عصام العطار سيرة ومسيرة بين سورية وألمانيا

كلمة عن بعد في ندوة عصام العطار رحمه الله

بمشاركة عدد من العلماء والدعاة، وإدارة صلاح الدين أرقة دان من مؤسسة بصر

0 34
١٢:٢٥ دقيقة
هذا تسجيل صوتي للكلمة التي ألقيت بديلا عن التسجيل المرئي الأصلي الذي أصابه التلف للأسف

بسم الله والصلاة على رسول الله والسلام عليكم ورحمة الله وبعد،

فليس سهلا اختيار زاوية للحديث حول قامة سامقة كعصام العطار رحمه الله، وأزعم أن المعايشة المباشرة حوالي خمسين عاما، تسبب الحيرة، من أين يبدأ الحديث، ثم هل يمكن أن ينتهي بعد أداء المطلوب، وسيان أي جانب يقع الاختيار عليه، يبقى الإيجاز مطلوبا حسب الوقت المقرر، وأرجو ألا يكون في الإيجاز شيء من الاختزال.  

وإذ تتعدد زوايا الحديث في هذه الندوة تحت عنوان سيرة ومسيرة التي دعت إليها مؤسسة بصر مشكورة، فاسمحوا لي أن أتحدث بمقارنة محدودة بين بعض جوانب نهج الراحل عندما كان في سورية وبعض جوانب نهجه لاحقا بعد أن استقر به المقام في ألمانيا، مع البقاء في حدود التعميم بعيدا عن متطلبات بحث محكم أو طرح نقدي متعمق، وليس هذا مطلوبا أصلا في هذه الندوة فأكتفي بتعداد خطوط عريضة ضمن هذه الكلمة الموجزة أو الدردشة العابرة.

* * *

الواقع أنه توجد جوانب مشتركة بين النهجين أو توجد ثوابت في النهج بغض النظر عن المكان والظروف، وهي مما أعتبره سبب الارتباط به بغض النظر عن التفاصيل المتبدلة بطبيعتها، وهي سبب اعتباره أستاذي الجليل كما أتحدث عنه أو أكتب على امتداد نصف قرن، وتتلخص الثوابت في بضع عبارات كان يرددها ويطبقها:

١- يجب أن يبدأ في أنفسنا التحول، وله في ذلك مقالة تؤكد أن من يحمل هدف التغيير يبدأ بنفسه فردا كان أو جماعة، لا سيما عندما يطرح في نهجه ما يفتح أبواب التغيير على المستوى القيمي والإنساني والحضاري للأسرة البشرية عموما.

٢- لا يوجد أصغر من أن يعلّم ولا أكبر من أن يتعلّم، وهذا في صلب التفاعل بين جيلين جيل يوشك على الرحيل فيؤخذ منه ويترك وهو يتعلم ويعلم، وجيل المستقبل من الشباب والشابات، فهو يتحرك بطاقات كبيرة في ظروف مستجدة، فيقتدي بمن سبقه متعلما على بصيرة ويبدع معلّما لسواه فيستفيد منه من سبقه ومن يلحق به.

٣-  مبادئ وأسس ثابتة للعمل الجماعي تحت عنوان إسلامي، وهي:

الإسلام هو الأصل والحركات كلها وسائل

الأخوّة في الإسلام لا التنظيم

نحن جماعة من المسلمين وليس جماعة المسلمين

التعاون من أوجب الواجبات

* * *

فيما عدا ذاك مما لم يتغير منذ بداية تحركه في سورية حتى وفاته، أنطلق أولا من أن سورية أيام وجوده فيها قد عايشت كبلدان عربية وإسلامية أخرى موجة من الحماسة الوطنية والعروبية فبلغت أوجها، على أرضية ما بعد انسحاب الاستعمار عسكريا ومع بداية خلط الأوراق سياسيا واجتماعيا.

أما ألمانيا عند استقراره رحمه الله فيها فكانت تشهد كبلدان أوروبية أخرى فترة صراع بين الوافدين على حسب تدافع الاتجاهات القومية والوطنية، العلمانية في الدرجة الأولى، بينما لم يكن للعمل الإسلامي، العام والحركي، دور كبير إذ لم يكن قد وقف في أوروبا على قدميه بعد، ربما باستثناء بريطانيا، كما أن ما عُرف بالصحوة الإسلامية، لا سيما الشبابية لم يكن قد انتشر بعد، ولم تكن قد انتشرت أيضا ظاهرة العداء المرضي أو ما يسمى الرهاب من الإسلام أو ظاهرة إسلاموفوبيا، بالمقابل يوجد قدر أكبر من حرية العمل فيها بالمقارنة مع معظم بلادنا العربية والإسلامية، كما تتوافر فرص أوسع للاحتكاك بالفكر الآخر والتفاعل الإيجابي معه، بالمعنى الحضاري والثقافي والفكري. وهو ما حمل اجتماعيا عنوان الاندماج الإيجابي دون ذوبان مقومات التميز ذاتيا.

وكان لعمل عصام العطار ممارسةً وتوجيها نصيبه فيما تغير من أوضاع الوجود الإسلامي في سورية وفق معطيات خاصة بسورية وإلى جانبها المنطقة العربية والإسلامية، وكذلك في ألمانيا وعلى امتداد الجغرافية الأوروبية، ولكن وفق معطيات أخرى.

يبدو أن هذا الاختلاف بين المعطيات لعب دوره ليكون نهج عمل عصام العطار ومن معه في سورية يرتكز إلى الجانب التنظيمي التقليدي وإلى الانفتاح المتوازن ضمن عمل شعبي بقواعد عريضة.

أما نهج عمله ومن معه في ألمانيا فكان يرتكز على تكوين الأفراد والأسر المسلمة ويتضمن استقطاب جيل الشباب ويقوم على أرضية ثقافية اعتمدت التميز اجتماعيا لترسيخ القيم والأخلاق بالضرورة، ثم الانفتاح إيجابيا بما يحقق تلاقح الثقافات والحد من مفعول الحدود السياسية والجغرافية بالتدريج.

*  *  *

إن ما وقع من متغيرات في سورية معروف ولا يعزى بالضرورة لنهج العطار وحده، أي ما هو موضع الحديث هنا؛ وكان قد انطلق عمله من جمعية شباب محمد ثم الإسهام في تشكيل جماعة الإخوان المسلمين، ثم التحرك مع عموم التيار الإسلامي على أرضية خطب الجمعة في مسجد جامعة دمشق، والتحرك شعبيا واجتماعيا وتنظيميا بأنشطة متعددة الوجوه، ثم التحرك سياسيا من خلال العمل النيابي، عندما توافرت شروط مناسبة بحد أدنى يبيح خوض غمار المشاركة المباشرة سياسيا.  

أما في ألمانيا فقد انطلق العمل من الصفر فبدأ بندوة شهرية دعا إليها العطار واستجاب في البداية عشرات من المقيمين في آخن وحولها، ثم توسعت وتطورت حتى أصبحت تستقطب الألوف من أنحاء أوروبا، وأضيفت إليها لقاءات مناطقية، ومؤتمرات سنوية، مع دعم تأسيس الجمعيات الطلابية والعمالية، والتواصل عبر الحدود لا سيما مع نشأة اتحادي الطلبة المسلمين والعمال المسلمين في أوروبا.

في البداية تركز الهدف المحوري في هذه الشبكة من الأنشطة على تكوين الأفراد والأسر، ورفع مستويات المعرفة والوعي والثقافة، إسلاميا مع انفتاح ثقافي في نطاق الممكن. وشمل هذا النهج الاهتمام بما تعرضت له البلاد العربية والإسلامية من أشكال العداء الأجنبي، كما كان في فلسطين وكشمير والشاشان وأفغانستان والعراق والصومال وغيرها، فتجسد هذا الاهتمام بالمواقف السياسية أحيانا وبالفعاليات الفكرية والدعوية والإغاثية غالبا، بالإضافة إلى إصدارات مكتوبة وتسجيلية.

كما تحقق محور الانفتاح من هذا النهج عبر خطوات عديدة منها على المستوى الإسلامي باستضافة علماء ودعاة من مختلف الاتجاهات والتخصصات، ليتعرف الشباب عليهم مباشرة، فكان منهم علي الطنطاوي، ومحمد قطب، ومالك بن نبي، وناصر الدين الألباني، ومحمد لطفي الصباغ، ومحمود شاكر، ومحمد أديب الصالح، وأحمد صدقي الدجاني رحمهم الله جميعا.

لقد أصبحت الصحوة الشبابية الإسلامية مرئية على كل صعيد، وكمثال على حجم المتغيرات وإسهامه بقسط كبير منها، أذكر من مدينة بون التي أتيت إليها بقصد الدراسة: كان فيها وفي ضواحيها حوالي بضعة عشر ألفا من المسلمين الوافدين على أرجح التقديرات، ولكن لم يكن يوجد سوى مكان واحد يصلي الجمعة فيه بضع عشرات من العمال الوافدين الأتراك، وتلقى الخطبة باللغة التركية، ثم نشأ عبر الطلبة الوافدين مصلى آخر يلتقي على صلاة الجمعة بالعربية فيه بضعة عشر شخصا. للمقارنة يوجد في بون حاليا أكثر من خمسة عشر مسجدا ومصلى، يصل تعداد مصلي الجمعة فيها إلى بضعة عشر ألفا، وتلقى الخطب فيها باللغات العربية والتركية والألمانية والبوسنية والألبانية.

مثال آخر ساهم في ازدياد إقبال جيل الشبيبة من الألمان على اعتناق الإسلام، إصدار أكثر من كتاب ونشرة باللغة الألمانية في آخن، وتأسيس مركز ثقافي في بون مع إصدار نشرة بالألمانية باسمه، وقد كان المنطلقَ لنشأة رابطة المسلمين الناطقين بالألمانية عبر اجتماع تأسيسي قرب بون.

جميع ذلك يرتبط عموما بانفتاح أوسع نطاقا على ثقافات الآخر، وقد تميز بذلك عصام العطار بوضوح، حتى أنه تعلم اللغة الألمانية بجهد فردي وهو في السبعينات من العمر، فقرأ العديد من أمهات الكتب الألمانية، بعد أن كانت الفرنسية هي اللغة التي يتقنها من اللغات الأجنبية، بل بلغ باللغة الألمانية مستوى جيدا حتى أنه ألقى كلمة تضمنت عددا من الاستشهادات من عيون اتجاهات الأدب الألماني، وكانت الاستشهادات عن التواصل والتعارف عبر حدود الانتماءات والتوجهات، ففاجأ بذلك الضيوف من مسؤولين ألمان يوم احتفال دُعوا إليه لتكريمه عندما سلّم

إدارة المركز الإسلامي في آخن لمن أتى من بعده عبر الانتخابات.

* * *

كما ذكرت.. هذه دردشة موجزة حول نهج العطار وبعض وسائله في سورية، ونهجه وبعض وسائله مع أثر ذلك النهج في ألمانيا، وفي الحالتين كان مبدعا ومثابرا على تطبيق ما يراه، وإذا أردنا أن نستخرج من ذلك وصية لجيل الشباب فهي المعرفة التي تستوعب الواقع وظروفه وتنفتح على الآخر فيه وعلى الآفاق الواسعة في عالمنا وعصرنا، ثم إبداع وسائل جديدة ومتجددة باستمرار لتحقيق أهداف كبيرة، مع المثابرة على العمل حتى تتحقق النتائج، وذاك أبرز ما في نهجه في العمل، رحمه الله وأجزل له العطاء في جنة الخلد.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب