حظر انتشار السلاح النووي في الميزان

من سياسات الردع النووي إلى سياسات الإرهاب النووي

رؤية تحليلية – بين عالم دون سلاح نووي وواقع احتكار السلاح النووي

0 33

رؤية تحليلية

الردع النووي المتبادل هو المبدأ الذي حال دون تحوّل الحرب الباردة إلى حرب ساخنة ضارية لا تبقي ولا تذر، وعلى خلفية هذه المعطيات كان عقد معاهدة حظر انتشار السلاح النووي عام ١٩٧٠م، التي قامت على دعامتين اثنتين متكاملتين، أن تتعهد الدول غير النووية التي صادقت عليها بعدم تسلحها نوويا وأن تتعهد الدول النووية الكبرى بتفكيك أسلحتها النووية لتكون الحصيلة عالما خاليا من التسلح النووي.

 

المعاهدة بمنظور تاريخي – المعاهدة بمنظور الحاضر الراهن – المعاهدة بمنظور مستقبلي

 

المعاهدة بمنظور تاريخي

عُقدت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية عام ١٩٧٠م، وكان العالم آنذاك غيره اليوم، ولا غنى عن النظرة التاريخية لها دون الاستغراق في التفاصيل فتكفي العناوين العريضة حول نشأة المعاهدة، وأهم ما شهدته من تطور نوعي، وكيف جرى توظيفها على خارطة الأوضاع الدولية.

١- منذ١٩٤٥م ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، انتشر في توصيف الأزمة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، تعبير الحرب الباردة، وقد شهدت نقلة نوعية سنة ١٩٧٠م، عندما بلغ سباق التسلح ذروته، وظهرت ضرورات الحدّ منه، وعقدت بالفعل أولى المعاهدات بهذا الصدد عام ١٩٧٢م، واقترنت بالجهود الأولى في اتجاه الانفراج بين المعسكرين، فكان توقيع وثيقة هيلسنكي الختامية لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا عام ١٩٧٥م، بالإضافة إلى إنهاء ما سمّي الحصار الغربي للصين الشعبية الشيوعية، فأخذت مكانها في مجلس الأمن الدولي مكان فرموزا التي كان يُطلق عليها اسم الصين الوطنية، وبدأ طَرح توازن التسلح والردع المتبادل، مكان سباق التسلح والضربة النووية الانتقامية.

٢- في تلك الأجواء الأولية دوليا، وجدت الدول النووية الرسمية الخمس آنذاك، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وفرنسا وبريطانيا والصين الشعبية، أن الحد من التسلح من خلال اتفاقات تُعقد بينها، لا سيما بين الدولتين الأكبر تسلحا، قد يوصل -يوما ما- إلى مفاجأة، إذا سعت دول أخرى سواها إلى امتلاك السلاح النووي، دون وجود أي التزام عليها، بموازاة الالتزامات التي يُنتظر أن تترتب على الدول النووية عبر اتفاقاتها الثنائية، بعد أن بلغ سباق التسلح بينها مداه الأقصى، تمويليا على الأقل.

٣- يتبين مما سبق كما يبين عنوان المعاهدة: (حظر انتشار…) أن الهدف الأول منها كان حظر امتلاك دول أخرى للسلاح النووي، أي تبرير ما يمكن تسميته بالمقابل احتكار الدول الخمس لهذا السلاح، ولم يكن يوجد في حقبة الحرب الباردة ما يرغم الدول التي لا تملك السلاح النووي على التعهد بعدم امتلاكه مستقبلا أيضا، ما دام سواها يمتلكه ويطوره ويهدد باستخدامه. فكان ثمن التزامها بعدم السعي لامتلاكه هو وجود مواد في نص معاهدة ١٩٧٠م، تلتزم الدول النووية الخمس بموجبها، بالعمل على تفكيك أسلحتها النووية وإتلافها.

٤- ليس صحيحا الانطباع الذي نشر لاحقا، أن هذا التعهد كان دون سقف زمني، إنما يوجد نوع من التحايل لذلك، فمعاهدة ١٩٧٠م كان تنص على سريان مفعولها لمدة ٢٥ عاما فقط، وبالتالي لا يمكن منطقيا اعتبار الالتزامات الواردة فيها مفتوحة زمنيا. كما يُلاحظ أنه يسري عليها ما يسري على المواثيق الدولية، التي لا تُلزم دولة بالمضمون إلا إذا وقعت على النص، ثم صادقت عليه وفق ما يقضي به دستورها. ولا يوجد على أي حال ما يلزم الدول غير النووية بالاستمرار على تطبيق التزاماتها بموجب النص، إذا امتنعت الدول النووية عن تطبيق التزاماتها أيضا، وكان الحد الأقصى لذلك هو ٢٥ عاما.

٥- المعاهدات التي عقدتها الدول النووية كانت تركز على حماية بعضها من بعضها الآخر، مقابل استمرار المساعي للحيلولة دون نشأة تسلح رادع لدى سواها، كما أن جميع ما تقرر تحت عنوان الحدّ من التسلح، بقي في نطاق ما يمكّن من الاستمرار في التطوير النوعي الذي يعوض عن الجانب الكمي، وحتى الآن لا توجد بادرة جادة واحدة لاتخاذ خطوة حاسمة لإتلاف المخزون النووي، الذي يكفي لتدمير الأرض مرات عديدة.

٦- انعقد مؤتمر عام ١٩٩٥م لتجديد المعاهدة، بعد أن انتهت الحرب الباردة، وازداد تلاقي مصالح الدول النووية على احتكار أسلحة الدمار الشامل، وهذا ما جعل المطلب الرئيسي من جانبها هو تمديد المعاهدة إلى أجل غير مسمى، مع تجديد التعهد بالحدّ من التسلح من جانبها، ولكن دون فترة زمنية محددة لذلك، وليس صحيحا أن التسلح النووي الهندي والباكستاني أصبح مشكلة فيما بعد، فتسلح الدولتين بقي ضمن نطاق قاعدة الردع المتبادل إقليميا، إنما أصبح التسلح النووي الإسرائيلي هو المشكلة، لعدم سريان مفعول هذه القاعدة عليه، ولهذا كان ما حصلت عليه الدول العربية واعتُبر الثمن من أجل موافقتها على الالتزام بالمعاهدة الدولية بصيغتها الجديدة، هو التعهد بما سمي إخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي.

٧- مضى على ذلك التعهّد ما مضى من الزمن دون خطوة تطبيقية واحدة.

 

المعاهدة بمنظور الحاضر الراهن

لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان:

١- أن المعاهدة استُخدمت لغزو العراق عسكريا وتدمير طاقات النهوض فيه، مع اقتران ذلك بالكذب رسميا، وانتهاك القانون الدولي علنا، وتحويل الغزو إلى مدخل لنشر الفوضى الهدامة إقليميا، وإعطاء الفرصة لإطالة بقاء الوجود الإسرائيلي بفلسطين حقبة زمنية أخرى.

٢- أن الأبواب ما زالت مفتوحة لتوظيف المعاهدة بأسلوب مشابه أو أسلوب آخر لتحقيق أهداف ما، سواء سميت هيمنة، أو احتلالا، أو لمنع انتشار تقنية الصناعة النووية السلمية وليس انتشار التسلح النووي فقط.

٣- أن العنصر الحقيقي لصناعة الحدث على أرضية الواقع الدولي، هو عنصر موازين القوى، بما في ذلك مسائل الردع المتبادل، والعدوان، والمقاومة، وامتلاك أسباب القوة، عسكريا واقتصاديا وفي مختلف الميادين الأخرى.

٤- أن موازين القوى لا تتبدل من تلقاء نفسها، بل من خلال السعي لتبديلها، ولا يعني ذلك أنها قابلة للتحول السريع من أوضاع خلل كبير بسبب هوّة فوارق هائلة، إلى زوال هذا الخلل كلية، إنما تعرف العلوم العسكرية نظريا وتطبيقيا، ما يُسمى الحدّ الأدنى من الردع، الذي يجعل العدو لا يغامر بعدوان قد يسبب له خسائر موجعة، وبهذا المنظور يتحول كل قيد ذاتي يقبل الطرف الأضعف به، إلى قيد تأبيدي لذلك الضعف، وهذا بالذات ما يسري عن طريق الالتزام بهذه المعاهدة، ثم تجديده دون سقف زمني، رغم توظيفها لغير أغراضها كما بينت حالة العراق؛ أي يسري على أوضاع الدول غير النووية عموما، والمستهدفة منها أكثر من سواها بالهيمنة الدولية أي الدول العربية والإسلامية تخصيصا.

يضاف إلى ما سبق:

١- للردع المتبادل بين الهند وباكستان مفعوله لاستبعاد الحديث عن تسلحهما النووي بمنظور المعاهدة التي لم تنضم الدولتان إليها، مع عدم إغفال وجود جهود دولية لترجيح كفة الهند على باكستان في التعامل على مختلف الأصعدة وليس على صعيد التسلح النووي فقط.

٢- كما يمكن استبعاد الحديث عن حالة كوريا الشمالية، نظرا إلى أن مصالح الصين الشعبية الذاتية في موازين القوى إقليميا ودوليا تدفع الصين إلى الحرص المتواصل على تخفيف الضغوط الغربية عن كوريا الشمالية، ناهيك عن تعريضها لخطر حقيقي بسبب تسلحها.

٣- لا يسري شيء من ذلك على حالة إيران، فبغض النظر عن الحملات والحملات المضادة بشأن دورها الإقليمي العدواني، وخطرها أو عدم خطرها على منطقة الخليج، يعطي التعامل الدولي مع ملفها النووي مثالا نموذجيا على أن الهدف من المعاهدة لا يقتصر فقط على منع انتشار التسلح، إنما يشمل أيضا احتكار التطور التقني الذاتي أو ما يسمى دائرة الإنتاج الكاملة للوقود النووي في صناعة الطاقة، بحيث تبقى الدول المتقدمة وحدها مصدر تزويد الدول الأخرى بالوقود النووي، وبالتالي احتكار تأمين الطاقة النووية مستقبلا.

٤- أما الحالة الإسرائيلية فتشمل العنصرين معا، عسكريا وتقنيا، وتمثل خطرا على الأمن الإقليمي، العربي والإسلامي، وليس هذا خطرا نظريا فقط، فتصعيد خرق القوانين الدولية والإنسانية، دون محاسبة أو عقوبة عبر مذابح اغتصاب وتهويد وهجمات عدوانية وأسلحة محرمة وحصار إجرامي بمنزلة إبادة شعب إبادة بطيئة، إلى القرصنة المباشرة في التعامل مع مدنيين يعملون لكسر الحصار؛ هذا التصعيد دون ردود فعل يمكن أن يصل في لحظة تاريخية ما إلى ارتكاب جريمة نووية، لا يقلّ مفعولها عما عرفه التاريخ الحديث في هيروشيما وناجازاكي.

 

المعاهدة بمنظور مستقبلي

على صعيد التعامل مع موازين القوى، العسكرية وغيرها، لم تعرف البشرية قديما، ولا عرفت في العصر المتنور الحديث شيئا يمكن أن يدفع أي خطر خارجي، بصورة فعالة، سوى ما يدخل تحت عناوين التوازن العسكري أو الردع المتبادل أو الردع الجزئي، على المستويات الرسمية، أو المقاومة عند انهيار المستويات الرسمية أو عجزها.

وعلى خلفية ما سبق يمكن القول:

١- إن الوعد الصادر عن الدول النووية التقليدية بأن تسعى للحد من تسلحها، لا يختلف عن الوعد القديم الصادر عنها منذ سنة ١٩٧٠م وكلمة سريعا الجديدة في معاهدة نيويورك ٢٠١٠م لا تعوض قطعا عن الالتزام بمخطط زمني، أو على الأقل بمرحلة أولى من مخطط زمني، ولو بقيت مراحله التالية مفتوحة إلى مواعيد المراجعة التالية للمعاهدة نفسها.

٢- تجديد الدعوة إلى العمل لإخلاء ما يسمى الشرق الأوسط من السلاح النووي، لم يبدل قيد أنملة من الواقع القائم أو أسلوب التعامل معه عبر العقود الماضية، فالطرف الإسرائيلي المقصود يعلن عدم التزامه مسبقا، ولن يستجيب للدعوة إلى الانضمام إلى معاهدة الحظر، فلا يوجد من يمارس ضغوطا حقيقية في هذا الاتجاه، بل أعلن عبر التصريحات الأمريكية والأوروبية على أكثر من مستوى بأنه لا يُنتظر تحقيق شيء لإخلاء المنطقة من السلاح النووي قبل تحقيق السلام الشامل في المنطقة، وليس مجهولا أنه قد مضى على النكبة الأولى زهاء قرن، وهي أطول عمرا من معاهدة حظر انتشار السلاح النووي نفسها، هذا علاوة على غياب الضغوط على المستوى الإقليمي، وهنا لا توجد حاجة إلى تقديم الأدلة على الحصيلة المنتظرة، فقد باتت مشهودة ومؤلمة بصورة متوالية متجددة.

وأستودعكم الله وأستودعه مستقبل البشرية ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب