحركا فكريا مستجدا واضحا للعيان من خلال أطروحات لم تكن مطروحة من قبل، من عناوينها على سبيل المثال مسائل المرأة والمواطنة والديمقراطية وفقه التغيير وغيرها.

٢- ونرصد تحركا تنظيميا أيضا من عناوينه ساحات النقابات، وروابط المجتمع الأهلي / المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، والحوار الإسلامي-القومي، والانخراط في بعض تجارب التعددية وغير ذلك.

٣- ونرصد تحركا على صعيد الوسائل يظهر على سبيل المثال في استخدام الشبكة العالمية على نطاق واسع.  

رغم هذه التطورات الذاتية كأمثلة، في نطاق العمل الإسلامي الوسطي المنتشر عموما، يبقى السؤال على ضوء الواقع الراهن، عن مدى كفاية التحرك المشار إليه، وهو جزئي، يجري بصورة متفرقة، في أقطار دون أخرى، وفي ميادين دون سواها، هذا ناهيك عن غلبة ردود الفعل عليه تجاه معطيات مستجدة ومتغيرات وتحديات مباشرة، بدلا من أن يصدر عن التخطيط، وفق مبادرة ذاتية ورؤية بعيدة المدى، ويسري ذلك تخصيصا عندما يكون الهدف النهوض بتبعات التحدي الكبير عبر تطور شامل وكبير.

 ما لم يتطور العمل الإسلامي بالمعنى الشامل للكلمة، فسيتعرض إلى مخاطر الجمود ليصبح “شيئا ما” من عالم آخر، أو يواجه الإخفاق المتكرر دون بلوغ أهدافه.

ثانيا: التطوير والتجديد

يجدر التنويه هنا إلى أهمية التمييز بين عملية التطوير وعملية ما يوصف بالتجديد، فهذان أمران مختلفان ولكنهما متكاملان، لا تناقض بينهما، ولا يغني أحدهما عن الآخر.

التجديد هو التخلص من الشوائب، أي تخليص الإسلام كما أنزل، وتخليص الخطاب الإسلامي الوسطي الأصيل، وتخليص كل عمل إسلامي، من شوائب طارئة، بإزالتها.

أما التطوير فيعني “إضافة” الجديد المفيد، دون المساس بأصول الإسلام وجذوره، ولا بالفروع الأساسية الثابتة وحيا، فجميع ذلك يصلح لكل زمان ومكان، إنما هو الجديد المفيد الذي يضيف إلى الإسلام “اجتهادات” صادرة عن إدراك صلاحيته لكل زمان ومكان، مع استيعاب توابعها، بإبداعات اجتهادية تستجيب لمتطلبات جديدة وما يمكن أن يطرأ منها. وهذه الإضافة الاجتهادية يمكن أن تلغي إضافة اجتهادية سابقة، وهو ما يسري بصورة خاصة، على الخطاب الإسلامي والعمل الإسلامي باعتبارهما من الاجتهادات، فيمكن الاستغناء عن أشكال بنيوية، وأساليب متبعة، ووسائل سابقة، واعتماد أخرى جديدة، بما يلبي الأهداف في ظروف ومعطيات واقعية قائمة، مع مراعاة ما يمكن استشراف القادم منها.

إن التجديد والتطوير عمليتان متكاملتان في حاجة إلى دراسات نظرية وميدانية، وجهود كبيرة، تستوعب ما تحقق حتى الآن وتضيف إليه، وهنا تظهر ما تعنيه كلمة “قفزة تطويرية نوعية” فقد باتت الحاجة ماسّة إليها في الوقت الحاضر.

ثالثا: عقدة التنظيم

أصبح للتنظيمات الإسلامية أشكال بنيوية تقليدية كانت صالحة ملائمة لظروف ومعطيات رافقت نشأتها الأولى، وبات من الضروري النظر فيها بمنظور ظروف ومعطيات جديدة، للحفاظ على ما يصلح، والتخلص مما يبدو عائقا دون تحقيق الأهداف، لا سيما وأن الاقتناع السائد هو أن التنظيمات وسائل، فلا بد أن يسود الاقتناع أيضا بالتعامل معها كوسائل، عملا وتغييرا، لا قولا وشعارا فقط.

ما يعرف بإمارة تنظيم، أو مجلس إرشاد، أو سوى ذلك من مسميات تعبر عن طريقة الإدارة التنظيمية، هي صيغ من حقبة زمنية ربما كان الأصلحَ فيها تقديمُ عنصر ضبط التنظيم على عنصر الشورى أو تجديدِ الزعامة، فهل هذا صالح الآن لتحقيق الهدف من وسيلة التنظيم؟

ربما كان الأصلحَ آنذاك إسقاطُ أسلوب البيعة بمفهومها الشرعي على أسلوب البيعة في الميدان الحركي، فهل لا يزال ذلك هو الأصلح حاليا من أسلوب الانتخابات، وتحديد فترة المسؤولية، وتجديد شباب القيادة؟

ربما كان الأصلحَ عند النشأة الأولى للتنظيمات أن يكون التنظيم هو المرجعية لما سواه، من أنشطة فكرية واقتصادية وثقافية وسياسية وغيرها، فهل الربط المرجعي على هذه الصورة يحقق الآن المصلحة المرجوة والغاية المتوخاة من العمل التنظيمي بحد ذاته، أو العمل الإسلامي بصفته الشمولية؟

قد يؤثر الارتباط التاريخي والعاطفي بتنظيم إسلامي على نظرة أصحابه إليه، إلى درجة التوجس من كل تطوير جذري ضروري مطلوب، واعتباره عبوة ناسفة للتنظيم نفسه، وليس للتطوير القويم هذا الغرض، ولا يؤدي إليه، إنما إذا افترضنا جدلا أن الدراسة المنهجية، النظرية والميدانية، أوصلت إلى نتيجة تقول بضرورة الاستغناء عن التنظيم لصالح خدمة الغاية من وجوده، واستبدال وسيلة أخرى به، فما الذي يعنيه وصفه بالوسيلة إن لم يتوافر الاستعداد حتى إلى هذه الخطوة من حيث الأساس، مع التأكيد مجددا أنه لا يبدو حسب المعطيات الراهنة أن هذا ما سيسفر عنه تطوير جذري على المستوى التنظيمي؟

وسيلة التنظيم الإسلامي بحد ذاتها في حاجة إلى تعديل وتطوير، لتحقيق الغاية منها، ويمكن أن يشمل هذا التطوير جوانب باتت تقليدية في الإدارة وفي علاقة المنتسبين إلى التنظيم بقيادته، كما يمكن أن يشمل موقع “وسيلة التنظيم” في نطاق الإطار الأشمل للعمل الإسلامي، بأبعاده الدعوية والسياسية والفكرية والاقتصادية وغيرها، فيكون التطوير المطلوب آنذاك -كمثال- إلغاء الأسلوب المتبع من حيث ضرورة أن تكون “لافتة” التنظيم مرفوعة فوق كل نشاط من الأنشطة، أو أن تكون العلاقة بالآخر مقتصرة فقط على القنوات التنظيمية، أو أن يكون تقويم العمل في ميدان من الميادين رهنا بما يقوله التنظيم بشأنه كمرجعية.. لكل شيء.

ما سبق بشأن تطوير التنظيم أمثلة، والحاجة إلى طرحها وطرح سواها كبيرة، فالوسيلة التي يمضي على استخدامها زمن طويل تهترئ ذاتيا ما لم تتبدل أو تتطور، ومن علامات الاهتراء الراهنة أننا لا نجد في ساحة الواقع تنظيما إسلاميا يحقق الغرض منه على النحو الأمثل، كما نجد أن كثيرا من الأنشطة الإسلامية التي ارتبطت تاريخيا بالتنظيمات، تتعرض معها إلى ما تتعرض إليه عند وقوع المحن ونشوب الأزمات، بينما توجد أنشطة إسلامية تنمو تدريجيا خارج نطاق التنظيمات، فلا تصاب معها بما قد تصاب به، ولا ينفي ذلك قابلية أن تتعرض ذاتيا إلى ضغوط وأزمات، ولكن ليس من وسائل حمايتها الارتباط بتنظيم قطعا، إنما هي الحماية عبر ما يتوافر لها من مواصفات ذاتية تمكّنها من البقاء والنماء.

رابعا: عقدة العمل السياسي

أصبح العمل السياسي من منطلق إسلامي ولتحقيق أهداف إسلامية عقدة أخرى، وشهد الكثيرَ مما يوصف بالتجارب، منها الشكل التقليدي أن يكون العمل السياسي جزءا أساسيا من العمل الحركي التنظيمي، وكان من نتائج ذلك أن المتطلبات الواسعة النطاق للعمل السياسي وطبيعة ارتباطه بالظروف السياسية قطريا وإقليميا ودوليا، كانت من أسباب طغيان العمل السياسي على ميادين أخرى في التنظيم الحركي بصيغته الشاملة لكل شيء، أو أوهمت بذلك، سيان فالنتيجة واحدة.  

كما كان من النتائج أن التعرض للخصومة والعداء من منطلقات سياسية، شمل التنظيم الحركي بجميع مكوناته بذريعة ممارساته السياسية، سواء قام ذلك على باطل مكشوف أو مع طرح ذريعة أخرى من الذرائع، وفي جميع الأحوال لم يحقق هذا الأسلوب الأهداف المطلوبة من العمل السياسي، وهذا لفترة طويلة من الزمن تستدعي تلقائيا إعادة النظر فيه، مع عدم استباق نتيجة النظرة المنهجية الموضوعية بطبيعة الحال.

ومن التجارب أيضا إيجاد تنظيم مستقل شكلا، أي باسمه فحسب، ليدخل المعترك السياسي، وهو في واقعه جزء من تنظيم حركي إسلامي قائم بجواره، وكأن الخصم المنافس أو المعادي لا يدرك ذلك، أو لا يتعامل مع هذا وذاك في وقت واحد متجاوزا عملية الفصل الشكلية، ومتجاوزا أن اتجاهات أخرى تتبنى هذه الطريقة أيضا ولا يأخذ عليها أحد ممن يأخذون ذلك على العمل الحركي الإسلامي.

ومن التجارب القديمة نسبيا، وجود بنية هيكلية سرية وأخرى علنية تتبعان للتنظيم الحركي معا، واقترن ذلك أحيانا باعتماد وسيلة إعداد القوة واستخدامها عندما تحين الفرصة السانحة إلى جانب وسيلة الدعوة العلنية، وهي تجارب اعتبرت نتائجها “كوارث” على العمل الحركي الإسلامي في أكثر من بلد إسلامي.

ومن التجارب أيضا تحالف تنظيم حركي إسلامي مع فريق من القوات العسكرية في بلد من البلدان، واستخدام طريق الانقلاب العسكري لتحقيق الأهداف الإسلامية، بينما كانت الانقلابات ولا تزال موضع إدانة إسلامية قاطعة بحد ذاتها، إذ تنزع أرضية الثقة بين الشعب وجيشه الحامل لمهمة جليلة هي الدفاع الخارجي عن البلد وأهله وليس من مهامه العملُ السياسي الداخلي، وقد كانت الانقلابات ولا تزال طريق الانزلاق إلى فرض السلطة الاستبدادية بالقوة، وإلى الفساد المالي والاقتصادي، فالانقلابات تتناقض مع مبادئ الإسلام جملة وتفصيلا، بدءا بحرية المعتقد مرورا بشرط العدالة انتهاء بالشورى المفروضة.

يبدو أن عقدة العمل السياسي كامنة في الخلط بين المقولة الصحيحة منهج الإسلام شامل لمختلف الميادين بما في ذلك الميدان السياسي، وبين الممارسة التطبيقية عندما تنطلق من تصور آخر يتوهم أن هذه المقولة تقتضي أن يكون كل تنظيم إسلامي شاملا لكل ميدان من الميادين.

إن العمل السياسي رهن بوجود الكوادر السياسية الواعية القادرة على ممارسته، وإن المهمة الأولى لأي عمل إسلامي سياسي هي تكوين تلك الكوادر معتقدا، وخلقا، وتصورا، وسلوكا، ومعرفة، ووعيا؛ أما الممارسة العملية للعمل السياسي، فهي من شأن تلك الكوادر، التي إن قام تنظيم حركي بإعدادها، انتهت علاقته بها باكتمال مهمة الإعداد، وقد يكون الإعداد عن طريق معهد إسلامي أو مركز إسلامي غير مرتبط بتنظيم حركي أصلا.

لا ينبغي أن تكون غاية التنظيم الحركي أن يمارس السياسة الإسلامية بنفسه وبقياداته وبهياكله التنظيمية، إنما تكون غايته قويمة عندما تركز على وجود من يمارس هذه السياسة الإسلامية، ويمكن أن يقتصر دوره على الدعوة إليها، وبيان ميزاتها، واتخاذ المواقف المعبرة عنها، ودعم العمل من أجل وجودها، ولا ينقص ذلك من قيمته قدر ما يرفعها إلى المستوى التوجيهي العام المنتظر من عمل حركي إسلامي.

خامسا: نقلة تطويرية نوعية

تحت عنوان التطوير الذاتي المطلوب يغني التفصيل في مثال عقدة التنظيم وعقدة العمل السياسي، عن التفصيل بالأمثلة حول ميادين أخرى، إنما لا يغني عن طرح صيغ التطوير الجذري المرجو في مختلف ميادين الفكر والبحث والأدب والعلم والتربية والاجتماع والاقتصاد والفن والتقنية والصناعة، فجميع ذلك وما شابهه يتطلب نقلة تطويرية نوعية، وجميع ذلك هو مما وصل العمل الإسلامي المعاصر به إلى مفترق طرق من حيث قراره الذاتي وليس من حيث ما يتعرض له من محن وضغوط، وعند البحث عن صيغة جديدة للعمل الإسلامي، هي موضوع اللقاء الرابع القادم إن شاء الله، ينبغي مراعاة أمور أساسية كانت من حصيلة الحقبة الماضية للعمل الحركي، وهنا عناوينها الكبرى:

١- تجاوز احتياجات الكوادر من شبيبة الصحوة ذكورا وإناثا واقعَ قيادات تقليدية شبه دائمة للتنظيمات الإسلامية.

٢- العجز عن استيعاب صيغ جديدة للدعوة والعمل فرضت نفسها وتشتتت المواقف منها بين الدعم والإنكار.

٣- اختلاف اجتهادات العمل وتجاوز حدود الاختلاف الطبيعي الذي يستدعي التكامل والتعاون.

٤- الخلل في توظيف الإمكانات الذاتية لتحقيق أهداف مرحلية وتعريضها للضياع عبر مركزية التصرف بها.

٥- حصر الأهداف الكبيرة المطروحة على أرض الواقع ضمن حدود وسائل وأساليب موروثة من الماضي.

٦- ‎انفصال دعوات التجديد والتطوير على مختلف الأصعدة إسلاميا عن مواقع صناعة القرار الإسلامي حركيا.

٧- الدفاع عن مواقع المواجهة في ميادين تقليدية والغفلة عن مواطن تستهدف الجذور والأسس كاللغة العربية.

٨- الانشغال بمهام جزئية للعمل الإسلامي عن مهام كبرى فرضتها الأحداث في المنطقة الإسلامية وعالميا.

٩- القصور عن اللحاق بركب المتغيرات المحيطة بالعمل الإسلامي على المستويات القطرية والإقليمية والدولية.

١٠- طغيان هدف الحفاظ على ما هو موجود ومحاصر على هدف إيجاد الجديد لتجاوز الحصار ومتابعة الطريق.

هذه عشرة عناوين كأمثلة على نتائج سلبية لغياب التطوير المطلوب، والجدير بالذكر هنا أن عملية التطوير الجذري ليست عملية انقلابية، ولا تقبل التحقيق بين ليلة وضحاها، ولا تصل إلى أهدافها عبر قرارات عليا، إنما هي عملية تطوير نوعية، يمكن أن تبدأ على صعيد الأفكار وتتفاعل مع ميادين الممارسات، وأن تثير المزيد من التساؤلات، وهي على أي حال البداية نحو كل تغيير، والتغيير في المرحلة التاريخية الراهنة واجب مفروض، وتحديد معالمه وسلوك طريقه مسؤولية كبرى مشتركة، وضمان سلامته رهن بالتعامل معه على أساس تحقيق المصلحة العليا، وليس بأسلوب خوض معركة بين توجهات حركية شتى، وكل من يمكن أن يكسبه طريق التطوير من أنصار، هو عنصر من العناصر الإضافية للتعاون والتكامل في التوافق على صيغة مستقبلية لعمل إسلامي مشترك، متعدد المستويات والمجالات والمواقع، وليس من يتبنى التطوير عنصرا من عناصر جبهة في مواجهة جبهة، أو عمل جديد في مواجهة عمل قديم.

سابعا: المسؤولية الذاتية

(١) سيان هل يستوعب صناع الهجمة الضارية الحالية أم لا يستوعبون، يجب أن نستوعب نحن أننا أفرادا وتنظيمات، مجرد أدوات، ولسنا الإسلام بحد ذاته، أي أن استهدافنا – إذا حقق أغراضه – لن يوقف مسيرة الإسلام الماضية إلى يوم القيامة.

بالمقابل: لا يكفي في مواجهة استهدافنا أن نقول: الله عز وجل تعهد بحفظ دينه، فلن يحقق هذا الاستهداف أغراضه!

السؤال الحقيقي المطروح علينا هو: هل سنكون نحن “أدوات” على مستوى أمانة هذا الحفظ “الآن”، أم نَخيب نحن، وتنتقل الأمانة إلى قوم آخرين؟

(٢) إن تعطيل مسيرة العمل للإسلام بسبب قصورنا، بمعنى تعطيل تحقيق أهدافه “القويمة” لسنوات أو لعقود من الزمن، يعني أن جيلنا هذا يحمل المسؤولية أمام الله عز وجل، وفي سجل التاريخ، وبين يدي الأجيال المقبلة من أولادنا وأحفادنا، عن عدم تحقيق ما نحمل “نحن” المسؤولية عنه من أهداف مشروعة.

من هذه الأهداف:

العدالة، الحقوق، الحرية، النهوض، الخير، إلى آخره، فهذا محور “الأمانة الكبرى” لاستخلافنا نحن، أثناء حياتنا الدنيا نحن، ومهما بلغت خسارتنا – أفرادا وجماعات – في هذه الحياة الدنيا، فالخسارة الأكبر ستكون آنذاك يوم الحساب.

(٣) ليست مسؤوليتنا هذه بسيطة، وليست عن أنفسنا فقط، بل تشمل ما قد يقع نتيجة تأخير عملية التطوير من خسائر بشرية إضافية، وما نعايش من معاناة إنسانية إضافية، فردية وجماعية، هذا إذا بقيت القيم التي ندعو إليها غائبة، نتيجة قصورنا أو تقصيرنا، خلال فترة حياتنا من عمر التاريخ، عن أداء الأمانة حق الأداء.

(٤) استيعاب الإشكالية الذاتية -واسمحوا لي بالقول- دون ما يوصف باللف والدوران، أو التسويغ والتبرير والتمييع، أو جدال الطرشان.. هذا الاستيعاب شرط لا غنى عنه، كي نسعى لإنقاذ أنفسنا الآن، ولأداء واجبنا على الوجه الأفضل، من أجل الإنسان ومستقبل الإنسان، وكذلك كي ينالنا العفو والمغفرة يوم القيامة.

(٥) ليست مسألة تطوير العمل للإسلام قضية جانبية ولا مسألة ثقافية أو “أكاديمية” ولا مجرد خيار من الخيارات، بل هي في صلب الأمانة الكبرى والمسؤولية الجليلة في أعناقنا ما دمنا نؤمن بدورنا في دار الابتلاء.

 

أوضاع الاتجاه الحركي الإسلامي بعد الثورات

لا أحد يستطيع أن يرسم صورة مستقبلية بتفاصيلها وينطلق لتطبيقها، لا سيما وأنه لا يخطط وينفذ في جزيرة منعزلة بل في قلب أحداث ومتغيرات انسيابية وعاجلة، وفي عالم متشابك العلاقات، فيؤثر كل طرف ويتأثر، ولا يتقدم دون القدرة على التفاعل الصحيح مع ما حوله، في اتجاه ما يتطلع إليه من أهداف بعيدة. إنما شهدنا في فترة انطلاق ما سمي ربيع الثورات الشعبية، متغيرات استهدفت بصورة خاصة العمل الإسلامي إجمالا والحركي منه تخصيصا، وأود في ختام هذا الحديث أن أذكر بعض ما أتابعه من أطروحات قيمة حول ذلك، مما يتناول أهم ما أصبح عليه وضع العمل الحركي الإسلامي.

جميع أصحاب الرؤى الذين سبق وجودهم زمنيا لحظة مشهد بوعزيزي التاريخية، وليس أصحاب الرؤى الإسلامية فقط، ينظرون إلى مسارات الثورات الشعبية ويقوّمونها بمنظور رؤاهم ومعاييرها. هذا ما يسري على العلماني والإسلامي، وعلى القومي والوطني، وما يتفرع عن جميع ذلك. ومن حق أي فريق حركي، إسلامي وغير إسلامي، أن يراجع نفسه ورؤاه ومنطلقاته، فيثبت تفاصيل ذلك أو يعدلها ويطورها ليؤثر تأثيرا أكبر في اتجاه “أهدافه” في المسارات الانسيابية الجارية، ولكن من الأفضل له ولاستمرارية وجوده مع الحدث التاريخي ومن بعده، ألا يغفل عن معايير جديدة أوجدها “الحدث الجديد” عبر ما طرأ من مستجدات ما مضى من أعوام على انطلاقته.

هذا مما يشير إليه مثلا أستاذ العلوم السياسية ورئيس تحرير موقع “إسلام أون لاين” سابقا هشام جعفر، في التعريف بكتابه “سردية الربيع العربي ورهانات الواقع” الصادر عن دار المرايا عام ٢٠٢١م، إذ يقول:

(هناك سردية جديدة لانتفاضات الربيع العربي تعلن نهايات صيغ القرن العشرين. وفي القلب منها دولة ما بعد الاستقلال والحركات السياسية الإسلامية والعلمانية التي استندت إلى “أيديولوجيات شمولية” وأننا بصدد صيغ جديدة لمّا تتمأسس بعد).

 

إن العمل الحركي الإسلامي مسؤول أكثر من سواه عن الارتفاع بنفسه إلى مستوى التفاعل مع المسارات التاريخية الجارية، ولهذا فهو مستهدف أكثر من سواه مع استهداف الإرادة الشعبية الثائرة من أجل التحرر والتغيير.

ويتطلب التركيز على الغرض من هذا الموضوع أن نتجاوز من طرح التغييرات “المطلوبة” من العمل الحركي مع رفض المنطلق الإسلامي للعمل أصلا، وتسميته “الإسلام السياسي” كمصطلح مختلف عليه ومستهلك فكريا وإعلاميا، ويوجد على هذه الصعيد كثير من الكتابات لا سيما في فرنسا، أما بالعربية فمثال ذلك ما نشره موقع العربي الجديد يوم ١٧ / ٧ / ٢٠١٨م بقلم محمد أبو رمان تحت عنوان “الحراك الإسلامي بعد الربيع العربي”.

إن حديث المراجعة والتقويم يعني فيما يعنيه النظر في عوامل القصور الذاتي ضمن العمل الحركي الإسلامي نفسه، إنما لا ينبغي تجاهل العوامل الخارجية أيضا، وهي بالغة الأهمية في مراجعة تقويمية لأوضاعه مع مرور العقد الأول على ربيع التغيير الثوري.

من ذلك ما يكشف عن تناقض واضح:

فقد كان الحرص على إعطاء الاتجاهات الأخرى مكان الصدارة في صناعة الحرية للشعوب، من وراء نفي وجود تأثير إسلامي على الثورات الشعبية وإنكار دور فاعل لتنظيمات العمل الحركي الإسلامي في تحريك تلك الثورات ناهيك عن توجيهها.

بالمقابل: اقترنت الجهود الإقليمية والدولية المضادة للتغيير وتحرير الإرادة الشعبية بحملات عدائية شرسة، وحملات فكرية وإعلامية متحاملة، ضد العمل الحركي الإسلامي أكثر من سواه، فكيف لا يتناقض ذلك مع اتهامه بالغياب أصلا عن ثورات تحرير إرادة الشعوب؟

إن الاهتمام بما يصنع العداء لا ينبغي أن يشغل عن الجانب الأهم منه، فمن السلبيات في واقع العمل الحركي  بعد العقد الأول لربيع الثورات الشعبية العربية هو ذلك الانفصام المتزايد في ساحات الفكر والعمل بين الجيل الذي نشأ في بداية ربيع الثورات وما زال يمثل الحاضنة الرئيسية لها وبين العمل الحركي الإسلامي بتنظيماته التاريخية وأساليبه التقليدية.

(١) إذا كانت مواكبة التطورات الجارية والمتسارعة بإحداث تطوير ذاتي على أدوات العمل والتغيير في عصرنا أمرا محتما في واقع المجتمعات والدول المستقرة نسبيا، فهي مفروضة عينيا على أدوات العمل والتغيير كالعمل الحركي الإسلامي وغيره في واقع مجتمعاتنا ودولنا غير المستقرة عموما.

(٢) في مقدمة ما يحتاج إليه العمل الإسلامي بغض النظر عن أشكال ممارساته الحركية وواجب تطويرها هو استعادة علاقة الثقة مع عموم الفئات الشعبية في المجتمعات العربية والإسلامية، في البلدان التي شهدت حراكا ثوريا متفاوت القوة والنتائج، وفي البلدان الأخرى على السواء. وهذا ما يتطلب تطوير الطرح العملي لا الفكري والنظري فحسب، ويتطلب تحقيق إنجازات مرئية وليس الحديث عن أهداف وغايات “جيدة” سواء القديم منها أو الجديد.

(٣) لا بد من ظهور قيادات جديدة في مواقع التقويم والتخطيط للعمل وفي مواقع صناعة القرار وتنفيذه، وهذا بغض النظر عن تسجيل إيجابيات أو سلبيات في تقويم إنجازات القيادات الحالية أو قصورها، فتجدد القيادات شرط لا غنى عنه لمواكبة المتغيرات مثل ما يصنعه ربيع الثورات الشعبية في مختلف الميادين الفكرية والاجتماعية والعمرانية، وهذا ما لا يقتصر على سقوط أنظمة وقيام أخرى، بل يشمل مجموع البنية الهيكلية للمجتمعات والدول.

(٤) لا غنى عن بذل جهود قصوى وعاجلة في ميدان التغيير الضروري للبنية الهيكلية للعمل الحركي، وفق رؤى حديثة تعتمد التشبيك مكان التنظيم وتجمع بينهما في حالات التعاون العلمي التخصصي، وتعتمد التكامل بين الإنجازات مع سلوك طرق التخصص في تحقيقها، وتعتمد التقنيات الحديثة في مختلف الميادين.

(٥) لا يتحقق شيء مما سبق دون اعتماد طرق التأهيل والإعداد والتدريب إلى جانب اتباع الطرق الحديثة في التعليم والتربية، وتطبيق منهجية التخطيط والاختبار والتقويم، ومع المواءمة بين أحدث ما وصلت إليه المجتمعات الحديثة على هذا الصعيد وبين منظومة القيم الذاتية العقدية القويمة والحضارية الإنسانية، وهذا ما نعرفه عن الإسلام كما أنزله الله عز وجل لخير جنس الإنسان في دنياه وفتح أبواب الخير له في آخرته.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب